تكليف العقول.. درس من دروس الحج

أ.د/ عبد الرحمن البر

أ.د/ عبد الرحمن البر

عميد كلية أصول الدين بالمنصورة

وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين

وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

في عيد الأضحى وفي يوم النحر يتذكر المسلمون أباهم إبراهيم الذي سماهم المسلمين ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾، والذي قدم صورة نموذجية لمعنى الإسلام القائم على الاستسلام لأمر الله، يقينا منه بأن الخير كله والعز كله في التسليم المطلق لمن له الخلق والأمر ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

إن إبراهيم لم يستسلم بلسانه، بل بكل كيانه، فحين أمره الله أن يأخذ ولده وزوجه إلى أرض صحراء لا أثر فيها لبشر ولا سبب فيها لحياة لم يراجع في الأمر، بل نفَّذ الأمرَ الغريب مستيقناً أن الخير كله في ذلك، فسار بهاجر وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وتركهما حيث أمره الله، ثم دعا ربه ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾، وقد كانت هاجر على نفس المستوى من اليقين حين َقَالَتْ لَهُ: آللهُ الَّذِى أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذًا لاَ يُضَيِّعُنَا.

وها هو الوادي المُقْفر يصير ببركة الاستجابة لأمر الله ﴿حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾.

ثم استسلم إبراهيم وإسماعيل لأمر الله حين جاءه الوحي في المنام بأغرب مما سبق، حين بَلَغَ معه إسماعيل ﴿السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ ورفضا الاستجابة لوسوسة الشيطان بل قذفاه بالحصى، فكانت نتيجة الإذعان المطلق لأمر الله خيرا وبركة عليهما في الدنيا والآخرة ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾.

ثم استسلم حين جاءه الأمر برفع القواعد من البيت في قلب الصحراء والنداء في الناس بالحج، وهو يعلم أنه لن يسمعه أحد، لكنه التسليم لحكم الله واليقين بحكمته البالغة ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، وها هي الوفود العاشقة تَفِد بالملايين إلى البيت العتيق من كل فج عميق إلى ما شاء الله.

إنه درس التكليف العقلي الذي قدمه للبشرية إبراهيم وهاجر وإسماعيل، حين ملأهم اليقين بأن الحكيم سبحانه لا يأمر بشيء عبثاً، ولا ينهى عن شيء إلا لحكمة، ولا يقضي بشيءٍ إلا لمصلحة الخلق، علم الناسُ ذلك أو جهلوه ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وها هم الحجاج يتلقون هذا الدرسَ ويمارسون هذا التكليف العقلي حين يمارسون شعائر الحج العظيمة بمنتهى الرضا والاستسلام، من غير أن يبحثوا عن علل الطواف أو السعي أو الوقوف بعرفات أو المبيت بمزدلفة أو رمي الجمرات أو نحر النحائر، وحين يرفضون السماع لأولياء الشيطان الذين لا يكفون عن التشكيك في جدوى هذه الشعائر التي لا يفقهون لها علة ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾.

الخير كله في الشريعة الإسلامية:

فهل يعي المسلمون وهم يتأملون هذه المشاهد الكريمة هذا الدرس، فيدركون أن الخير كله والعز كله والمصلحة كلها في التسليم لشريعة الله؟ وأن الذين يجادلون في تطبيق شريعة الله ما يدفعهم إلى ذلك إلا سفه وجهل بحكمة الحكيم الخبير، وما يحركهم إلى الرفض إلا شبهات عقلية ضعيفة ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، وليس في أيديهم من المنطق السليم شيء، بل زخارف من القول يتبادلونها فيما بينهم ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾، أما شريعة الإسلام العظيم فعدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها، ولئن رأى البعض في شيء منها جانبا من الشدة فإنما هي من باب حماية الأمة من السقوط، كشأن الدواء الذي قد يكون بعضه مرا لكن في تناوله حصول العافية، وهل ترى أوضح وأنجح من قول الله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا. وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا. وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾.

فإذا صورت العقول القاصرة لأصحابها أن ثمة تشريعا إلهيا تستعظمه العقول فإن القلوب الزكية المؤمنة توقن بأن الخير كله في الاستجابة لهذا التشريع الصادر من لدن حكيم خبير، وقد رأينا إبراهيم عليه السلام يسلم لأمر ربه بقتل ولده وإخراجه من داره، فكان ماذا؟ ورأينا من بعده أم موسى وهي تستجيب للتكليف العجيب بأن تلقي ولدها في اليم إذا خافت عليه، فكان ماذا؟ كان أن تربى على عين فرعون وفي قصره، بل وأخذت أمه الأجرة من فرعون على إرضاعه ورعايته ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

إن شريعة الإسلام تعمل أول ما تعمل على بناء الإنسان صاحب الضمير الحي اليقظ، والقلب المؤمن الموصول بالله، والعقل الذكي الذي يحدد مجالات عمله بدقة، والذي ينظر إلى التكليف الإلهي باعتباره غير قابل للمجادلة والدحض بالباطل أو المراوغة والاحتيال، بل يرى فيه المصلحة الكاملة حتى لو خفيت عليه بعض وجوه تلك المصلحة، وبذلك يجمع بين خيري الدنيا وخير والآخرة.

وأدعوك أيها القارئ الكريم أن تتأمل معي هذه الصورة الرائعة، للمسلم الذي قبل شريعة ربه، إذا جاء وقت الصلاة أقبل عليها وترك زينة الحياة، فإذا فرغ منها ونال حظه من زاد الروح خرج ساعيا في الأرض على هدي من الله مستصحبا ذكر الله، فيستعمر الأرض باسم الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، فخبروني بالله عليكم كيف سيكون أداء هذا الإنسان الذي يتلقى زاد الخير خمس مرات في اليوم والموعظة الكريمة مرة على الأقل كل أسبوع، ثم ينطلق يضرب في الأرض ذاكرا لله؟ كيف سيؤدي عمله إن كان رئيسا أو وزيرا أو ضابطا أو عالما أو صانعا أو زارعا أو مهندسا أو مدرسا أو طبيبا أو كائنا ما كان عمله؟ وكيف ستكون حال الدنيا عندئذ؟.

لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الشريعة إلى جماعة من بدو الصحراء، فنقلهم بها إلى مصاف العلماء، وزكى بهذه الشريعة قوما من رعاة الغنم فصيرهم قادة للأمم، وبسط معاني هذه الشريعة في قوم من المتخلفين فأقام بهم حضارة عاقلة راشدة، وصنع منهم جيلا كان زينة الدنيا وبهجة الحياة

ولا تزال هذه الشريعة المباركة على حالها قادرة على صياغة الإنسان الذي يبني الحضارة ويقيم النهضة ويبعث القيم الفاضلة في حياة الناس، وعلى الأمة أن تدرك قيمة الكنز الذي وضعه الله في يدها حين أنزل عليها هذا الدين ووضع لها هذه الشريعة، وأنزل عليها يوم عرفة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.

والأمة اليوم في مرحلة فاصلة من تاريخها، تتجاذبها مشروعات كثيرة يدعي حملتها أنهم يبغون مصلحة الأمة، وعلى الأمة أن تكون واعية بأن مصلحتها في التجاوب مع الشريعة الغراء، والتعاون مع حملتها والداعين إليها والمتخذين إياها مرجعية أساسية لمشروعهم الإصلاحي الوسطي المعتدل المتكامل، وعليها ألا تنخدع عن شريعتها بزخارف من القول وتلبيسات وتدليسات ممن لا يعرفون قيمة الشريعة ولا يدركون ما تحققه من آثار إيجابية على الفرد والأمة في الحال والمآل.