من نفحات عيد الأضحى المبارك
التسليم المطلق لله
أ.د/
جابر قميحةتهل علينا أيام عيد الأضحى المبارك لتذكرنا بقصة إسماعيل الذبيح (عليه السلام)، وخلاصة القصة أن إبراهيم - خليل الله - رأى فى المنام أنه أُمر بذبح ابنه إسماعيل (عليهما السلام)، وكانت المنامات عند الأنبياء والرسل نوعًا من الوحى، صدع إبراهيم بالأمر، وعَرَضَ الأمر على ولده، فأبدى رضاءه بأمر الله، وتسليمه له، وشجَّع أباه على أن يحقق منامه، فلما همّ إبراهيم بذبح ابنه، رأى المُدْيَة تهوى على كبش عظيم ساقه الله فداءً لإسماعيل، وفى الآيات التالية من سورة الصافات وردت القصة:
{وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين. رب هب لى من الصالحين. فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعى قال يابنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتَلَّهُ للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه فى الآخِرين. سلام على إبراهيم. كذلك نجزى المحسنين} [الصافات:99-110].
وهذه القصة التى ستظل خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تقودنا إلى عدد من القيم الإيمانية الإنسانية، التى يجب أن يتحلى بها المؤمن، وأهمها وأجلّها «التسليم المطلق لله»، وهى صفة لا تتحقق إلا بتحقيق تكاليفها التى تشتد وتعلو، بعلو مقام النبوة وجلالها، ومعنى «التسليم» فى هذا السياق - كما جاء فى لسان العرب - بذل الرضا بالحُكْم، أو الانقياد التام بلا معارضة..
وعرّفه على بن محمد الجرجانى فى كتابه «التعريفات» بأنه: «الانقياد لأمر الله تعالى، وترك الاعتراض فيما لا يلائم»، وعرفه كذلك بأنه: «الثبوت عند نزول البلاء، واستقبال القضاء بالرضاء»، وهذا ظاهر فى قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شَجَرَ بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجًا مما قضيت ويُسلِّموا تسليمًا} [النساء:65].
وهذا يعنى أن التسليم صفة نفسية، ولكنها لا توجد إلا مبنية أو مترتبة على واقعة - أو وقائع - يكون للإنسان تجاهها موقف مصحوب بشعور معين، وهذه المقولة يوضحها المثال التالى من حياتنا اليومية:
1 - تاجر يَعْرِض سلعة معينة (واقعة).
2 - مواطن يرى السلعة فيشتريها (موقف).
3 - الشراء تم برضاء المشترى، واقتناعه التام بجدواها وحاجته إليها، ومعقولية سعرها (تسليم).
ولكن عنصر «التسليم» يتخلف إذا ما تم شراء السلعة تحت وطأة ضرورة، أو إكراه على عيب فيها أو ارتفاع سعرها.
**********
وفي قصة الذبيح إسماعيل - كما عَرَضَها القرآن الكريم - نرى سمة «التسليم المطلق» متوافرة - بأجلّ صورها - فى الشخصيتين المحوريتين: إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام):
أولاً - الأب: إبراهيم (عليه السلام):
لقد لاقى من قومه ما لاقى، وهو الآن فى غربته الحادة يحتاج إلى ولد يؤنسه، ويُعينه فى شيخوخته، فيدعو الله أن يرزقه بابن صالح، فاستجاب الله لدعوته، ورزقه بابن صالح تقى نقى يصبر على الشدائد، وبلغ الابن السعي أي القدرة التى تمكنه من مصاحبة أبيه، ومساعدته فى واقع الحياة.
رأى إبراهيم (عليه السلام) فى المنام أنه يذبح ابنه الوحيد إسماعيل، ورؤيا الأنبياء نوع من الوحى، فَسَلَّم بما رأى تسليمًا مطلقًا، وعلى وجه السرعة كان هذا التسليم، فلم تغلبه عاطفة الأبوة، ولم يقل ما قال نوح (عليه السلام): {إن ابنى من أهلى}، ولم تأخذه خالجة من تردد، ولم يفكر فى أن إسماعيل هو ولده الوحيد، وأنه مؤنسه فى وحشته، وأنه مساعده ومعينه فى شيخوخته، وأن إسماعيل فى الثالثة عشرة من عمره، سن التفتح للشباب والحياة.
ويوحى بسرعة استجابته لربه أن المنام - فى السياقة القرآنية - لم يرد بطريقة الحكاية على النسق التالي {فلما بلغ معه السعى (رأى فى المنام أنه يذبحه) قال يا بنى إنى أرى...}.
ولكنه جاء بطريقة الرواية أو الحوار المباشر {يا بنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك}، وجاء تأكيد مصداقية هذا المنام بمؤكدين على لسان إبراهيم (عليه السلام) هما:
أ - «إنَّ»، «أنَّ» مضافتين إلى ضمير المتكلم «إنى أرى ... أنى أذبحك».
ب - الفعل المضارع (أرى) مع أن المنام - من الناحية الزمنية، تم وانتهى (... أرى فى المنام)، فالأصل أن يستعمل الفعل الماضى (رأيت)، ولكن المضارع يستخدم بديلاً للماضى للاستدعاء والاستحضار، لأهمية المستحضر وتأكيده وتمثيله حيًا، كأن تقول: «إنى أرى حطين تشهد بعظمة صلاح الدين، وبطولة المسلمين»، بدلاً من: «إنى رأيت حطين شهدت»،
وجاء المضارع هنا (أرى .. أذبحك) لاستحضار «الرؤيا» التى تظل قائمة إلى أن تتحول إلى «رؤية» وتخرج إلى حيز التنفيذ.
ومن تمام التسليم المطلق قيام إبراهيم (عليه السلام) وهو يهم بذبح ابنه بأن (تلّه للجبين) أى كبّه على وجهه؛ حتى لا يرى عينيه أثناء الذبح، فتغلبه عاطفة الأبوة، فيخالف وحى ربه فى أمره، أو متعلق من متعلقاته بالتراجع، أو التردد، أو تأخير الذبح.
ثانيًا - الابن الذبيح إسماعيل (عليه السلام) :
1 - ظهرت الاستجابة السريعة الفورية من إسماعيل (يا أبت افعل ما تؤمر)، فلم يجادل أباه، ويسأله عن تفاصيل الرؤيا، ومكانها، وزمانها، ووقت التنفيذ، والحكمة من أن يذبح الأب ابنه الوحيد.
2 - وحتى يدفع أباه إلى الإقدام على ما أمر الله، أبلغ أنه قادر على تحمُّل آلام الذبح، فلم يُبْدِ خوفًا أو ترددًا، بل قال {ستجدنى إن شاء الله من الصابرين}.
3 - وكانت كلماته الأخيرة - زيادة على كونها مظهرًا من مظاهر التسليم المطلق - دليلاً على حبه والديه، وبره بهما، قال ابن عباس: «فلما عزم (إبراهيم) على ذبح ولده، ورماه على شقه، قال الابن: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك (أبعدها أو ارفعها) لئلا ينتضح عليها شيء من دمي، فتراه أمى فتحزن، وأحِدَّ شفرتك (سكينك) وأسرع بها على حلقى ليكون الموت أهون عليَّ، وإذا أتيت أمي فأقرئها مني السلام، وإن أردت أن ترد عليها قميصي فافعل، فإنه عسى أن يكون أسْلى لها عني» (أى يسليها ويعوضها عن فقدي).
وقال أحد السلف (رضى الله عنهم): «والحكمة من هذه القصة أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، فلما سأل ربه الولد، ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبة ولده، فأمر بذبح المحبوب ليظهر صفاء الخلة، فامتثل أمر ربه، وقدّم محبته على محبة ولده».
وهذا «التسليم المطلق» يقتضى أن يقصد العبد بكل أعماله وأقواله وجه الله {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}[الأنعام:162]، ورضاء الله هو ما يسعى إليه المؤمن، ولا مكان لما سواه، وما أصدق رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) إذ خاطب ربه بقوله: «إن لم يكن بك غضب عل فلا أبالي».
وجوهر التسليم المطلق «حب الله ورسوله ودينه و القيم التى جاء بها، فلا يُقدَّم عليه عَرَض دنيوي، أو نسب بشري {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لايهدى القوم الفاسقين} [التوبة:24].
**********
إن الأعياد والمناسبات الإسلامية تحمل من الدروس والقيم والتوجيهات ما يحقق صلاح المسلم فى الدنيا، وسعادته فى الآخرة، ولكن على المسلمين أن ينظروا ويعتبروا، ويأخذوا أنفسهم بشرع الله، ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجًا مما قضى ويسلموا تسليمًا.