ثواب الآخرة للمؤمنين وأهم صفاتهم
في سورة الشورى 36-43 من سورة الشورى
في ظلال القرآن للشهيد : سيد قطب
قدّم لها ونسقها: د.عثمان قدري مكانسي
[email protected]
يتحدث الشهيد سيد قطب في سورة الشورى عن دروس مهمة في مسيرة الدعوة ، وهذه الآيات التي نحن بصددها هي الدرس الخامس من سلسلة تربوية جامعة في هذه السورة الكريمة ( الشورى) يوضح فيها تفاهة الحياة الدنيا التي يقتتل عليها البشر ، وهم يرون من سبقهم ودّعها مقهوراً ، قد ترك ما اقتتل عليه فجأة دون سابق إنذار وكأن شيئاً لم يكن ، فالحياة الدنيا متاع زائل لا يدوم ، وكيف يحرص الإنسان على أمر يتركه في أوج التمتع به ؟! وهو يعلم أن هذه الحياة فانية وأن ما عند الله خير وأبقى
لأقوام اتسموا بسمات لا بد منها ليكونوا من أهل الجنان الباقية والنعيم الدائم.
كنت أقرأ هذه الآيات في سورة الشورى اليوم 29-11- 1432 فأحسست بعظم هذه الآيات في قلبي وتوقفت عندها طويلاً ، ثم عزمت أن أترجم ما في قلبي وعقلي من ظلالها الممتدة الوارفة ، ثم رأيتني أمسك ظلال القرآن لأستاذنا سيد رحمه الله تعالى وأقرأ ما سطره قلبه الشفاف في هذه الآيات الرائعة ، فأحببت أن تعيشوا معي هذه الدقائق في معانٍ عظيمة قررها الكتاب الكريم في صفحاته الخالدة ، وقدمها الشهيد سيد رحمه الله في قالب حواري أدبي ممتع يترجم تأثره العملي والإيجابي بكتاب الله جل
شأنه.
ولا أخفي عليكم أن الذي شدّني إلى كتاب الله والالتزام بدعوته استشهاد سيد قطب رحمه الله تعالى ، فقد كنت متديناً بالفطرة وأحب أهل الدين والفكر الإسلامي وعلى رأسهم الشهيد البطل سيد ، وكنت أحب بل أعظِّم جمال عبد الناصر الذي صوره الإعلام في الستينات من القرن المنصرم بطل العروبة ومنقذ الأمة وربان السفينة ، ولا أدري كيف اجتمع في قلبي حب رجلين مختلفي التوجه دون أن أميز في ذلك الوقت بين الحق والباطل . ربما كان هذا بسبب تحكّم العاطفة الإسلامية والعاطفة العربية القومية
في وجداني ولمّا تنضج الأمور في قلبي وعقلي ، إلى أن حكم عبد الناصر بالإعدام على سيد ، ونفذ الحكم فيه عام ستة وستين وتسع مئة وألف .فتأثرت كثيراً وعزمت أن أقرأ كتابه ( معالم في الطريق ) فأحكم بينهما وأميل إلى الجانب الذي أراه صواباً . وقرأت الكتاب ، وعشت فيه أياماً تداخلت فيها العاطفة بالفكر والقلب بالعقل ، وكررت القراءة مرات ومرات ، ثم هداني الله تعالى إلى الحق ، فما ينبغي لرجل الدولة أن يقتل عالماً من كبار علماء المسلمين ولا يحق له أن يزهق روح رجل كان ملء العين والبصر ، وكان
له رأي في الحق والحرية خالف ما يفرضه الحاكم على شعبه وأكرههم عليه. فهو إذاً طاغية ومتجبر ، ولا يرى غير نفسه ولا يتحمل أن يسمع غير التمجيد بذاته والخضوع لرغباته.
وبدأت أقرأ الظلال والمستقبل لهذا الدين ، وهذا الدين ، وخصائص التصور الإسلامي .. وإذا أنا تلميذ محب لسيد وإخوان سيد ، وإذا بي أبحث عن الإخوان لأكون منهم بعد سنة أو سنتين ..
هذا سيد قطب الذي أقنعني بعد استشهاده أن أكون من تلاميذه وأن أسير على دربه ، وأسأل الله تعالى أن يحييني على هذه الدعوة وأن أكون آخر أيامي أشد حباً لها وعملاً في سبيلها .
وأترككم في رحاب هذه الآيات مع الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله وفي الخالدين.
يقول الشهيد : .... ثم يخطو بهم خطوة أخرى , وهو يلفتهم إلى أن كل ما أتوه في هذه الأرض متاع موقوت في هذه الحياة الدنيا . وأن القيمة الباقية هي التي يدخرها الله في الآخرة للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . ويستطرد فيحدد صفة المؤمنين هؤلاء , بما يميزهم , ويفردهم امة وحدهم ذات خصائص وسمات !
فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا , وما عند الله خير وابقى:
(للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون .
والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ,
وإذا ما غضبوا هم يغفرون ,
والذين استجابوا لربهم ,
وأقاموا الصلاة ,
وأمرهم شورى بينهم ,
ومما رزقناهم ينفقون .
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون .
وجزاء سيئة سيئة مثلها ,
فمن عفا وأصلح فأجره على الله , إنه لا يحب الظالمين .
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق , أولئك لهم عذاب أليم .
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور . . )
لقد سبق في السورة أن صوّر القرآن حالة البشرية ; وهو يشير إلى أن الذين أوتوا الكتاب تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ; وكان تفرقهم بغيا بينهم لا جهلاً بما نزل الله لهم من الكتاب , وبما سن لهم من نهج ثابت مطرد من عهد نوح إلى عهد إبراهيم إلى عهد موسى إلى عهد عيسى - عليهم صلوات الله - وهو يشير كذلك إلى أن الذين أورثوا الكتاب بعد أولئك المختلفين , ليسوا على ثقة منه , بل هم في شك منه مريب
وإذا كان هذا حال أهل الأديان المنزلة , وأتباع الرسل - صلوات الله عليهم - فحال أولئك الذين لا يتبعون رسولا ولا يؤمنون بكتاب أضل وأعمى .
ومن ثم كانت البشرية في حاجة إلى قيادة راشدة , تنقذها من تلك الجاهلية العمياء التي كانت تخوض فيها . وتأخذ بيدها إلى العروة الوثقى ; وتقود خطاها في الطريق الواصل إلى الله ربها ورب هذا الوجود جميعا .
ونزل الله الكتاب على عبده محمد [ ص ] قرآناً عربياً , لينذر أم القرى ومن حولها ; وشرع فيه ما وصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى , ليصل بين حلقات الدعوة منذ فجر التاريخ , ويوحد نهجها وطريقها وغايتها ; ويقيم بها الجماعة المسلمة التي تهيمن وتقود ; وتحقق في الأرض وجود هذه الدعوة كما أرادها الله , وفي الصورة التي يرتضيها .
وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الجماعة التي تطبعها وتميزها . ومع أن هذه الآيات مكية , نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة , فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة: (وأمرهم شورى بينهم). . مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاماً سياسياً للدولة , فهو طابع اساسي للجماعة كلها , يقوم عليه أمرها كجماعة , ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة , بوصفها إفرازاً طبيعياً للجماعة . كذلك نجد من صفة هذه الجماعة:(والذين إذا أصابهم البغي
هم ينتصرون). . مع أن الأمر الذي كان صادراً للمسلمين في مكة هو أن يصبروا وألا يردوا العدوان بالعدوان ; إلى أن صدر لهم أمر آخر بعد الهجرة وأذن لهم في القتال . وقيل لهم:(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير). وذكر هذه الصفةهنا في آيات مكية بصدد تصوير طابع الجماعة المسلمة يوحي بأن صفة الانتصار من البغي صفة أساسية ثابتة ; وأن الأمر الأول بالكف والصبر كان أمراً استثنائياً لظروف معينة . وأنه لما كان المقام هنا مقام عرض الصفات الأساسية للجماعة المسلمة ذكر منها هذه
الصفة الأساسية الثابتة , ولو أن الآيات مكية , ولم يكن قد أذن لهم بعد في الانتصار من العدوان .
وذكر هذه الصفات المميزة لطابع الجماعة المسلمة , المختارة لقيادة البشرية وإخراجها من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام . ذكرها في سورة مكية وقبل أن تكون القيادة العملية في يدها فعلا , جدير بالتأمل . فهي الصفات التي يجب ان تقوم أولا , وأن تتحقق في الجماعة لكي تصبح بها صالحة للقيادة العملية . ومن ثم ينبغي أن نتدبرها طويلا . . ما هي ? ما حقيقتها ? وما قيمتها في حياة البشرية جميعاً ?
إنها الإيمان . والتوكل . واجتناب كبائر الإثم والفواحش . والمغفرة عند الغضب . والاستجابة لله . وإقامة الصلاة . والشورى الشاملة . والإنفاق مما رزق الله . والانتصار من البغي . والعفو . والإصلاح . والصبر
فما حقيقة هذه الصفات وما قيمتها ? يحسن أن نبين هذا ونحن نستعرض الصفات في نسقها القرآني.
إنه يقف الناس أمام الميزان الإلهي الثابت لحقيقة القيم . والقيم الزائلة القيم الباقية ; كي لا يختلط الأمر في نفوسهم , فيختل كل شيء في تقديرهم . ويجعل هذا الميزان مقدمة لبيان صفة الجماعة المسلمة:
(فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا , وما عند الله خير وأبقى). .
إن في هذه الأرض متاعاً جذاباً براقاً , وهناك أرزاق وأولاد وشهوات ولذائذ وجاه وسلطان ; وهناك نعم آتاها الله لعباده في الأرض تلطفا منه وهبة خالصة , لا يعلقها بمعصية ولا طاعة في هذه الحياة الدنيا . وإن كان يبارك للطائع- ولو في القليل - ويمحق البركة من العاصي ولو كان في يده الكثير.
ولكن هذا كله ليس قيمة ثابتة باقية . إنما هو متاع . متاع محدود الأجل . لا يرفع ولا يخفض , ولا يعد بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة ; ولا يعتبر بذاته علامة رضى من الله أو غضب . إنما هو متاع . (وما عند الله خير وأبقى). . خير في ذاته . وأبقى في مدته . فمتاع الحياة الدنيا زهيد حين يقاس إلى ما عند الله , ومحدود حين يقاس إلى الفيض المنساب . ومتاع الحياة الدنيا معدود الأيام . أقصى أمده للفرد عمر الفرد , وأقصى أمده للبشرية عمر هذه البشرية ; وهو بالقياس إلى أيام
الله ومضة عين أو تكاد .
وبعد تقرير هذه الحقيقة يأخذ في بيان صفة المؤمنين الذين يذخر الله لهم ما هو خير وأبقى . .
ويبدأ بصفة الإيمان: (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا). . وقيمة الإيمان أنه معرفة بالحقيقة الأولى التي لا تقوم في النفس البشرية معرفة صحيحة لشيء في هذا الوجود إلا عن طريقها . فمن طريق الإيمان بالله ينشأ إدراك لحقيقة هذا الوجود , وأنه من صنع الله ; وبعد إدراك هذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يتعامل مع الكون وهو يعرف طبيعته كما يعرف قوانينه التي تحكمه . ومن ثم ينسق حركته هو مع حركة هذا الوجود الكبير , ولا ينحرف عن
النواميس الكلية فيسعد بهذا التناسق , ويمضي مع الوجود كله إلى بارىء الوجود في طاعة واستسلام وسلام . وهذه الصفة لازمة لكل إنسان , ولكنها ألزم ما تكون للجماعة التي تقود البشرية إلى بارىء الوجود .
وقيمة الإيمان كذلك الطمأنينة النفسية , والثقة بالطريق , وعدم الحيرة أو التردد , أو الخوف أو اليأس . وهذه الصفات لازمة لكل إنسان في رحلته على هذا الكوكب ; ولكنها ألزم ما تكون للقائد الذي يرتاد الطريق ,ويقود البشرية في هذا الطريق .
وقيمة الإيمان التجرد من الهوى والغرض والصالح الشخصي وتحقيق المغانم . إذ يصبح القلب متعلقاً بهدف أبعد من ذاته ; ويحس أن ليس له من الأمر شيء , إنما هي دعوة الله , وهو فيها أجير عند الله ! وهذا الشعور ألزم ما يكون لمن توكل إليه مهمة القيادة كي لا يقنط إذا أعرض عنه القطيع الشارد أو أوذي في الدعوة ; ولا يغتر إذا ما استجابت له الجماهير , أو دانت له الرقاب . فإنما هو أجير .
ولقد آمنت العصبة الأولى من المسلمين إيماناً كاملاً أثر في نفوسهم وأخلاقهم وسلوكهم تأثيراً عجيباً . وكانت صورة الإيمان في نفس البشرية قد بهتت وغمضت حتى فقدت تأثيرها في اخلاق الناس وسلوكهم , فلما أن جاء الإسلام أنشأ صورة للإيمان حية مؤثرة فاعلة تصلح بها هذه العصبة للقيادة التي وضعت على عاتقها .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" . عن هذا الإيمان:
"انحلت العقدة الكبرى - عقدة الشرك والكفر - فانحلت العقد كلها ; وجاهدهم الرسول جهاده الأول , فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي , وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى , فكان النصر حليفه في كل معركة ; وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة , لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى , ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى , ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . . . . "
"حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم - بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم - وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم , وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة , وفي اليوم رجال الغد , لا تجزعهم مصيبة , ولا تبطرهم نعمة , ولا يشغلهم فقر , ولا يطغيهم غنى , ولا تلهيهم تجارة , ولا تستخفهم قوة , ولا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا , وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم , قوامين بالقسط شهداء لله على أنفسهم أو الوالدين والأقربين . . وطأ لهم أكناف الأرض , وأصبحوا عصمة للبشرية , ووقاية للعالم .
وداعية إلى دين الله . . . "
ويقول عن تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول:
"كان الناس عرباً وعجماً يعيشون حياة جاهلية , يسجدون فيها لكل ما خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم , لا يثيب الطائع بجائزة , ولا يعذب العاصي بعقوبة , ولا يأمر ولا ينهى ; فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم , ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم , ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم . كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لأناس خلع عليهم خلعة الربوبية ; فأخذوا بأيديهم أزمة الأمر , وتولوا إدارة المملكة وتدبير شؤونها وتوزيع أرزاقها , إلى
غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة . فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية , وكان إيمانهم بالله , وإحالتهم خلق السماوات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ , يقال له:من بنى هذا القصر العتيق ? فيسمي ملكا من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه ويخضع له ; فكان دينهم عارياً عن الخشوع لله ودعائه , وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم , فكانت معرفتهم مبهمة غامضة , قاصرة مجملة , لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة . . .
. . . انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذاتسلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح , ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع , ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها . آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى . آمنوا برب العالمين , الرحمن الرحيم , مالك يوم الدين , الملك , القدوس , السلام , المؤمن , المهيمن , العزيز , الجبار , المتكبر , الخالق , البارىء , المصور , العزيز , الحكيم , الغفور , الودود , الرؤوف ,
الرحيم , له الخلق والأمر , بيده ملكوت كل شيء , يجير ولا يجار عليه . . . إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه . يثيب بالجنة ويعذب بالنار , ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر , يعلم الخبء في السماوات والأرض , يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه . فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلاباً عجيباً . فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهراً لبطن . تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره , وجرى منه
مجرى الروح والدم , واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها , وغمر العقل والقلب بفيضانه , وجعل منه رجلا غير الرجل , وظهر منه من روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة , ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق , ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد , وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق" .
"وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس , ومحاسبتها والإنصاف منها , وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية , حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان , وسقط الإنسان سقطة وكان ذلك حيث لا تراقبه عين , ولا تتناوله يد القانون , تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة , ووخزاً لاذعاً للضمير , وخيالاً مروعاً , لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ,
ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة , ويتحملها مطمئناً مرتاحاً , تفادياً من سخط الله وعقوبة الآخرة " . .
" . . . وكان هذا الإيمان حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته , يملك نفسه النزّع أمام المطامع والشهوات الجارفة , وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراه أحد , وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحداً . وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم , وأداء الأمانات إلى أهلها , والإخلاص لله , ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره , وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان , ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان" .
"وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع , لا يخضعون لسلطان , ولا يقرون بنظام , ولا ينخرطون في سلك , يسيرون على الأهواء , ويركبون العمياء , ويخبطون خبط عشواء . فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها , واعترفوا لله بالملك والسلطان , والأمر والنهي , ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة , وأعطوا من أنفسهم المقادة , واستسلموا للحكم الإلهي استسلاما كاملاً ووضعوا أوزارهم , وتنازلوا عن
أهوائهم وأنانيتهم , وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به , لا يحاربون ولا يصالحون
إلا بإذن الله , ولا يرضون ولا يسخطون , ولا يعطون ولا يمنعون , ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره" .
وهذا هو الإيمان الذي تشير إليه الآية وهي تصف الجماعة التي اختيرت لقيادة البشرية بهذه العقيدة . ومن مقضيات هذا الإيمان التوكل على الله . ولكن القرآن يفرد هذه الصفة بالذكر ويميزها:
(وعلى ربهم يتوكلون). .
وهذا التقديم والتأخير في تركيب الجملة يفيد قصر التوكل على ربهم دون سواه . والإيمان بالله الواحد يقتضي التوكل عليه دون سواه . فهذا هو التوحيد في أول صورة من صوره . إن المؤمن يؤمن بالله وصفاته , ويستيقن أنه لا أحد في هذا الوجود يفعل شيئاً إلا بمشيئته , وأنه لا شيء يقع في هذا الوجود إلا بإذنه . ومن ثم يقصر توكله عليه , ولا يتوجه في فعل ولا ترك لمن عداه .
وهذا الشعور ضروري لكل أحد , كي يقف رافع الرأس لا يحني رأسه إلا لله . مطمئن القلب لا يرجو ولا يرهب أحدا إلا الله . ثابت الجأش في الضراء ; قرير النفس في السراء , لا تستطيره نعماء ولا بأساء . . ولكن هذا الشعور أشد ضرورة للقائد , الذي يحتمل تبعة ارتياد الطريق .
(والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش). .
وطهارة القلب , ونظافة السلوك من كبائر الإثم ومن الفواحش , أثر من آثار الإيمان الصحيح . وضرورة من ضرورات القيادة الراشدة . وما يبقى قلب على صفاء الإيمان ونقاوته وهو يقدم على كبائر الذنوب والمعاصي ولا يتجنبها . وما يصلح قلب للقيادة وقد فارقه صفاء الإيمان وطمسته المعصية وذهبت بنوره .
ولقد ارتفع الإيمان بالحساسية المرهفة في قلوب العصبة المؤمنة , حتى بلغت تلك الدرجة التي أشارت إليها المقتطفات السابقة [ ص 77 ] وأهلت الجماعة الأولى لقيادة البشرية قيادة غير مسبوقة ولا ملحوقة . ولكنها كالسهم يشير إلى النجم ليهتدي به من يشاء في معترك الشهوات !
والله يعلم ضعف هذا المخلوق البشري , فيجعل الحد الذي يصلح به للقيادة , والذي ينال معه ما عند الله , هو اجتناب كبائر الإثم والفواحش . لا صغائر الإثم والذنب . وتسعه رحمته بما يقع منه من هذه الصغائر , لأنه أعلم بطاقته . وهذا فضل من الله وسماحة ورحمة بهذا الإنسان ; توجب الحياء من الله , فالسماحة تخجل والعفو يثير في القلب الكريم معنى الحياء .
(وإذا ما غضبوا هم يغفرون). .
وتأتي هذه الصفة بعد الإشارة الخفية إلى سماحة الله مع الإنسان في ذنوبه وأخطائه , فتحبب في السماحة والمغفرة بين العباد . وتجعل صفة المؤمنين أنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون .
وتتجلى سماحة الإسلام مرة أخرى مع النفس البشرية ; فهو لا يكلف الإنسان فوق طاقته . والله يعلم أن الغضب انفعال بشري ينبع من فطرته . وهو ليس شراً كله . فالغضب لله ولدينه وللحق والعدل غضب مطلوب وفيه الخير . ومن ثم لا يحرم الغضب في ذاته ولا يجعله خطيئة . بل يعترف بوجوده في الفطرة والطبيعة , فيعفي الإنسان من الحيرة والتمزق بين فطرته وأمر دينه . ولكنه في الوقت ذاته يقوده إلى أن يغلب غضبه , وأن يغفر
ويعفو , ويحسب له هذا صفة مثلى من صفات الإيمان المحببة . هذا مع أنه عرف عن رسول الله [ ص ] أنه لم يغضب لنفسه قط , إنما كان يغضب لله , فإذا غضب لله لم يقم لغضبه شيء . ولكن هذه درجة تلك النفس المحمدية العظيمة ; لا يكلف الله نفوس المؤمنين إياها . وإن كان يحببهم فيها . إنما يكتفي منهم بالمغفرة عند الغضب , والعفو عند القدرة , والاستعلاء على شعور الانتقام , ما دام الأمر في حدود الدائرة الشخصية المتعلقة بالأفراد .
(والذين استجابوا لربهم). .
فأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم . أزالوا هذه العوائق الكامنة في النفس دون الوصول . وما يقوم بين النفس وربها إلا عوائق من نفسها . عوائق من شهواتها ونزواتها . عوائق من وجودها هي وتشبثها بذاتها . فأما حين تخلص من هذا كله فإنها تجد الطريق إلى ربها مفتوحاً وموصولا . وحينئذ تستجيب بلا عائق . تستجيب بكلياتها . ولا تقف أمام كل تكليف بعائق من هوى يمنعها . . وهذه هي الاستجابة في عمومها . . ثم أخذ يفصل بعض هذه الاستجابة:
(وأقاموا الصلاة . . )
وللصلاة في هذا الدين مكانة عظمى , فهي التالية للقاعدة الأولى فيه . قاعدة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وهي صورة الاستجابة الأولى لله . وهي الصلة بين العبد وربه . وهي مظهر المساواة بين العباد في الصف الواحد ركعاً سجداً , لا يرتفع رأس على رأس , ولا تتقدم رجل على رجل !
ولعله من هذا الجانب أتبع إقامة الصلاة بصفة الشورى - قبل أن يذكر الزكاة:
(وأمرهم شورى بينهم)
والتعبير يجعل أمرهم كله شورى , ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة . وهو كما قلنا نص مكي . كان قبل قيام الدولة الإسلامية . فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين . إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها , ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد .
والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية . والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية .
ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكراً , وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيها . إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية , وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية . وهي من ألزم صفات القيادة .
أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوباً في قالب حديدي ; فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان , لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية . والنظم الإسلامية كلها ليست أشكالاً جامدة , وليست نصوصاً حرفية , إنما هي قبل كل شيء روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب , وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة . والبحث في أشكال الأنظمة الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شيء . . وليس هذا كلاماً عائماً غير مضبوط كما قد يبدو لأول
وهلة لمن لا يعرف حقيقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية . فهذه العقيدة - في أصولها الاعتقادية البحتة , وقبل أي التفات إلى الأنظمة فيها - تحوي حقائق نفسية وعقلية هي في ذاتها شيء له وجود وفاعلية وأثر في الكيان البشري , يهيىء لإفراز أشكال معينة من النظم وأوضاع معينة في الحياة البشرية ; ثم تجيء النصوص بعد ذلك مشيرة إلى هذه الأشكال والأوضاع , لمجرد تنظيمها لا لخلقها
وإنشائها . ولكي يقوم أي شكل من أشكال النظم الإسلامية , لا بد قبلها من وجود مسلمين , ومن وجود إيمان ذي فاعلية وأثر . والإ فكل الأشكال التنظيمية لا تفي بالحاجة , ولا تحقق نظاماً يصح وصفه بأنه إسلامي . .
ومتى وجد المسلمون حقاً , ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته , نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية , وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها ; وتحقق المبادىء الإسلامية الكلية خير تحقيق .
(ومما رزقناهم ينفقون). .
وهو نص مبكر كذلك على تحديد فرائض الزكاة التي حددت في السنة الثانية من الهجرة . ولكن الإنفاق العام من رزق الله كان توجيهاً مبكراً في حياة الجماعة الإسلامية . بل إنه ولد مع مولدها .
ولا بد للدعوة من الإنفاق . لا بد منه تطهيراً للقلب من الشح , واستعلاء على حب الملك , وثقة بما عند الله . وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان . ثم إنها ضرورية كذلك لحياة الجماعة . فالدعوة كفاح . ولا بد من التكافل في هذا الكفاح وجرائره وآثاره . وأحياناً يكون هذا التكافل كاملاً بحيث لا يبقى لأحد مال متميز . كما حدث في أول العهد بهجرة المهاجرين من مكة , ونزولهم على إخوانهم في المدينة . حتى إذا هدأت حدة الظروف وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة .
وعلى أية حال فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات . .
(والذين إذا اصابهم البغي هم ينتصرون ).
وذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة كما سلف . فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة . صفة الانتصار من البغي , وعدم الخضوع للظلم . وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة . لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر , وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل ; وهي عزيزة بالله . (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). . فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي وأن تدفع العدوان . وإذا كانت هناك فترة اقتضت لأسباب محلية في مكة , ولمقتضيات تربوية في حياة
المسلمين الأوائل من العرب خاصة , أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة , فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة .
ولقد كانت هنالك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي:
منها أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم تكن تصدر من هيئة مسيطرة على الجماعة . فالوضع السياسي والاجتماعي في الجزيرة كان وضعاً قبلياً مخلخلاً . ومن ثم كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب , ولم يكن أحد غير خاصة أهله يجرؤ على إيذائه - ولم يقع إلا في الندرة أن وقع اعتداء جماعي على فرد مسلم أو على المسلمين كجماعة - كما كان السادة يؤذون مواليهم إلى أن يشتريهم المسلمون ويعتقوهم فلا يجرؤ أحد على إيذائهم غالباً . ولم يكن الرسول [
ص ] يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد . والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة .
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى . واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم , كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين . وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشعب وحصر بني هاشم فيه . فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار , ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة , ونقضت هذا العهد الجائر .
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف , وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام . والتوازنفي الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم , وإخضاعها لهدف , وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب . مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وعلى كل مغنم . ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية , وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق .
فهذه الاعتبارات وأمثالها قد اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة . مع تقرير الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة:(والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون).
ويؤكد هذه القاعدة بوصفها قاعدة عامة في الحياة:
(وجزاء سيئة سيئة مثلها). .
فهذا هو الأصل في الجزاء . مقابلة السيئة بالسيئة , كي لا يتبجح الشر ويطغى , حين لا يجد رادعاً يكفه عن الإفساد في الأرض فيمضي وهو آمن مطمئن !
(فمن عفا وأصلح فأجره على الله , إنه لا يحب الظالمين) ذلك مع استحباب العفو ابتغاء أجر الله وإصلاح النفس من الغيظ , وإصلاح الجماعة من الأحقاد . وهو استثناء من تلك القاعدة . والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة . فهنا يكون للعفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء . فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة ولم يجىء ضعفا يخجل ويستحيي , ويحس بأن خصمه الذي عفا
هو الأعلى . والقوي الذي يعفو تصفو نفسه وتعلو . فالعفو عندئذ خير لهذا وهذا . ولا كذلك عند الضعف والعجز . وما يجوز أن يذكر العفو عند العجز . فليس له ثمة وجود . وهو شر يطمع المعتدي ويذل المعتدى عليه , وينشر في الأرض الفساد !
(إنه لا يحب الظالمين). .
وهذا توكيد للقاعدة الأولى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها)من ناحية . وإيحاء بالوقوف عند رد المساءة أو العفو عنها . وعدم تجاوز الحد في الاعتداء , من ناحية أخرى .
وتوكيد آخر أكثر تفصيلا:
(ولمن انتصر بعد ظلمه , فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس , ويبغون في الأرض بغير الحق . أولئك لهم عذاب أليم). .
فالذي ينتصر بعد ظلمه , ويجزي السيئة بالسيئة , ولا يعتدي , ليس عليه من جناح . وهو يزاول حقه المشروع . فما لأحد عليه من سلطان . ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد
إنما الذين يجب الوقوف في طريقهم هم الذين يظلمون الناس , ويبغون في الأرض بغير الحق . فإن الأرض لا تصلح وفيها ظالم لا يقف له الناس ليكفوه ويمنعوه من ظلمه ; وفيها باغ يجور ولا يجد من يقاومه ويقتص منه . والله يتوعد الظالم الباغي بالعذاب الأليم . ولكن على الناس كذلك أن يقفوا له ويأخذوا عليه الطريق .
ثم يعود إلى التوازن والاعتدال وضبط النفس والصبر والسماحة في الحالات الفردية , وعند المقدرة على الدفع كما هو مفهوم ; وحين يكون الصبر والسماحة استعلاء لا استخذاء ; وتجملاً لا ذلاً:
(ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور). .
ومجموعة النصوص في هذه القضية تصور الاعتدال والتوازن بين الاتجاهين ; وتحرص على صيانة النفس من الحقد والغيظ , ومن الضعف والذل , ومن الجور والبغي , وتعلقها بالله ورضاه في كل حال . وتجعل الصبر
زاد الرحلة الأصيل .
ومجموعة صفات المؤمنين ترسم طابعاً مميزاً للجماعة التي تقود البشرية وترجو ما عند الله وهو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون .