شواهد الإقلاع الحركي 2
شواهد الإقلاع الحركي(2 من 2)
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
بعدما عرضنا في الجزء الأول من المقال خمسة شواهد للإقلاع الحركي المنشود ، نكمل في الجزء الثاني والأخير خمسة شواهد أخرى ليكتمل العقد عشرة كاملة :
6) ــ الاحترافية :
من الشواهد المهمة للإقلاع الحركي كذلك الاحترافية ، إذ أن بقاء الترنح في اعتماد أساليب الهواة ، لا يمكّن صاحبه من أن يذهب بعيدا في عملية الإقلاع ، ويكون مردوده العملي والإنجازي متواضعا ، بحيث يكون مرتبط بمزاجية الأفراد وفضول أوقاتهم ، غير آبه كثيرا بالجودة والنوعية والكيف ، همّه التكديس بدل التأسيس ، والتسطيح بدل التعميق ، فتأتي النتائج متناسبة مع هذا الوضع ، ليست بالحجم ولا التأثير ولا العمق ولا الجدية ، الذي يسعد صديقا أو يغري معجبا أو يقلق خصما أو عدوا ، أو يمكّن لمشروع .
إن تطور طرق المنافسة والدعاية ، والتقدم المذهل في مجالات الإعلام والاتصال وأساليب العمل السياسي والمجتمعي ، أصبح يحتم على كل حركة تحترم نفسها وتريد أن تنافس على المواقع المتقدمة ، أن تراهن على الاحترافية وتلتزم بها وتوفر لها كل مستلزماتها ، وتتجاوز بشكل نهائي أساليب الهواة.
فمن الاحترافية اعتماد الأساليب الحديثة في رسم الخطط والبرامج وطرق التنفيذ والمتابعة ، واستخدام وتوظيف المهارات الجديدة في إدارة وتسيير الأعمال والمشاريع والعلاقات والقيادة.
ومن الاحترافية كذلك المساعدة على الإقلاع والشاهدة عليه ، توسيع دوائر التفريغ للعمل الحركي بمختلف مجالاته ، وعدم الاقتصار فقط على التطوع.
ومنها توفير الوسائل المادية والبشرية والمعرفية ، لعملية الإقلاع بشكل دائم وكافي ومتطور ، يتناسب والغاية والمشروع والأهداف والخطة من ناحية ، وكذلك مع التقدم المتسارع الذي يحدث في العالم اليوم على المستوى الإستراتيجي والأدائي من ناحية ثانية.
ومنها ضمان مصادر تمويل دائمة وثابتة وكافية ، تتناسب والأهداف والخطط والبرامج المرسومة الضامنة لإقلاع طموح وذي سقف مرتفع ، إذ لا يمكن أن يتم إقلاع حقيقي واحترافي بقلق تمويلي أو بانعدام مصادر تمويل متنوعة ودائمة.
ومنها كذلك التحضير المسبق للملفات والتقارير والمشاريع المعتمدة على الاستقراء الجيد والإحصاء الدقيق والمعلومة الصحيحة ، لبناء المواقف والخيارات وطرق التعامل وتحديد الأهداف.
ومنها اعتماد سياسة الفعل والمبادرة وصناعة الحدث ، أو المشاركة في صناعته على الأقل ، وعدم ترك الأحداث هي التي تتحكم فيك ، ومن ثم تكون سياساتك وتحركاتك ومواقفك كلها ردود أفعال وتخندق شبه دائم في مواقع الدفاع والتبرير.
على العموم فإن الإقلاع الحركي لن يكون ذا قيمة ، إذا لم يتم الانتقال الفكري والعملي والممارساتي والسلوكي ، من أساليب الهواة إلى الاحترافية بشمولها في شتى مجالات التحرك والنشاط.
7) ــ الإبتكارية :
كذلك من شواهد الإقلاع الحركي ، القدرة على الابتكار والتجديد والتطوير ، لأن الحركة التي لا تستطيع أن تتجدّد وتجدّد في أفكارها ومواقفها وخياراتها وخططها وبرامجها ومشاريعها ووسائلها وتعاملها مع داخلها والآخرين ، فإن مصيرها إما أن تتعدّد (تتشرذم وتنقسم) ، وإما أن تتبدّد (تضعف وتنكمش ويذهب ريحها) .
لذا فإن التجديد والتطوير والإبتكارية ، ليست من نافلة القول والفعل والممارسة بالنسبة للحركة ومشروعها ، وإنما هو فريضة شرعية وضرورة واقعية وحتمية حركية وواجب وقت لا يحتمل التأخير ، خاصة في ظل التطورات والمتغيرات والأحداث المتسارعة التي يشهدها واقع الأمة بمختلف أقطارها والعالم أجمع.
فلا يمكن ــ في هذه المرحلة تحديدا ــ للحركة أن تحقق الإقلاع الجاد المؤدي إلى التمكين ، إذا كانت قدرتها الإبتكارية ضعيفة ، أو كانت لا تملكها أصلا ، الإبتكارية خاصة في الخطاب والوسائل والآليات والطرق الصانعة للرأي العام الحاضن والمساند والمؤثرة فيه ، والضامنة للانتشار والقادرة على الإقناع والكاسبة لثقة مساحات أوسع من الناس واستيعاب فئات أكثر منهم ، لأن الجمود على خطاب ووسائل وطرق وآليات قديمة تجاوزتها الأحداث ، من شأنه أن يضعف قدرة الحركة التنافسية ، ويقلّل من حظوظها في الاستحقاقات المختلفة ، ويساهم في تزهيد الرأي العام فيها وفي مشروعها ورجالها وانفضاضهم من حولها ، لأن عدم امتلاك القدرة الإبتكارية بالمفهوم الذي أشرنا إليه ، قد يتسبب في كساد سلعة الحركة(أفكارها ، مشاريعها ، رجالها...) ، مهما بلغت من النفاسة ، وقد تسبقها سلع أخرى أقل منها نفاسة ، إن لم تكن في أصلها فاسدة وكاسدة ومزجاة ، أحسن أصحابها الابتكار في طرق التسويق وآليات العرض وأساليب الدعاية .
فكن مستلزمات الإبتكارية والقدرة على التجديد والتطوير ، هو حسن التكيّف والمواكبة مع كل المتغيرات والتحوّلات والأحداث مهما تسارعت ، إعمالا للقاعدة العملية المهمة التي أشار إليها الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله في هذا المجال لمّا قال :( الظروف تستطيع تكييفنا ، ولا تستطيع ــ بإذن الله ــ إتلافنا).
فقدرة الحركة الإبتكارية ، خاصة في الخطاب والوسائل والآليات والموارد ، شاهد مهم على صحة إقلاعها وسلامة سيرها ، ومن ثم قدرتها البدائلية والتنافسية ، للوصول إلى تصدّر المشهد الوطني وريادته بأهلية واستحقاق.
8) ــ الجاذبية :
كذلك من شواهد الإقلاع الحركي الجاذبية ، فبقدر ما تملك من جاذبية وقدرة على فرض احترامك وتقديرك على الآخرين ، بقدر ما تكون قدرتك على الإقلاع وتوسيع دوائر الإعجاب و الولاء والتأييد والنصرة لك ولمشروعك ولأفكارك ، والعكس بقدر ما تفقد من جاذبية ــ مهما كانت أسباب ذلك ــ ، بقدر ما تتقلّص مساحات الانتشار وتضيق دوائر الولاء وتضمر القدرة على إفتكاك الإعجاب وتتناقص نسب التأييد .
والجاذبية التي تكون أحد مقومات الإقلاع الحركي هي التي تكون بنسب مرتفعة أو مقبولة على الأقل في جوانب شتى ، ولا تقتصر في بعضها فقط ، بحيث تكون في الأفكار والتصورات والأهداف والمواقف ، وتكون كذلك في الخطاب والبرامج والخطط والأعمال والممارسات والسلوكات ، وكذلك في الإنجازات والمشاريع والمبادرات ، وكذا في الداخل الحركي تنظيما وانضباطا وأداء وفعالية ومؤسساتية وشورى وحرية رأي ، وقوة قيادة وتجردها وقدرتها على الإبداع والإقناع والاقتراح والمبادرة ، ونزاهة جنود وإيجابيتهم وحسن تفاعلهم.
وكما أن الجاذبية التي هي شاهدا على الإقلاع ينبغي أن تكون متنوعة المجالات ومتعددة الجوانب كما ذكرنا ، ينبغي أيضا أن تشمل كل الفئات ولا تنحصر في فئة واحدة أو بعض فئات فقط ، أو تكون متمركزة في جهة واحدة دون بقية الجهات ، كأن تكون الحركة مثلا جذابة للنخبة دون الجماهير ، أو للجماهير دون النخب ، أو للكبار دون الشباب ، أو للشباب دون بقية الفئات العمرية ، أو للرجال دون النساء ، أو للنساء دون الرجال ، أو للمتعلمين دون محدودي التعليم و العوام أو العكس ، أو فئة مهنية دون أخرى ، كرجال التربية والتعليم دون غيرهم ، أو التجار وإهمال الفلاحين والحرفيين وهكذا ، فالجاذبية المساعدة على الإقلاع والتي تكون إحدى علاماته المميزة هي التي تجد لها موضع قدم عند كل الفئات التي ذكرناها وغيرها ، بحيث يجد كل منهم عندك ما يشبع اهتماماته ، ويشعره بوجوده وأهميته ، ويفتح له فضاء للعمل والإبداع واستثمار قدراته ، ويبعث لديه الأمل للتكفل بانشغالاته وآلامه وآماله ، بما أنك تقدّم نفسك أنك حركة مجتمع وليس حركة فئة منه ، أو أنك روح يسري في هذه الأمة بأجمعها وليس في جزء منها فقط .
ومع ذلك فالجاذبية قد تملك كل مقوماتها التي ذكرنا بعضها ، ولكن لا تنالها ــ إن لم تنل ضدها أصلا ــ وذلك بسوء عرضك وقصور إعلانك وغياب إعلامك وبدائية تسويقك وضعف تواصلك وعدم شطارتك بالحجم الكافي في الحديث عن نفسك وأفكارك ومواقفك ومبادراتك وإنجازاتك ، ؛(فالسلعة النفيسة قد تكدس بسوء العرض وقصور الإعلان ، وتسبقها سلع أخرى أحسن أصحابها الدعاية لها واجتذاب الأنصار إليها ) ، كما قال الشيخ الغزالي رحمه الله.
على العموم عنصر الجاذبية عامل مهم من عوامل الانفتاح والانتشار ومن ثم الإقلاع والتمكين ، ويحتاج إلى جهود مضنية وعمل متواصل وتخطيط حكيم وعرض مغري وخطاب مناسب وإنجازات متراكمة ، ولن يحدث مصادفة أو بضربة حظ أو بأحلام اليقظة.
9) ــ التنافسية :
كذلك من الشواهد المهمة على الإقلاع الحركي ، امتلاك مقوّمات القدرة على المنافسة ، بحيث تستطيع الحركة أن تنافس على المواقع المتقدمة في كل المواعيد والمحطات والاستحقاقات ، فعلا وحقيقة وواقعا ، وليس قولا وإدّعاء وخيالا .
ولا يمكنها أن تفعل ذلك ما لم تكن تملك المقوّمات العملية لهذه المنافسة على مستويات ثلاث:
ــ الأول : مستوى الأفكار والتصورات.
ــ الثاني : مستوى البرامج والمشاريع والخطط.
ــ الثالث : مستوى الموارد البشرية والمادية.
فلا يمكن أن تنافس الحركة بتصورات بدائية ومنغلقة ، ولا بأفكار مثالية ومغلقة وغامضة ، بل لا بد لكي يكون لها حظها من شاهد التنافسية هذا ، أن تتسم أفكارها وتصوراتها بالواقعية والموضوعية والوضوح ، مع حرصها على أن تكون مطمئنة للجميع ، قادرة على استيعابهم مهما اختلفت مستوياتهم .
كما لا يمكنها أن تنافس بلا مشاريع وبرامج وخطط ، أو بمشاريع وبرامج وخطط متواضعة ومنخفضة السقف ، لا تملك فيها إجابات واضحة ومقنعة على الكثير من الأسئلة التي يطرحها الرأي العام ، كما لا تقدم حلولا عملية قابلة للتجسيد والتنفيذ والتطبيق للقضايا الملحّة خاصة الاجتماعية منها ، بعيدا عن العموميات الديماغوجية ولغة الخشب ، التي لا تطعم جائعا ولا تكسي عاريا ولا تعالج مريضا ولا تشغل بطالا ولا تعلم جاهلا ولا تزوج أعزبا.
كما أن من دلائل القدرة التنافسية لدى الحركة في هذا المستوى كذلك هو مدى امتلاكها لرؤية تنموية محترمة وشاملة لكل المجالات التنموية التي تهم الوطن الذي تعيش فيه وللمساحة التي تتحرك فيها ، مبنية على قواعد علمية صحيحة وإحصائيات دقيقة وتقارير عميقة ، تستطيع أن تطرح نفسها من خلالها بصدق كبديل أفضل لما هو موجود ولما هو منافس لها .
والحقيقة أن التنافسية في هذا المجال بالنسبة للحركة ، لا يكتفى منها بإجابات مقنعة ومقترحات ناجعة في المجال الاجتماعي والاقتصادي والتنموي فحسب ، بل أيضا في المجال السياسي والإعلامي والثقافي وكذا الحريات وحقوق الإنسان والسياسة الخارجية وغيرها من المجالات.
كما يمكن للحركة أن تنافس بشكل صحيح ، عندما تحسن استثمار وتوظيف كل مواردها البشرية كلّ في مجال اختصاصه، ونحن على يقين أن الحركة تملك خزانا معتبرا من الكوادر والطاقات في شتى التخصصات تحسد عليه فعلا ، من المستحيل أن تجد مثله لدى غيرها من منافسيها ، يمكنها أن تحقق به الاكتساح وليس المنافسة فقط ، ويؤهلها ــ إن أستغل الاستغلال الأمثل ــ لتسيير دولة وتشكيل حكومة وتقديم بدائل أفضل وأصلح في هذا المجال .
كما أن تنافسية الحركة في هذا المجال كذلك ، لا يكتفى منها باستثمارها لرصيدها من الكوادر والإطارات من أبنائها فقط ، بل بمدى قدرتها على إشراك كل الكفاءات النظيفة والمخلصة حتى من غير أبنائها ، لتثبت عمليا أنها فعلا حركة مجتمع ومؤهلة فعلا لتحكمه ، وليست حركة فئة أو مجموعة أو طائفة .
كذلك فإن من مقوّمات التنافسية لدى الحركة هو تعاملها وتفاعلها الإيجابي وكذا حسن توظيفها واستعمالها للتكنولوجيات والوسائل الحديثة والطرق المعاصرة ، في التواصل والدعاية والإشهار ، وأيضا في الإقناع والاستيعاب والانفتاح والانتشار.
فامتلاك مقومات القدرة على المنافسة على المواقع والمراتب المتقدمة والريادية أو ما أسميناه بالتنافسية ، وتحقيق النتائج الإيجابية في ذلك ، شاهد كذلك على الإقلاع الحركي المنشود.
10) ــ الجماهيرية :
ثم يأتي الشاهد الثامن والأخير المتمثل في الجماهيرية ، والذي يعتبر تتويجا لكل الشواهد التسعة التي سبق ذكرها ، إذ لا يمكن أن تتحقق الجماهيرية للحركة ، بحيث تكون حاضنة وداعمة لها ولمشروعها ولرجالها بشكل مستمر وتصاعدي ، دون توفرها على نسب مقبولة من الرسالية والنضالية والدينامكية والجاهزية والمؤسساتية والاحترافية والإبتكارية والجاذبية والتنافسية ، والتجربة التركية خير مثال على ذلك ، فإن حدثت رغم ضحالة امتلاك هذه الشواهد وضآلتها ، أو غياب بعضها أو أغلبها ، فإنها طفرة مزاجية عابرة كرغوة الصابون ، سرعان ما تذهب أو تغير الوجهة أو تتحول من معسكر الموالاة للحركة ومشروعها ورجالها إلى معسكر المعارضة واللامبالاة واللا اهتمام على الأقل إن لم تتحول إلى عداء ، وينطبق عليها ما ذكره الفرزدق الشاعر للإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما ، عندما سأله عن حال أهل العراق ، فقال له : قلوبهم معك وسيوفهم ضدك.
والتاريخ البعيد والقريب حافل بمواقف من هذا القبيل ، أحرى أن نستفيد منها ونأخذ العبرة من دروسها.
هذه عشارية من الشواهد تشكّل مجتمعة أرضية متينة وأساسا وثيقا وخارطة طريق عملية لعملية إقلاع حركي منشود ، ومن ثم وقودا دافعا بقوة وثقة نحو تحقيقه عمليا في أرض الواقع ، ليضع الحركة في موقعها الريادي الذي يتناسب ونبل غايتها وسمو أهدافها وأصالة منهجها ونفاسة فكرتها ، وحلم مؤسسها ودماء شهدائها ونصاعة تاريخها وقوة اقتراحها وتنوع مبادراتها وطموح قيادتها ومؤسساتها وتضحيات أبنائها ومناضليها ، وآمال محبيها ومناصريها وأماني الواثقين في خطها ومشروعها ، فإن حدث الخلل أو القصور والإهمال في أيّ من هذه الشواهد أو بعضها ، فإن نتيجته المنطقية إقلاعا أعرجا لا يذهب بعيدا ولا يفي بالغرض ، ولا يمكنه أن يشكّل بديلا أو يحقق أملا أو يبني طموحا ، أو يكون في مستوى التضحيات ، فتبقى الحركة بذلك تترنح في مربّع المراهقة الحافل بكل دواعي القلق ، ولا ينقلها بأيّ حال من الأحوال إلى مرحلة الرشد ، الصانعة للانتصار الواثق والتمكين الرائق ، العاصمة من التعثر العائق.