ميثاقا غليظا
راجي العقابي وتراب
الحمدُ للهِ الذي خلقنا من نفسٍ واحدةٍ وجعلَ منها زوجَها ليسكنَ إليها (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ). وأشهدُ أن لا إلهَ لنا غيره ولا ربَّ لنا سواهُ، خلقَ فسوى، وقدَّرَ فهدى، و (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ وخليلُهُ وصفوتُهُ من خلقِهِ، اللهم صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ. أما بعد ..
فقد حكي أن شريحاً القاضي قابل الشعبي يوماً، فسأله عن حاله في بيته فقال له: من عشرين عاماً لم أر ما يغضبني من أهلي، ولقد مكثت زوجتي معي عشرين سنة لم أعتب عليها في شيء إلا مرة واحدة وكنت لها ظالماً. العقد الفريد
وقال أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه: ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علما. وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع العالمين المؤمنين وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل. من كتاب الإصابة وسير أعلام النبلاء
وَقَالَ الإمام أَحْمَدُ رحمه الله: أَقَامَتْ أُمُّ صَالِحٍ (زوجته) مَعِي عِشْرِينَ سَنَةً فَمَا اخْتَلَفْت أَنَا وَهِيَ فِي كَلِمَةٍ. الآداب الشرعية والمنح المرعية
وبعد أخوة الإيمان:
لقد رفع الإسلام مكانة المرأة، وأكرمها بما لم يكرمها به دين سواه, فالمسلمة في طفولتها لها حق الرضاع، والرعاية، وإحسان التربية، وهي في ذلك الوقت قرة العين، وثمرة الفؤاد لوالديها وإخوانها.
وإذا كبرت فهي المعززة المكرمة، التي يغار عليها وليها، ويحوطها برعايته، فلا يرضى أن تمتد إليها أيد بسوء، ولا ألسنة بأذى، ولا أعين بخيانة.
وإذا تزوجت كان ذلك بكلمة الله، وميثاقه الغليظ؛ فتكون في بيت الزوج بأعز جوار، وأمنع ذمار، وواجب على زوجها إكرامها، والإحسان إليها، وكف الأذى عنها.
وإذا كانت أماً كان برُّها مقروناً بحق الله تعالى وعقوقها والإساءة إليها مقروناً بالشرك بالله، والفساد في الأرض.
وإذا كانت أختاً فهي التي أُمر المسلم بصلتها، وإكرامها، والغيرة عليها.
وإذا كانت خالة كانت بمنزلة الأم في البر والصلة.
وإذا كانت جدة، أو كبيرة في السن زادت قيمتها لدى أولادها، وأحفادها، وجميع أقاربها؛ فلا يكاد يرد لها طلب، ولا يُسَفَّه لها رأي.
ومهما كانت فهي الأم والعرض المصون الذي يجب أن يُصان ولو بضرب الرقاب.
عباد الله:
ما أحوج حامل الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية إلى الجندي المجهول, الزوجة التي تشاطره همومه، وتشاركه الرأي والمشورة، فتنصحه وتعظه، وتعينه على دنياه وآخرته, مشعرة إياه بالانسجام والتوافق والتأييد والثقة والمشاركة، وما أعظم الدعم الذي قدَّمته أمُّنا خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم إذ رجع بعد نزول جبريل عليه في الغار يرجف فؤاده من هول المطلع، فقال: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)، وقال لخديجة: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي).
فانظر إلى موقف المرأة الصالحة الواعية الودود المحبَّة لزوجها كيف تُزيل ما ألَمَّ به من عناء وقلق، فتقول له في ثقة وحزم: "كَلا، وَالله مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ" (رواه البخاري).
وإن الذي دفعنا للوقوف على هذا الموضوع بالتحديد هو مشاهدتنا ومعرفتنا بالعلاقة السائدة هذه الأيام عند بعض المسلمين وزوجاتهم, والتي اعتراها الغبار وشابتها الشوائب, فوجب إزالة الأتربة عنها وتصفيتها.
فلا يُعقل لمسلم حامل للدعوة مثلا أن يكون فظاً جلفاً غليظاً مع زوجته أم ولده وهو الذي يتأسى بالحبيب محمد صلى الله وعليه وسلم, حيث قال: "حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنْ النَّاسِ". رواه أحمد والترمذي عن ابن مسعود
كما لا يُعقل أن يهاجمها بالتجريح وقبح الكلام والضرب أو تسفيه للرأي, وكأنها أقل منه منزلة أو عقلا أو رأياً !!!
أو أن يمنعها من زيارة أهلها وأقربائها!!!
أو أن يتمنن عليها بالإنفاق وقد يمنعها ذلك أيضا!!
بل ووصل البعض أن منعوا زوجاتهم أن يحملن الدعوة أيضاً, وأجلسوهن في الخدور, بعيدات عن الفكر السوي ومرتع لوسائل الإعلام المغرض, فباتت زوجة حامل الدعوة الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر كسائر النساء اللاتي تم غزوهن الفكري وضرب مفاهيمهن الإسلامية, وبذلك قَبِلَ حامل الدعوة أن يُطعن من الخلف, لأنه غفل عن زوجته فما أحاطها اهتماما ولا جلس معها يناقشها أو يُعلمها مما فتح الله عليه.
وإني لأعجب كل العجب من مسلم لا يبدأ بأهله وزوجه وولده!
أوليسوا من هذه الأمة؟!
ألم يقل الله سبحانه وتعالى " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "؟! وقال أيضاً: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ "
فما هذه أخلاق المسلم, ولا هي أخلاق حامل دعوة, بل إن الدعوة التي يحملها لتبغضه وتمقته, فخيركم خيركم لأهله كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم, وهو والله خيرنا لأهله.
فهذا الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام لم يخجل يوماً من أن يُصرح بحبه لأزواجه رضي الله عنهن, حيث روى خالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ قَالَ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ عَائِشَةُ قُلْتُ مِنْ الرِّجَالِ قَالَ أَبُوهَا قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ عُمَرُ فَعَدَّ رِجَالًا فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ. صحيح البخاري
وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ فَيَقُولُ أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ قَالَتْ فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا فَقُلْتُ خَدِيجَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا. صحيح مسلم
بل وأكثر من هذا, فرسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب أم المؤمنين عائشة زوجه فيسابقها عدواً وجرياً أكثر من مرة, فعَنْ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَت : سَابَقَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْتُهُ ، فَلَبِثْنَا حَتَّى إِذَا رَهِقَنِي اللَّحْمُ سَابَقَنِي فَسَبَقَنِي ، فَقَالَ : " هَذِهِ بِتِيكِ " . رجاله ثقات، على شرط الشيخين البخاري ومسلم, وفي رواية: تصف عائشة رضي الله عنها تلك الأجواء الجميلة لها مع زوجها الحبيب عليه الصلاة والسلام أثناء السباق, فتقول: خَطَطْتُ خَطًّا بِرِجْلِي ، ثُمَّ قُلْتُ : تَعَالَ نَقُومُ عَلَى هَذَا الْخَطِّ . قَالَتْ : فَنَظَرَ فِي وَجْهِي فَكَأَنَّهُ عَجِبَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ ، قَالَتْ : فَقُمْنَا عَلَى ذَلِكَ الْخَطِّ ، قَالَتْ : قُلْتُ أذْهَبُ ؟ قَالَ : اذْهَبِي ، فَخَرَجْنَا ، فَسَبَقَنِي. إسناده حسن.
ولله در تلك المرأة أم زرع حين مدحت زوجها على الرغم من طلاقها منه, مع أن المرأة المطلقة ولا أعمم لا تكاد تذكر لزوجها السابق حسنة، إلا أن أم زرع لم تكن تبحث عن المال ولا الجاه بل كانت تبحث عن حسن العشرة والسكن والكلمة الطيبة والتودد, حيث روى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قالت أم زرع: زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ وَمَا أَبُو زَرْعٍ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ.
شرح الرواية وألفاظها: ((زوجي أبو زرع فما أبو زرع!): أي هل تعرفون شيئاً عن أبي زرع؟ (أناس من حلي أذني): النوس يعني الاضطراب والحركة، ومنه الناس؛ لأنهم يتحركون ذهاباً وإياباً. ومنه الحديث الذي في البخاري ، قال ابن عمر: (دخلت على حفصة ونوساتها تنطف)، النوسات: هي الظفائر، تنطف: يعني تقطر ماء، فقد كانت مغتسلة، وإنما سميت الظفيرة بهذا الاسم لأنها تتحرك إذا حركت المرأة رأسها. (أناس من حلي أذني): أي: ألبسها ذهباً في آذانها، وهي تتحرك، فالذهب يتحرك في آذانها بعدما كانت خالية، (وملأ من شحم عضدي)، تريد أن تقول: إنه كريم.. يعني أنه أخذها نحيلة والآن تخمت وسمنت لكرمه. (وبجحني فبجحت إلي نفسي)، يقول لها مداعبا ومغازلا: يا سيدة الجميع! يا جميلة! يا جوهرة! حتى صدقت ذلك، من كثرة ما بجحها إلى نفسها، (فبجحت إلى نفسي): أي: فصدقته، (وجدني في أهل غنيمة بشق)، يعني: شق جبل، أي أنها كانت تعيش في مكان فقير، فنقلها نقلة عظيمة، (فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق) نقلها إلى (أهل صهيل): أصحاب خيل، (وأطيط): أصحاب إبل, (ودائس) أي: ما يداس، وهذا كناية عن أنهم أهل زرع, (ومنق): المنق: هو المنخل، وفيها دلالة على الترف، فعندهم من كل المال، فهم أغنياء، عندهم خيل وإبل وزرع وطعام وافر, (فعنده أقول فلا أقبح) تقول: مهما قلت فلا أحد يجرؤ أن يقول لي: قبحك الله.. (وأرقد فأتصبح): تنام حتى وقت الضحى، وهذا يدل على أنه كان لديها الخدم الذين يقومون على عمل البيت, (وأشرب فأتقنح) أي: تشرب وتأكل تغصباً، فتأكل حتى تشبع، فيقال لها: كلي، فتتغصب الزيادة، وهذا لا يكون إلا إذا كان هناك دلال وحب. فقولها: فأتقنح فيه دلالة على أنها تترك الأكل والشرب زهداً فيه لكثرته.
والأجمل من هذا وذاك, حين روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هذا الحديث بحضرة زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال لها: كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ. وفي رواية النسائي قال لها: (كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ ولكني لا أطلقك). رواه البخاري ومسلم
عباد الله:
إن المسلم لا يتوانى عن مسح دموع أمته التي تذوق الويلات صباح مساء, فكيف لو كانت هذه الدموع دموع زوجته أو أهله من رعيته المسؤول عنهم, بل ويصرح لهم حبه وعطفه وخوفه عليهم تأسيا بالقدوة والأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم, فهذه صفيه رضي الله عنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان ذلك يومها ، فأبطأت في المسير ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى تبكى ، وتقول حملتني على بعير بطئ ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويسكتها .رواه النسائي
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ فَيَشْرَبُ. صحيح مسلم
إخواني وأخواتي الكرام:
اسمحوا لي أن أقف هنا وإياكم قليلاً على هذه الرواية التي تُظهر حلم النبي ورزانته وتّأنيه ووقاره والتُّؤَدَةُ التي كان ينعم بها صلى الله عليه وسلم مع أهله وأزواجه, فلا تراه مغاضباً على كل زلة أو موبخاً أو مهدداً. قيل لأعرابي: من العاقل؟ قال: (الفطن المتغافل). يعني: الذي يتجاهل بإرادته. فعن أَسَدُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا أَتَتْ بِطَعَامٍ فِي صَحْفَةٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَجَاءَتْ عَائِشَةُ مُتَّزِرَةً بِكِسَاءٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ فِلْقَتَيْ الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ كُلُوا غَارَتْ أُمُّكُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحْفَةَ عَائِشَةَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ عَائِشَةَ. صحيح النسائي
صلى عليك الله يا علم الهدى ما هبت النسائم وما نحات على الأيك الحمائم
كنت قد سألت العديد من الرجال عن موقفهم لو فعلت نسائهم كما فعلت عائشة رضي الله عنها من كسر وعاء أم سلمة في حضرة ضيوف لهم, وكانوا آنذاك لم يسمعوا بهذه الرواية فأجابوا: " أطلقها فوراً", وأخر قال: " أكسر رأسها"...
لكن الحبيب صلى الله عليه وسلم ذو التُّؤَدَةُ لم يزد على أن جمع بين فِلْقَتَيْ الصَّحْفَةِ مبرراً فعل أم المؤمنين عائشة بأنها غارت.
رحم الله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: " كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ".
فعَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّهُ قَالَ, قال عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ, قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتْ امْرَأَتِي لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا (أي تشير عليه بالرأي والمشورة) قَالَ فَقُلْتُ لَهَا مَا لَكَ وَلِمَا هَا هُنَا وَفِيمَ تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ ( أي ما تصنعين هنا وما دخلك أنت في أمري) فَقَالَتْ لِي عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ وَإِنَّ ابْنَتَكَ (حفصة رضي الله عنه زوجة النبي) لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ! فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ فَقَالَتْ حَفْصَةُ وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ فَقُلْتُ تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ وَغَضَبَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَا بُنَيَّةُ: لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا ( يُرِيدُ عَائِشَةَ) قَالَ ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ... صحيح البخاري
انظروا عباد الله إلى قول عمر الفاروق في أخر الرواية حين قال: "فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ", يقصد بذلك: أن أم سلمة رضي الله عنها بينت لعمر كثير من الأمور التي يجهلها في الحياة الزوجية تأسياً بأسوته وقدوته صلى الله عليه وسلم حتى خجل من نفسه رضي الله عنه وأرضاه.
فالزوجة أخي المسلم رعاك الله: ليست شريكة الحياة للزوج، وإنما هي صاحبته، فالعشرة بينهما ليست عشرة شركاء، وإنما عشرة صحبة، يصحب أحدهما الآخر صحابة تامة من جميع الوجوه، صحبة يطمئن فيها أحدهما للآخر، إذ جعل الله هذه الزوجية محل اطمئنان للزوجين, قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الروم21
فالزوج في بيته ليس حاكماً ولا متسلطاً وليس "سي السيد" الذي لا يُردّ له طلب, بل هو الأب والأخ الرؤوف العطوف الرحيم بزوجته القائم على رعايتهم, المربي المثال القدوة, اللين السهل, الودود القريب من أهله بحيث يسكن إليه أهله. فلا يعش أهله معه في خوف وترقب على فعالهم إن هم أخطئوا . بل إن معنى قيادة الزوج للبيت هي رعاية شؤونه وإدارته، وليس السلطة أو الحكم فيه، ولذلك فإن للمرأة أن ترد على زوجها كلامه، وأن تناقشه فيه، وأن تراجعه فيما يقول، لأنهما صاحبان وليسا أميراً ومأموراً، أو حاكماً ومحكوماً، بل هما صاحبان جعلت القيادة لأحدهما من حيث إدارة بيتهما، ورعاية شؤون هذا البيت. ولما كانت الحياة الزوجية قد يحصل فيها ما يعكر صفوها، فقد جعل الله قيادة البيت للزوج على الزوجة، فجعله قواماً عليها. قال تعالى: " الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ " وقال: : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ " ووصى المرأة بطاعة زوجها.
والسكن أخي المسلم: هو الاطمئنان، أي ليطمئن الزوج إلى زوجته والزوجة إلى زوجها، ويميل كل منهما للآخر ولا ينفر منه. فالأصل في الزواج الاطمئنان، والأصل في الحياة الزوجية الطمأنينة، وحتى تكون هذه الصحبة بين الزوجين صحبة هناء وطمأنينة بيَّن الشرع ما للزوجة من حقوق على الزوج، وما للزوج من حقوق على الزوجة.
ولما في العشرة والمعاشرة من أهمية بين الزوجين قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) النساء19. والعِشرة: هي المخالطة والممازجة وعاشره معاشرة وتعاشر القوم واعتشروا. فأمر الله سبحانه وتعالى بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون الخلطة فيما بينهم وصحبتهم مع بعضهم على الكمال، فإنه أهدأ للنفس، وأهنأ للعيش، ومعاشرة الرجال للنساء تكون زيادة على وجوب إيفائها حقها من المهر والنفقة أن لا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقاً في القول، لا فظاً ولا غليظاً ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها.
وقد وصَّى الرسول صلى الله عليه وسلم الرجال بالنساء فروى مسلم في صحيحه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع «فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف». ورُوي عنه عليه السلام أنه جميل العشرة يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويضاحك نساءه وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله، ويسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام يؤانسهم بذلك. وروى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خياركم خياركم لنسائهم».
أخي المسلم:
إياك ثم إياك أن تأتي يوم القيامة وزوجك تجرّك أمام الخلائق وقد وُضع كتابك, فتخاصمك وتشكوك إلى الله وتقول: يا رب خذ لي مظلمتي من زوجي فإنه ما اتقى الله فيّ وقد أخذني من قبل بأمانتك واستحللني بكلمتك... يا رب خذ لي مظلمتي منه!!!
فاتق الله أخي وتأسّ بالحبيب صلى الله عليه وسلم في حياته وعشرته مع أزواجه وصبره وحلمه عليهن, ولك الأجر إن شاء الله.
أختي المسلمة:
اتقي الله في زوجك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاك به خيراً, ففِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَا يَصْلُحُ لِبَشَرِ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرِ وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرِ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا, مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا, وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةٌ تَجْرِي بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحِسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ". وفي رواية: " وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ, لَكَانَ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ". أَيْ لَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تَفْعَل. رواه ابن ماجه
كوني رعاك الله كعائشة رضي الله عنها: التي ملأت بيتها بالسعادة ، وخففت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أحزانه ، وهمومه ، وكانت نعم الزوجة . حيث جاء في الرحيق المختوم أن رسول صلى الله عليه وسلم عَرَقَ مرة وهو عند عائشة رضي الله عنها، وكان يَخْصِفُ نعلاً، وهي تغزل غزلاً، فجعلت تبرق أسارير وجهه، فلما رأته بُهِتَتْ وقالت: والله لو رآك أبو كَبِير الهُذَلي لعلم أنك أحق بشعره من غيرك: وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل
هكذا الزوجة الصالحة مع زوجها ، فإنها تخفف عنه هموم الدعوة ، وتعيد له نشاطه من جديد ، ولا تكون سبباً في كثرة المشاكل ؛ والتي تؤدي إلى فتور الزوج ، وكثرة همومه ومشاكله الحياتية ؛ والتي تؤثر على حياته الدعوية .
وكوني كخديجة رضي الله عنها: فيما روينا آنفاً حين آوت زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته وأعانته في شدّة وأحلك الظروف, فلم ينس رسول الله لها هذا الصنيع, فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ ، قَالَتْ : فَغِرْتُ يَوْمًا ، فَقُلْتُ : مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُ حَمْرَاءَ الشِّدْقَيْنِ ! قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا . قَالَ : " أَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا ؟ ! قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِيَ النَّاسُ ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ أَوْلَادَهَا وَحَرَمَنِي أَوْلَادَ النَّاسِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ
عباد الله:
ما بينكم وبين أزواجكم أسمى من أن تدنسه لحظه غضب عارمة. فآثروا السكوت على سخط المقال، والعفو عن الزلات أقرب إلى العقل والتقوى، وتذكروا دومًا أن الله قد أغلظ ميثاق الزواج فقال سبحانه (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) مشبهًا ميثاق الزواج هذا بالميثاق الذي أخذه على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام إذ قال (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) فكونوا عباد الله وإمائه على قدر هذا الميثاق الغليظ، وكونوا على قدر تلك النعمة التي أنعمها الله على بني آدم إذ جعل رجالها سكنًا لنسائها وجعل نساءها سكنًا لرجالها، فكيف يمكن لمثل هذه النعمة أن نجحدها بنفرةٍ هنا تجرح، أو كلمةٍ هناك تنقح، فتقر المودة ويستقر النفور، إياكم عباد الله، فتلك عدّها الله آيةً من آياته من لم يشكره عليها فقد جحدها، وما شكره إلا بالمحافظة عليها وأداء الحق تجاهها، فكونوا كما يحب ربكم، ويرضى نبيكم.
وآخر القول دعاء وحمد، فاللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا،
والحمد لله رب العالمين.