لأنّك تعيش حياة واحدة

د. عبد المجيد البيانوني

د. عبد المجيد البيانوني

في ساعة مباركة ، جمعتني بأحبّة بعد عهدي بهم سنوات ، كان في المجلس شابّ طموح ، حقّق في سنوات قليلة من النجاح المهنيّ والتجاريّ ما لا يطمح إليه أمثاله بعقدين من السنين على الأقلّ .. فأمسك ذلك الشابّ بناصية الحديث ، واندفع يشكو للحاضرين مأساته .. وكان قريب عهد كما يقول بفقد صديق عزيز عليه ، بموت مفاجئ .. وكان حديثه أشبه بساعة حساب للنفس وتقريع ..

وكان خلاصة ما قال : " لا تغترّوا بما يتحدّث الناس عنّي من نجاحات .. قد يكون بعضها صحيحاً .. ولكنّ حياتي سلسلة طويلة من التدهور والأخطاء .. التي لم أعد أجد السبيل للخروج منها .. فأيّ قيمة أو معنى لنجاحي .؟! وهو على حساب تقصيري بحقّ أطفالي ، الذين لا يجدون أباهم بجانبهم في الليل ولا في النهار ، ولا أجد شيئاً من الوقت أقضيه معهم .! وكنت يوماً ما أحلم أن أكون مثاليّاً في تربيتهم ورعايتهم ..

وأيّ قيمة أو معنى لنجاحي .؟! وهو على حساب تقصيري بحقّ زوجتي .. التي لا تراني إلاّ قلقاً متوتّراً .؟! ولا تسمع منّي إلاّ مشكلات عملي ، واتّصالات متعدّدة لمتابعة أعمالي مدّة وجودي معها ..

وأيّ قيمة أو معنى لنجاحي .؟! وهو على حساب تقصيري بحقّ والديّ .. اللذين لا أراهما إلاّ سويعة كلّ أسبوع ، ولا يسعفني الوقت لتقديم أيّ خدمة مباشرة لهما .؟! ولا تراني والدتي إلاّ مهموماً مشغولاً ..

وأيّ قيمة أو معنى لنجاحي .؟! وهو على حساب تقصيري بحقّ الله تعالى .. وقد أصبحت أصلّي الصلاة ، وقلبي وفكري يسرح يمنة ويسرة ، وربّما أرتج عليّ حتّى في قراءة الفاتحة .؟! وربّما قرأت السورة كلّها ، ولم أعِ منها كلمة واحدة .!

لقد أصبحت أحسّ أنّني كالسيارة المندفعة من قمّة جبل بلا كوابح ، فأيّ حال ستؤول إليه .؟! أو كالآلة الصمّاء التي لا تعقل ولا تحسّ .. وأنهى صاحبنا كلامه ، والأسى يعتصر حروفه وأنفاسه ، وقال بكلّ أدب : أريد منكم أيّها السادة أن تقدّموا لي المخرج من هذه الدوّامة ..

فأدلى كلّ من الحاضرين بدلوه ، وكان أكثر ما قيل من قبيل العمومات ، والمواعظ التي يعرفها ، ولكنّه لا يعرف الطريق إليها .. وعندما طلب منّي أن أقول رأيي قلت له : أظنّ أنّي سمعت منك ما يشبه هذا القول منذ سنتين ، ولو كتب لنا أن نلتقي بعد سنة أو سنوات لربّما سمعنا منك أيضاً ما يشبهه .! فأنت في صحوة ضمير مؤقّتة .. ومعنى هذا أنّك تراوح مكانك ، وتدور في حلقة مفرغة ، وأنّك بحاجة إلى أن تكفّ عن جلد النفس وتقريعها ، وتبدأ منذ هذه اللحظة بالتغيير ، وتخطو أوّل خطوة في طريقه .. والتغيير يتطلّب منك يا أخي صحوة ضمير صادقة ، وعقيدة راسخة : أنّك لن تعيش في هذه الدنيا سوى هذه الحياة ، التي هي ميدان الاختبار والابتلاء ، وأنّ الخسارة فيها لا تعوّض ، ومفقودها لا يردّ ، وما فات وقته عزّ عليك تداركه ..

فما الحلّ إذن .؟! الحلّ يا صاحبي في نظري باختصار وبكلمات محدودة ومعدودة ، كما يعلّمنا النبيّ e في وصيّته الجامعة: " أعط كلّ ذي حقّ حقّه " :

فهذه الجملة النبويّة المباركة تقرّر مبدأ إسلاميّاً وفطريّاً في آن واحد ، وهو مبدأ محوريّ في حياة الناس .. إنّه مبدأ التوازن .. التوازن في الفهم .. والتوازن في السلوك .. والتوازن في العلاقات .. التوازن الذي يعني الوقوف مع الأولويّات بصرامة .. والتوازن صنو النجاح الحقيقيّ ، الذي لا يقبل التجزئة ، ولا يغفل شيئاً من كيان الإنسان وعلاقاته .. والتوازن والنجاح يعنيان سعادة الإنسان ، وطمأنينة نفسه ، وراحة ضميره .. التوازن يا أخي يملأ حياتك بهجة وسروراً ، لأنّه يجدّد حياتك ، ويذكي حيويّتك ، ويحفّز همّتك ونشاطك ، وأنت تنتقل من واجب إلى آخر ، تؤدّي مسؤوليّة هنا ، ثمّ تسدّ ثغرة في مسؤوليّة أخرى هناك .. ويجعلك ترى بعينيك كيف أنّ مسؤوليّاتك تتضافر كلّها لتحقيق أهدافك ..

ابدأ يا أخي منذ هذه اللحظة .. ابدأ الآن ، وبدون تسويف .. ابدأ بتعديل برنامجك اليوميّ .. ابدأ بقليل من التعديل ، الذي لا يحدث لك نقلة نوعيّة مفاجئة ، يصعب الاستمرار عليها ، وخذ نفسك بالعزيمة ، وما تعتقد أنّه الصواب ، ولا تسمح لها أن تتمادى مع الخطأ .. وهذا ما يتطلّب منك الوقفة الحازمة مع النفس ، والمحاسبة الدقيقة ، لاكتشاف مواطن الضعف ، ونقاط الخلل والخطأ ، وأحسن الوسائل لاستدراك النقص ، والسير في طريق الرقيّ والكمال ..

إنّك يا أخي بحاجة إلى وقفة جادّة مع النفس لتحديد رسالتك في الحياة وأهدافك ، وما الطريق الواضح إليها .؟ وماذا تريد أن تكون .؟ ما نقاط قوّتك ؟ وما نقاط ضعفك .؟ وهل أنت قريب من أهدافك ، أم أنّك بعيد عنها ، أم تسير في اتّجاه مخالف لها .؟ وما المبادئ والقيم التي تميّز شخصيّتك .؟ وإلى أيّ درجة أنت محافظ عليها ، وملتزم بها .؟

واسمح لي أن أضرب لك أمثلة واقعيّة : ابدأ علاقتك المقطوعة مع أطفالك بربع ساعة ، ولتكن صباحاً أو مساءً ، أو على مائدة الطعام ، أو في التوصيل إلى المدرسة .. استغن عن السائق في توصيلهم صباحاً ، وتحدّث معهم وأنت توصّلهم ، واستمع إليهم وحاورهم ، واسألهم عن مدرستهم ، ومعلّميهم ورفاقهم ، ومن يحبّون منهم ، ولماذا يحبّونهم .؟! ثمّ طوّر هذه العلاقة ، لتصل بعد شهر أو شهرين على حدّ أقصى إلى ساعة ، تزيد عليها ، ولا تنقص منها .. ووثّق علاقتك بأطفالك ، حتّى تكون كلّ شيء في حياتهم .. وإلاّ فإنّك ستصحو يوماً ما لترى أولادك على أبواب المراهقة ، وقد تقطّعت روابطهم بك ، إلاّ رابطة باهتة مشوّشة ، لا تقف في وجه أيّ إعصار من أعاصير الحياة وتيّاراتها وفتنها ..

واقتطع مثل هذا الوقت لزوجتك ، وطوّره حتّى يبلغ هذا الحدّ على الأقلّ .. واعلم أنّ البديل عن ذلك أن تصحو يوماً فترى نفسك على أعتاب الطلاق الحقيقيّ أو العاطفيّ ، وكلّ منهما شرّ من صاحبه ، في حقيقته وعواقبه ..

وليكن لك لقاء أسبوعيّ بوالديك ، تنعم فيه بقريهما ، وتغنم به برّهما ، وتقرّ به أعينهما ، وليكن احتفالاً على الطعام تارة ببيتك ، وتارة ببيتهم ، تجمع أسرتك مع والديك ، فيفرحون بك وبأولادك ، وتجدّد لهم بهجة الحياة في أنفسهما ، ويلهجون بالدعاء لك ولأهلك وأولادك ، في حضورك وغيبتك .. ولست أنسى في هذا المقام صديقاً كنت أعزّيه بوفاة والده ، فبكى بكاءً مرّاً ، وعندما حاولت التخفيف عنه قال لي : هل تعلم أنّ حزني يتضاعف عندما أتذكّر أنّني منذ ثلاث عشرة سنة لم أجتمع مع والدي على سفرة طعام ، كان كلّما يبدي لي رغبته أتعلّل له بمشاغلي وأعتذر .. وأتمنّى اليوم لو كنت متجرّداً عن تلك التفاهات التي حرمتني من مجالسة والديّ ومؤاكلتهما ومباسطتهما .!

وهذه العلاقات الإنسانيّة بصورتها السويّة جزء لا يتجزّأ من سعادتك النفسيّة ، وبهجة قلبك وراحته ..

وبعد؛  فلأنّك تعيش حياة واحدة يا أخي .! عليك أن تملأها بأثمن ما تملأ به الحياة ..

ولأنّك تعيش حياة واحدة يا أخي .! عليك أن تحكم خطواتك فيها ، وتجعل كلّ خطوة محسوبة الدوافع والثمرات ..

ولأنّك تعيش حياة واحدة يا أخي .! عليك أن تضنّ بكلّ لحظة منها فلا تضيع في سفساف الأمور وفارغ الاهتمامات ..

لأنّك تعيش حياة واحدة يا أخي .! عليك أن تكون في كلّ لحظة مستعدّاً للرحيل ، وأنت مطمئن أنّك في المسار الذي يرضي ربّك ، ويسعدك في آخرتك ..

فاستعن بالله ولا تعجز ، واعزم على الرشد ، وانظر أمامك ، ولا تتباك على الماضي ، فتضيّع يومك وغدك .. والله يتولاّنا وإيّاك بتوفيقه وهداه ..