رجال الشدائد

خليل الجبالي

[email protected]

الإبتلاء  سنة من سنن الله الكونية ، تصيب المؤمن والكافر علي السواء، فيكون الإبتلاء للكافر عقاباً وجزاءاً، وللمؤمن تذكرةً ورحمةً، يكفر الله به الذنوب ويمحو به الخطايا لمن صبر واحتسب ذلك عنده سبحانه وتعالي.

الإبتلاء قد يكون تمحيصاً للقلوب وإختباراً للنوايا، فيظهر من خلالها الصادق المحتسب من الكاذب المتمرد.

قال تعالي [الّـم(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2) ولَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ (3)] سورة العنكبوت.

والمؤمن الذي يعيش في محنة وإبتلاء يقوي نفسه بالتقرب إلي الله ويحتاج إلي من يشد عضده ، أو يأخذ بيده، أو يكون عوناً له علي مصيبته وإبتلائه، وهكذا يجب أن يكون المسلمون مع إخوانهم، فرسول الله صل الله عليه وسلم كان يعلم صحابته كيف يكونون عوناً لإخوانهم علي طاعة الله ، والبعد عن سخطه بعدم التمرد علي إبتلاءه أو الضجر في مواقف الإبتلاءات ، فقد قال رسول الله صل الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد . إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه مسلم.

ومر رسول الله صل الله عليه وسلم علي عمار بن ياسر وهو يُعذب عذاباً شديداً فقال له صل الله عليه وسلم: (صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة ) رواه جابر بن عبدالله وصححه الألباني .

ويقول خباب بن الأرت : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو لنا ؟ فقال صل الله عليه وسلم : ( قد كان من قبلكم ، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، فما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ) رواه البخاري.

هكذا كان رسول الله يشد من أزر صحابته ويقوي من عزيمتهم ويشحذ من همتهم ويأخذ بأيديهم ويعين طالبهم ويقوي ضعيفهم وينصر مظلومهم.

إن الحوادث والأحداث المريرة تمر علي بعض الناس لتملأ قلوبهم حسرة وأسى، ولكنها عندما تمر علي المؤمن المدرك لأمر ربه، الواعي لنتيجة الإبتلاء بالصبر والتحمل وتحليل الحدث ووضعه في موضعه الصحيح.

فالإبتلاء للمؤمنين خير مهما كان نوعيته (ونَبْلُوكُم بِالشَّرِّ والْخَيْرِ فِتْنَةً وإلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)سورة الأنبياء.

(وبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ والسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)سورة الأعراف.

إن المؤمنين لهم مكانة عظيمة عند ربهم لما لديهم من الإيمان والعمل، فصاروا بمكانتهم في ولاية الله (اللَّهُ ولِيُّ الَذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ) سورة البقرة.

ومع ذلك فقد جعل الله من هؤلاء المؤمنين فئة وصفهم بالرجولة، يصدقون وعدهم ، يضحون بأموالهم وأنفسهم، ويتحملون الشدائد (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)) سورة الأحزاب.

رجال الشدائد يوصفون بالإيجابية التي تجعلهم يتحملون تلك الشدائد ويعملون علي تجاوزها.

فمهم لا يرضوا بالخطأ أوالظلم،ويسعوا سعياً جاداً متواصلاً  من أجل التغيير والإصلاح.

فما قيمة الحياة دون نصرة المظلوم أو الوقوف في وجه الظالم، وهذا ما فعله مؤمن آل فرعون الذي وصفه ربنا تبارك وتعالي بالرجولة فقال: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20)﴾ (القصص).

﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)﴾ (غافر).
وكذلك هذا ما فعله مؤمن آل يس 
﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21﴾) (سورة يس).

فكلا الرجلين جاءا من مكانٍ بعيد، وقطعا مسافات طويلةً، فجاءا من أقصى المدينة، من أجل أن يُقدِّما النصيحة، ويساعدا المظلوم، ويغيرا المنكر، وينصحا الظالم، حتى لا تفسد الحياة بغياب الناصحين المصلحين.
رجال الشدائد رجال طاعة مع الله ، يعمرون المساجد بالذكر والتهليل وإقامة الصلوات.

فهم رجال لم ينشغلوا عن الله ولم يلهيهم شيئٌ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور:37،36)

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من هؤلاء الصادقين الذين يتحملون الشدائد والذين حق لهم أن يوصفوا بالرجال.