هجرة أسماء بنت عميس
قصة مهاجر (5)
د. نعيم محمد عبد الغني
أسماء بنت عميس من المهاجرات الأول، حيث أسلمت قبل أن يدخل الرسول والصحابة دار الأرقم بن أبي الأرقم، خصها النبي بالدعاء عندما جهزت له ابنته فاطمة، وكانت معها كأمها في ليلة بنائها، ومن أمانتها جعلها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تغسل ابنته رقية، ثم كانت مع سيدنا علي في غسل فاطمة الزهراء، وأوصى أبو بكر الصديق بأن تغسله حيث مات وهي زوجته، وتوفيت أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- في سنة 40 من الهجرة.
كانت أسماء ذكية ذات منطق وبيان، ومن هذا الذكاء ما ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء2/75 عن الشعبي قال: تزوج علي رضي الله تعالى عنه أسماء بنت عميس بعد أبي بكر، فتفاخر ابناها محمد بن أبي بكر وعبد الله بن جعفر، فقال كل واحد منهما: أنا خير منك وأبي خير من أبيك.
فقال علي لأسماء اقض بينهما، فقالت لابن جعفر: أما أنت يا بني فما رأيت شابا من العرب كان خيرا من أبيك، وأما أنت يا بني فما رأيت كهلا من العرب خير من أبيك، فقال لها علي ما تركت لنا شيئا، ولو قلت غير هذا لمقتك.
هذا الذكاء جعلني أبحث عن قصتها في الهجرة، فاجتهدت في مراجعة كتب التراجم والطبقات لأجد لها حكاية أو قصة عن هجرتها فلم أجد إلا أنها كانت من المهاجرين إلى الحبشة في السفينة عبر البحر، ولذا سموا بأصحاب السفينة، ثم من المهاجرات إلى المدينة بعد ذلك وأنها من أصحاب الهجرتين والقبلتين، ولم أقرأ إلا حديثا لطيفا يأتي في إطار التنافس بين الرجال والنساء في المسارعة إلى الخيرات، وتحصيل الثواب، فعن أبي موسى قال: بلغنا مخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وأخوان لي، أنا أصغرهم، أحدهم أبو بردة والآخر أبو رهم، إما قال بضع وإما قال ثلاثة وخمسون وإما اثنان وخمسون رجلا من قومي، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثنا ها هنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، قال فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا.
قال فوافقنا النبي -صلى الله عليه وسلم- حين افتتح خيبر فأسهم لنا، أو قال أعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، فقسم لهم معهم، قال: فكان ناس من الناس يقولون لنا -يعني لأصحاب السفينة-: سبقناكم بالهجرة. قال: فدخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء من هذه؟ فقالت: أسماء بنت عميس، فقال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم.
فقال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منكم، فغضبت، وقالت: كلا يا عمر، كلا والله، كنتم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطعم جائعكم، ويعظ هالككم، وكنا في دار - أو في أرض - البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وايم الله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لنبي -صلى الله عليه وسلم- وأسأله والله ولا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه. فلما جاء ت النبي -صلى الله عليه وسلم-، قالت يا نبي الله: إن عمر قال كذا وكذا؟ قال: (فما قلت له).
قالت: قلت له كذا وكذا قال: (ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم - أهل السفينة - هجرتان). قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا، يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-. رواه البخاري وأصحاب السنن.
إن هذا الحديث الذي كانت فيه مناظرة بين أسماء بنت عميس وسيدنا عمر يجعلنا نستشف بعض الأمور:
الأول: أن أسماء بنت عميس بلغت شهرتها بين الصحابة مبلغا عظيما، ولم تعرف بشخصها، بل عرفت بعملها، وهكذا يوزن المرء بعمله، لا بشخصه وحسبه ونسبه وجنسه ولون، فعمر رآها للمرة الأولى عند حفصة، ولكنه سمع عنها وسمع من أمر هجرتها ما جعله يقول ذلك.
الثاني: أن الصحابة كان بينهم تنافس في الخير وبذل الثواب، وابتغاء مرضاة الله، وشواهد ذلك كثيرة، فعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.
الثالث: أن ثواب الهجرة محدد بمقدار الجهد المبذول فيها، فالذي هاجر في الخوف ليس كالذي هاجر في الأمان، وقد ذكرنا ذلك في قصة مهاجر اليمن الذي قال للرسول: إني هاجرت، فبين له النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه ليس من المهاجرين المخصوصين بالثواب، وإنما يدخل في مفهوم الهجرة العام من هجرة الشرك ونحوه، فقال: هجرت الشرك، وقد وعى سيدنا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- هذا الدرس، فلما قسم العطاء أعطى لعبد الله ابنه ثلاثة آلاف ونصف، وأعطى باقي المهاجرين أربعة آلاف، وكانت حجته أن عبد الله هاجر مع أبيه الذي لم تجرؤ قريش على الاقتراب منه، أما هؤلاء المهاجرون فقد تركوا أموالهم وديارهم وخرجوا متخفين، حتى يبلغوا مأمنهم في المدينة أو الحبشة، وقد حاولت قريش إرجاعهم من الحبشة أكثر من مرة وأفلحوا في إحدى هذه المرات. والنبي –صلى الله عليه وسلم قدر جهد الذين هاجروا للحبشة، وبشرهم بثواب الهجرتين.
الرابع: أن النبي –صلى الله عليه وسلم كان يحترم رأي المرأة ويقدرها، ويعرف رأيها، وهذا الموقف من الشواهد الدالة على ذلك.
والحديث به فوائد كثيرة قد يتسع لها مقام آخر إن شاء الله، ومع لقاء جديد في قصة المهاجر جعفر بن أبي طالب زوج السيدة أسماء بنت عميس، فبينهما قدر كبير من التوافق في العقل والمناظرة.