وآتاكم من كل ما سألتموه
د.عثمان قدري مكانسي
قرأت اليوم سورة إبراهيم ، فلما وصلت إلى قوله تعالى : " وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) " تحرك شيطان الجن فقال :
كيف تصدق أنه – سبحانه – آتاكم من كل ما سألتموه ؟ وأنت تعيش حياة مستورة ليس لك فيها كثير مال ، ولم تحظَ من الشهرة ما وصل إليه غيرك؟ وفيك من القدرات العلمية ما يفوق كثيراً ممن تجدهم متصدرين ، وما يزال عطاؤك مستمراً ؟ ... وبدأ يحاول زرع الشك في نفسي – أعانني الله على وسوساته ونفثاته – ويأتيني بصورة المشفق عليّ وهيئة الناصح الصدوق .
قلت والله لأخزينّك بعونه تعالى ، ولن تجد في قلبي سوى الإيمان بالله تعالى وحبه والرضا بقدره ، والرغبة الصادقة أن أكون من عباده الصالحين المؤمنين به وبدينه ، أتعلق بأستاره وألزم راية نبيه ، ولن تجد عندي سوى الإعراض عن وسوساتك ونفثاتك ، وقرأت المعوّذتين ، وقمت إلى تفاسير القرآن أرتوي من شهدها ما يطرد علقم الشيطان ويزرع الإيمان في نفسي ويقوّيه . وإلى أحاديث الحبيب المصطفى أستلهم الفكر السليم والجواب الشافي .
روى ابو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من دعا بدعوة ليس فيها مأثم ولا قطيعة رحمٍ أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث إما أن يغفر له بها ذنباً قد سلف وإما أن يعجل له بها في الدنيا وإما أن يدخرها له في الآخرة ."
قلت والله هذا ما أراه في حياتي ، فما دعوت الله تعالى في أمر ذي بال إلا حققه لي أو شعرت براحة في نفسي وزالت همومي ، ولتكونن الثالثة في الآخرة محققة إن شاء الله تعالى .
وأفتح ظلال الشهيد سيد قطب رحمه الله فينشرح صدري بقوله : " وآتاكم من كل ما سألتموه " من مال وذرية وصحة وزينة ومتاع .. " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " فهي أكبر من أن يحصيها فريق من البشر ، أو كل البشر ، وكلهم محدودون بين حدّين من الزمان : بدء ونهاية . وبحدود من العلم تابعة لحدود الزمان والمكان ، ونِعَمُ الله مطلقة – فوق كثرتها – فلا يحيط بها إدراك إنسان . .. " ثم يعدد بعض النعم من شمس وقمر وماء وأنهار ونبات وأشجار وأنعام ، كلها سخرت للإنسان ولخدمته ، وجعله سيداً لها . ويقول سيدٌ كذلك بلسان المؤمن وقلبه الحي: " أفكل هذا مسخر للإنسان ؟ أفكل هذا الكون الهائل مسخر لذلك المخلوق الصغير؟ السماوات ينزل منها الماء والأرض تتلقاه ، والثمرات تخرج من بينهما ، والبحر تجري فيه الفُلْك بأمر الله مُسَخّرة والأنهار تجري بالحياة والأرزاق في مصلحة الإنسان ، والشمس والقمر دائبان لا يفتران ، والليل والنهار يتعاقبان ... أفكل ذلك للإنسان ؟ ثم لا يشكر ولا يذكر! . "
وأقرأ مثل هذا وشبيهه عند القرطبي وابن كثير رحمهما الله ، فأردد بلساني وبقلبي : نعم آتانا من كل ما سألناه ، فله الحمد وله الشكر دائمين دائبين . ومما قرأته في تفسيري هذين الكريمين رحمهما الله تعالى :
- أن داوود عليه السلام أنه قال : أي رب كيف أشكرك , وشكري لك نعمة مجددة منك علي . قال : يا داود الآن شكرتني .
- يقول ابن كثير : فحقيقة الشكر على هذا الاعترافُ بالنعمة للمنعم . وألا يصرفها في غير طاعته ; وأنشد بعضُهم الخليفة َ الهاديَ وهو يأكل :
أنالك رزقه لتقوم فيه بطاعته وتشكر بعض حقه
فلم تشكر لنعمته ولكن قويت على معاصيه برزقه
فغص باللقمة , وخنقته العبرة .
- وقال جعفر الصادق : إذا سمعت النعمة َ نعمة َ الشكر فتأهب للمزيد .
- وقد جاء في الحديث " إن العبد ليُحرمُ الرزقَ بالذنب يصيبه" .
- وقوله" وآتاكم من كل ما سألتموه " يقول هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم وقال بعض السلف من كل ما سألتموه وما لم تسألوه .
- قال طلق بن حبيب رحمه الله : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد وإن نِعَم الله أكثر من أن يحصيها العباد ، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين .
- وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " اللهم لك الحمد غير مكفيٍّ ولا مودع ولا مستغنى عنه ؛ ربنا " .
- وقد روي في الأثر أن داود عليه السلام قال يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي ؟ فقال الله تعالى الآن شكرتني يا داود أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم ;
- وقال الإمام الشافعي رحمه الله : الحمد لله الذي لا تؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها وقال القائل في ذلك :
لو كل جارحة مني لها لغة تثني عليك بما أوليت من حسن
لكان ما زاد شكري إذ شكرت به إليك أبلغ في الإحسان والمنن
وأفتح الدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي رحمه الله فأقرأ درراً ثمينة أرسم بعضها في هذه القالة الصغيرة :
- عن بكر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ما قال عبد قط " الحمد لله " إلا وجبت له نعمة بقول "الحمدُ لله ". فقيل له : فما جزاء تلك النعمة الجديدة ؟ قال : جزاؤها أن يقول " الحمد لله " فجاءت نعمة أخرى ، فلا تنفد نعمُ الله .
- وقال سليمان التيمي : إن الله أنعم على العباد بقَدْره ، وكلّفهم الشكر على قدْرهم .
- وروي عن بكر بن عبد الله المزني أنه قال : يا ابن آدم ؛ إذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك فأغمض عينيك .
- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قلّ عِلمُه وحضر عذابُه.
- وقال سفيان بن عُيَيْنة : ما أنعم الله على العباد نعمة أعظمَ من أن عرّفهم " لا إله إلا الله " ، وإنّ " لا إله إلا الله لهم في الآخرة كالماء في الدنيا " .
- وروى أبو أيوب القرشي مولى بني هاشم قال : قال داوود عليه السلام : ربذ أخبرني ما أدنى نعمتك عليّ ؟ فأوحى الله : يا داوود تنفسْ . فتنفّسَ فقال ك هذا أدنة نعمتي عليك .
- وعن وهب بن منبه قال : عبدَ اللهَ عابدٌ خمسين عاماً ، فأوحى اللهُ إليه أني قد غفرْتُ لك . قال : يا رب ؛ وما تغفر لي ؟! ولم أذنب ؟. فأذِنَ اللهُ لعِرْقٍ في عنقه فضَرَب عليه . فلمْ ينَمْ ولم يُصَلّ ، ثم سكن العرق فنام العابد تلك الليلة ، فشكا إليه ، فقال : ما لقينُ من ضرَبان العِرق ؟ قل الملَك : إن ربك يقول : إن عبادتك خمسين سنة تعدل سكون ذلك العرق .
- وعن عمر الفاروق رضي الله عنه قال : اللهم اغفر لي ظلمي وكفري . قال قائل: يا أمير المؤمنين ؛ هذا الظلمُ .. فما بال الكفر؟! قال عمر : " إن الإنسان لَظلومٌ كفار" .
أقول ، وأملي بالله كبير :
سألتك ربي الرضا بالقدرْ وأن تغفر ذنبي فخطويْ عَثر
وتكرمَني، إنّ عفوَ الكري م لأهل الذنوب بهيّ الأثرْ
وأكرمْ أصولي وأكرمْ فروعي فإن تعفُ نلنا كمالَ الوطرْ
وأحسن إلى المسلمين ؛ إلهي فإنا بحال طغى واستَحَرّ
وليس سواك المجير، وظني بأن الإله يزيل الخطر