رحيل رمضان
د. نعيم محمد عبد الغني
هكذا دارت عجلة الزمان وانقضى شهر رمضان الذي كان ضيفا حل ورحل، والأيام كلها كالضيف، والضيف يكون ثقيلا إذا كان مكروها في جلسته، وملولا في حديثه، وكذا الزمن فقد يكون طويلا على الإنسان في حالات، ويكون قصيرا جدا في حالات أخرى، فطوله يكون عند الفراغ، وقصره عند شغله بالعمل، وفي كل الأحوال الزمن ضيف، وأي ضيف يرتحل عن الذي يضيفه بحمده أو ذمه، فعلى المرء أن يحسن من ضيافة يومه بل من ضيافة وقته ولا يضيع وقته فيما لا يفيد، فإن من المقت إضاعة الوقت.
سيتحدث الزمن بأن رمضان كان ضيفك، فهل أكرمت وفادته، وأعطيته عملا صالحا، أم كنت غير ذلك؟
كان الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان ثم تكون ستة أخرى يسألونه أن يبلغهم إياه، وفي هذا لمحة ينبغي الوقوف عندها في آخر أيام هذا الشهر الكريم، هذه اللمحة تتلخص في سؤال: هل قبل الله عملي من صيام وصلاة وصدقة وقراءة القرآن وسائر الأعمال الصالحة؟
إن علامة قبول العمل فيما يذكر كثير من العلماء تتمثل في المداومة على العمل الصالح، فخير العمل أدومه وإن قل، أخرج البخاري بسنده عن علقمة قال: سألت أم المؤمنين عائشة قلت يا أم المؤمنين كيف كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم هل كان يخص شيئا من الأيام ؟ قالت لا كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يستطيع؟
إن عدم قبول العمل يوجب الفتور والكسلان، واعتقاد قبوله يوجب النشاط، فيواصل المرء اجتهاده وعمله الذي ينبغي أن تتوفر فيه ثلاثة شروط كي يرجى قبوله من الله.
والشرط الأول الإسلام فلا يقبل الله عملا من كافر، مهما أقام من مشروعات خيرية، ومهما عمل لصالح البشرية، لأن ذلك سيعود عليه بنفع دنيوي في صور شتى أقلها ثناء الناس عليه، وكل نفس بشرية مسلمة كانت أم غير مسلمة جبلت على حب الثناء، ولذا فإنهم عندما يعرضون على الله تعالى فإنه يقول لهم: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)؛ الأحقاف 20؛ لأن (الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) النور 39
والله تعالى يشبه أعمالهم وإنفاقهم بأنه كريح صر، فيقول: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) آل عمران 116، 117
يقول صاحب الظلال معلقا على هذه الآية: (لن تنفعهم نفقة ينفقونها في الدنيا ولن ينالهم شيء منها في الآخرة لأنها لم تتصل بخط الخير الثابت المستقيم. الخير المنبثق من الإيمان بالله، على تصور واضح، وهدف ثابت، وطريق موصول. وإلا فالخير نزوة عارضة لا ثبات لها، وجنوح يصرفه الهوى، ولا يرجع إلى أصل واضح مدرك مفهوم، ولا إلى منهج كامل شامل مستقيم).
فالشرط الأول إذاً في قبول العمل هو شرط الإيمان وليس في هذا ظلم كما بين القرآن الكريم.
أما الشرط الثاني فهو شرط الإخلاص، فالله أغنى الشركاء عن الشرك، وكبرياء الله تعالى يحول دون أن يشرك أحد معه غيره، والعبادة كلها ينبغي أن تكون خالصة له، (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) فالله خلقنا لعبادته، وهذه الغاية تقتضي الإخلاص لله في عبادته، (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين). وهذا المعنى معروف مشهور وحديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة تشيب له الولدان، فمنهم المجاهد والمنفق وقارئ القرآن، ولكنهم عملوا هذه الأعمال ابتغاء الثناء، وقد تساووا مع من فقد شرط الإيمان بهذا الشرك فأخذوا طيباتهم التي يحبونها في الدنيا، أخرج الحاكم في المستدرك عن أبي قرة الأسدي قال: سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنه قد أوحي إلي أنه من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا كان له نورا من أبين إلى مكة حشه الملائكة.
وفي مستدرك الحاكم أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله إني أقف الموقف أريد وجه الله و أريد أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا حتى نزلت: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا)
وأخيرا ينبغي أن يأتي العمل وفق ما جاء به الشرع ومن ثم وجب على المسلم أن يتثقف ثقافة دينية ضرورية يصلح بها دينه ويتعلم أحكام العبادة من صلاة وصيام وصدقة وحج.
وهذا المعنى رغم تكراره كثيرا إلا أن تطبيقه في الواقع يوحي بأن كثيرا من المسلمين لا يعلمون إلا النزر اليسير عن دينهم ومنهم من لا يعلم شيئا، وبعض الناس بلغ من الكبر عتيا وله منصب مرموق ولا يصلي ، وبعضهم لا يحسن الوضوء ولا الصلاة، ولا حتى الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر، أقول هذا بعدم مبالغة، بل بما رأيته من كثيرين للأسف.
وختاما كل عام وأنتم إلى الله أقرب وعلى طاعته أدوم وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وإلى لقاء في حديث آخر