من صام رمضان إيمانا واحتسابا
رؤية
من صام رمضان إيمانا واحتسابا
زهير سالم*
في الحديث الشريف من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. وفي رواية من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. وفي ثالثة ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وليست في متانة ما سبق من روايات.
أما الإيمان فهو تصديق القلب بما جاءت به الكتب والرسل. حتى يكون المرء في يقينه ذاك على مثل قلب جبريل عليه السلام. فيعبد الله وقد تمكن اليقين من قلبه وعقله ونفسه، فلا تجد وساوس الشيطان إليه سبيلا.
وأما الاحتساب فهو طلب الأجر، وملاحظته حيال كل عبادة وكسب وجهد ونازلة. والاحتساب فن في كسب الأجر وتكثير الحسنات، وهو حال أو مقام على خلاف بين أهل الطريق، يحتسب العبد عبادته، صلاته وصومه وزكاته وحجه وصدقته وجهده وجهاده، يربط كل ذلك بمولاه، ويسقط من حسابه كل ما عداه، فليس المؤمن الذي يفعل لشكر أو ذكر، بل ربما يزيده ما يلقاه من جحود الخلق أنسا بمولاه وتعلقا به، وإلحاحا على بابه، يدمن الطرق معترفا بالضعف، مقرا بالقصور..
ويحتسب العبد كل ما ينزل به من المصائب والمكاره، فيرى كل مصاب وإن عظم صغيرا في جنب الله ، فيحتسب كل شيء حتى الشوكة يشاكها، يقول لأصبعه المدماة:
هل أنت إلا أصبع دميت في سبيل الله ما لقيت
ولا يغفل المحتسب في مقامه أو في حاله عن إدراك أن الموازين القسط ليوم القيامة تثقل أو تخف بأفعال هي في أعين البعض مثل الذر لا يؤبه بها، فيذكر مع كل منعرج أنه بكلمة حق في مقام صدق يكون مع سيد الشهداء حمزة، وبأخرى من سخط الله لا يلقي لها بالا يخر بها في جهنم سبعين خريفا والعياذ بالله..
يعلم المحتسب يقينا أن الموازين القسط تزن بمثاقيل الذر من الخير والشر فتزن، ليس فقط ما له كتلة أو حجم أو ما تأخذه العين وتلقفه الأذن وتتقراه الجوارح، الآهة الحبيسة، والأنفاس الحرى تتهدج من صدر مظلوم نالته يد ظالم، أو نفثة مصدور كتم البغي أنفاسه.
تزن الموازين القسط تلك الدمعة إن هي احتبست وإن هي طفرت.. فتثقل بها موازين وتطيش بها أخرى. فإذا تلك الدمعة الحبيسة أو الحسرة الدفينة التي توارت في عيني أمك أو أختك أو أبيك أو أخيك وهم يتقلبون على فراش الموت، يسألون عن الحبيب الغريب، أثقل من جبال مما يعتده الناس من الخيرات. تزن موازين الذر تلك، لمن يحتسب، ذبول عينين تتشهيان التمسح بقميص يوسف، فيكون الذبول ذاك أرجى عند الله وأثقل في الميزان من كل عمل اعتده صاحبه ورجاه..
وهل أثقل في ميزان الله من لوعة والدة أو والد على ولده، أو لوعة ولد على والده أو أخ على أخيه وأخته يفرق بينهما ظالم، نقمة على إيمان بالله، فإذا هما في فراقهما ذاك يحتسبان الهمسة واللمسة فتثقل بهما الموازين كما تثقل بالجبال..
قال تقدم أمامي أحتسبك
وفي كتاب الزهد والرقائق لعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن المبارك هو الإمام المحدث العابد الزاهد المجاهد الذي كتب يوما لعابد الحرمين الفضيل بن عياض أبياته الشهيرة التي مطلعها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
وكتاب الزهد والرقائق لعبد الله بن المبارك من أنفس ما صنف في بابه، وكان قد عني بتحقيقه المحدث الهندي حبيب الرحمن الأعظمي وطبع طبعة أنيقة في شامنا الحبيب في سبعينات القرن المنصرم، وهو جدير بأن يبذل في البحث عنه الوقت والمال، أقول تجد في كتاب الزهد والرقائق هذا كتابا خاصا بما سماه عبد الله ابن المبارك (كتاب أخبار صلة بن أشيم)، يفرد له قرابة عشرين صفحة وكان مما جاء فيه من أخبار (صلة) هذا وهو رجل من طبقة ابن المبارك في الزهد والورع والجهاد في سبيل الله؛ أن (صلة) رحمه الله حضر وولده مشهدا من مشاهد المسلمين، أي وقعة من وقائعهم، فانكشف الناس هاربين وثبت (صلة) وولده فيمن ثبت، فالتفت (صلة) إلى ولده فقال له: يا بني الحق بأمك. فقال له ولده: يا أبت لأنت أبر بأمي مني فالحق بزوجك!! يقول صلة لولده فإن لم يكن من بد فتقدم أمامي أحتسبك ، ذلك أن للوعة الوالد يرى ولده يقتل أمام عينيه ثقلها في الميزان لمن يلقي طرفه إلى صفحات ذلك الميزان، فتقدم الولد فقاتل عن المسلمين حتى قتل، ثم تقدم (صلة) فقاتل حتى قتل، رحمهما الله تعالى...
درس في الاحتساب لمن أراد أن يتأسى عظيم.
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية