رمضانيات 1431 (1)
رمضانيات 1431
د.عثمان قدري مكانسي
[email protected]
الحمد لله (1)
ما
أعظم كلمة " الحمد لله " إنها حسنات ثقيلة في ميزان المسلم يلقى الله تعالى بها
فيرضى عنه ، ويكرمه .
وهل
الحمد إلا لله تعالى ، فهو الخليق به سبحانه ، إنه الخالق والرزاق وذو الأفضال
الكثيرة التي لا تعدّ ولا تحصى " وإن تعدّوا نعمة الله لا
تُحصوها " .
و"
الحمد لله " فضل منه تعالى على العباد أن علمهم أن يحمدوه فيصبحوا قريبين من جوده
وكرمه ووده ورضوانه .
فقد
روى أبو سعيد بن المعلى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :
( لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن ، قبل أن تخرج من المسجد ) . ثم أخذ بيدي ،
فلما أراد أن يخرج ، قلت له : ألم تقل : ( لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ) .
قال : ( {
الحمد
لله
رب العالمين } : هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته ) .
رواه البخاري .
وقد بدأت خمس سور في القرآن الكريم بالحمدلة
) الفاتحة والأنعم والكهف وسبأ وفاطر )
للدلالة على عظم فوائد حمد الله تعالى . وقد كانت الفاتحة أعظم سورة في القرآن
لأمور عديدة منها ابتداؤها بالحمدلة .
وعلمنا الحبيب المصطفى أن نحمد الله تعالى حين نستيقظ من سبات هو كالموت ، فقال صلى
الله عليه وسلم ":
(
الحمد
لله
الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) . رواه البخاري عن أبي ذر الغفاري . والدليل على أن
النوم كالموت قوله تعالى في سورة الأنعام " وهو الذي
يتوفاكم بالليل ، ويعلم ما جرحتم بالنهار " وقوله تعالى
" الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ، فيمسك التي قضى عليها
الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " ، أفلا نشكر الملك العليم العلام على
أن أحيانا بعدما أماتنا ؟.
والحمد أكبر من الشكر ، فالشكر لما يحب الإنسان ويأنس له فقط لقوله تعالى
" وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم " أما الحمد
فللسراء والضرّاء . فكان الحمد أعمّ وأكبر . ومما يدل على أن الحمد للسراء كما هي
للضراء ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "
كان
غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم
يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : " أسلم " .
فنظر إلى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، فأسلم ،
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول :
"
الحمد
لله
الذي أنقذه من النار"
أخرجه البخاري .
وقد حمد نبينا الكريم ربه حمداً رائعاً يُكتب بماء الحياة ، وعلم أصحابه أن يقولوا
مثله ، فقد روى أبو أمامة الباهلي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
الحمد
لله
ربنا ، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى ، ربنا "
وقال مرة ":
إذا
رفع مائدته : (
الحمد
لله
الذي كفانا وأروانا ، غير مكفي ولا مكفور )
رواه البخاري . فالله تعالى يحب إذا أكل عبده من
فضله أن يحمده ، ليس غير . وقد قال صلى الله عليه وسلم "
إذا أكل أو شرب قال
:"
الحمد
لله
الذي أطعمنا وسقانا وسوغه وجعل له مخرجا "
يؤكد هذا ما قاله علي رضي الله عنه:
هل تدرون ما حق الطعام ؟ قالوا : وما حقه ؟ قال : أن تقولوا : بسم الله , اللهم
بارك لنا فيما رزقتنا قالوا : وما شكره ؟ قال : أن تقولوا :
الحمد
لله .
وحين يهدي الله تعالى المسلم للخير
تسمعه يحمد الله تعالى أن أخذ بيده إلى الصواب " دليل ذلك ما رواه أبو هريرة رضي
الله عنه "
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن ،
فنظر إليهما ، ثم أخذ اللبن ، فقال جبريل :
الحمد
لله
الذي هداك للفطرة ، ولو أخذت الخمر غوت أمتك "
أخرجه البخاري .
ومن عظيم مكانة الصاحبين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم حمد ربه حين رآهما قادمين نحوه فقال : " الحمد
لله الذي أيدني بكما " رواه الدوسي أبو أروى ، وأخرجه ابن أبي حاتم في علله
.
والقول في الحمد كثير جداً ، وما ذكرت إلا القليل تذكرة لي ولإخواني ، وأختم هذه
الفائدة بحديث يوضح فضل الحمد في العفو والمغفرة ، وفيه بشرى في المغفرة عظيمة ....
يقول صلى الله عليه وسلم "
من أكل طعاما ثم قال :
الحمد
لله
الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر ومن لبس ثوبا فقال :
الحمد
لله
الذي كساني هذا [ الثوب ] ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر
" ..
ومن منا يستنكف أن يغفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر غير المحروم من رحمة ربه ...
نسأل الله تعالى أن يكون رمضان هذا عتقاً لنا من النار وسبباً في رحمة الله وجنته .
اللهم آمين يا رب العالمين .
رب العامين (2)
نقرأ في سورة الفاتحة " الحمد لله رب العالمين "
، وقد يتساءل أحدهم – ولْيكن صاحبكم عثمان – لِمَ قال سبحانه : (
رب العالمين) ، ولم يقل رب العالم ؟
بعضهم يقول إن الناس عالم ، والحيوان عالم ، والنبات عالم ، والحماد عالم ،
فالمجموع
(
عالمون ) أو عوالم فهو سبحانه رب العالمين ...
ويقول بعضهم : والشياطين عالم آخر والملائكة كذلك ، وهؤلاء أجزاء من العالمين .
ويقول آخرون : إن الشموس والكواكب والأرضين والمجرات والأفلاك عوالم نضيفها للعوالم
الأخرى ، وهو سبحانه ربها جميعاً .
ويُضاف إليها كذلك السماوات السبع بمن فيها من مخلوقات لا يعلمها إلا الله تعالى ،
فيتسع العالم إلى أضعاف الأضعاف فإذا العالم يرحُب ليكون عوالم كثيرة .
قرات في مجلة حضارة الإسلام التي كانت تصدر في دمشق عام 1970 مقالاً يذكر فيه علماء
الفلك أن قطر السماء الدنيا سبعون مليار سنة ضوئية ، ثم يعقّبون قائلين " وقد يكون
أضعاف هذا والله أعلم –".
وفي
عام 2002 أقرأ مقالاً للعلماء يقولون إنهم اكتشفوا أن قطر السماء الدنيا 140 مليار
سنة ضوئية ، ثم يعقبون كذلك " وقد يكون أضعاف هذا والله أعلم " .
أما
في العام 2005 فقد اكتشف الفلكيون مجرة قطرها خمسون مليار سنة ضوئية ، ولا ننسَ أن
بين المجرة وأختها أضعاف أضعاف مسافة قطرها . وهذا يعني أن قطر السماء الدنيا لا
يُقدّر ، وإذا علمنا أن السماء الدنيا للسماء الثانية كحلقة في فلاة ، والسماء
الثانية للسماء الثالثة كحلقة في فلاة ، ... وأن السماء السابعة لكرسي الرحمن كحلقة
في فلاة وان الكرسي للعرش كحلقة في فلاة ، وأن العرش لعلم الله كحلقة في فلاة –
هكذا أخبرنا الصادق المصدوق – أيقنا أن الله ربُّ العالمين لا رب العالم فقط ،
وفهـِمْنا قوله تعالى في سورة الفاتحة " الحمد لله رب
العالمين "
يروي القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير سورة " فصلت " حين يتحدث في تفسير قوله
تعالى " ثم استوى إلى السماء وهي دخان ، فقال لها وللأرض
ائتيا طوعاً أو كَرهاً قالتا أتينا طائعين " أن موسى عليه السلام سأل ربه :
لولم تأتيا طائعتين ما أنت فاعل بهما؟
فقال تعالى : أسلّط عليهما دابة من دوابّي فتبتلعهما .
قال موسى : يا رب؛ فأين دابتك ؟
قال : في مرج من مروجي .
قال
موسى : يا رب ؛ فأين مروجك ؟
قال
: في علم من علمي .
وتوقفت ملياً في ملكوت هذه المحاورة القصيرة بين رب العالمين ومخلوق كريم من
مخلوقاته . فارتعدت مستصغراً نفسي ومَن حولي ، موقناً بعظمة الخالق جل شأنه
وقلت : لا إله إلا أنت سبحانك .. أنت رب العالمين .........
اهدنا الصراط المستقيم (3)
(هدى) : في مختار الصحاح :
الهُدَى الرَّشَاد ،
يقال هَدَاه اللهُ للدِينِ يَهْدِيهِ هُدًى. وقوله تعالى (أَوَلَمْ
يَهْدِ لَهُمْ) قال أبو عمرو بن العَلاء معناه أولم يُبَيْن لهم. وهَدَيْتُه
الطَّرِيقَ والبَيْتَ هِدَايَةً عَرَّفْتُه هذه لغة أهل الحجاز. وغَيْرُهم يقول
هَديتُه إلى الطَّريق وإلى الدار.
وقد ورَدَ (هَدَى )في الكتَاب العزيز على ثلاثة أَوْجُه:
1- مُعَدَّى بنَفْسه كقوله تعالى: (اهْدِنَا الصّراطَ
المُسْتَقِيمَ) وقوله تعالى: (وهَدَيْنَاه
النَّجْدَيْنِ)
2- ومُعَدًّى باللام كقوله تعالى: (الحَمْدُ لِلهِ
الَّذي هَدَانا لِهذَا) وقوله تعالى: (قُل اللهُ
يَهْدِي للحَقِّ).
3- ومعدَّى بإلى كقوله تعالى: (واهْدِنا إلى سَوَاءِ
الصِّرَاط).
والهدى من الله تعالى ( من يهدي اللهُ فهو المهتد
) وعلى هذا ندعو الله تعالى أن يهدينا إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
دعاني إلى كتابة هذه الخاطرة أن نصرانياً دخل إحدى غرف البالتوك المسلمة ، وطلب
الحديث ، فلما ملك اللاقط قال : إنكم معشر المسلمين ضالّون ، وتعترفون بضلالكم ،
فإننا نراكم تدعون باستمرار " اهدنا الصراط المستقيم " ولو لم تكونوا ضالين لم
تجأروا بالدعاء المتتابع طالبين الهداية . أما نحن النصاري فقد تأصلت الهداية في
قلوبنا ، فلسنا ندعو لأنفسنا بالهداية ، إنها ممتزجة فينا ، وما يطلب الشيء إلا
فاقده .
أقول : إن المسلم يقرأ الفاتحة سبع عشرة مرة في صلاة الفرض ، ناهيك عن السنن
الرواتب والنوافل والوتر ، ويكثر من قراءتها كلما حزب الإنسانَ أمر فالتجأ إلى الله
تعالى ينشده العون والمغفرة والهداية .
وليس الإكثار من طلب الشي يعني فقدانه وعدم الحصول عليه . إن لطلب الهداية المستمر
معانيَ عديدة ،لا يعرفها إلا ذوو الإيمان الحي في القلوب الشفافة .
من هذه المعاني :
1-
أن تتجذر الهداية في القلوب وتنمو في الأفئدة ، ويبتعد الضلال حين تضيءالنفوس بنور
الإيمان ، وتغتذي بنسغه الريان الدافق .
2-
إن الإيمان يزيد وينقص . يزيد بالتقوى والعمل الصالح ، وينقص بالتكاسل والانحراف عن
النهج القويم ، وقولك المستمر " اهدنا الصراط المستقيم
" دعاء من الأعماق أن يثبت الإيمان في قلب المؤمن ثم يزداد بالتقوى والعمل الطيب .
3-
وتكرارنا " اهدنا الصراط المستقيم " دعاء يتجه
بالعباد بإخلاص إلى المولى سبحانه أن يهدينا للعمل بكتابه وسنة نبيه ، فهو الميزان
الحقيقي للإيمان الصحيح ، فالله تعالى لا يقبل إيماناً بلا عمل ولا عملاً بلا إيمان
.
4-
وحين تحضر المرءَ وفاتـُه فهو بين طريقين مختلفين ، الأول يقود إلى رضى الله والجنة
، والثاني يؤول إلى سخطه والنار ، ومن دعاء المسلم الذي لا ينفك يدعو به " اللهم
اجعل خير أعملنا خواتيمها " وقولنا " اهدنا الصراط
المستقيم " دعاء حثيث يدفع إلى الموت على ملة الإسلام فـ "
إن الدين عند الله الإسلام " ،
" ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه " .
5-
وفي القبر – أولى مراحل الآخرة – يستقبلنا الملكان يسألان كل ميت ثلاثة أسئلة عليها
مدار حياتنا الأول ومآل حياتنا الأخرى : من ربك
؟ ما دينك ؟
ماذا تقول في الرجل الذي بعث إليكم ؟
والهداية الربانية التي عشنا في رحابها طيلة أعمارنا تتكفل في قول الإجابة الصحيحة
: الله ربي لا إله إلا هو الخليق بالعبادة ، الجدير بالحب ، عشنا له وبه ، هو الذي
تتجه القلوب إليه سبحانه من إله عظيم . وديني الإسلام لم أكن أرضى عنه بديلاً ، عشت
في رحابه ، فكان البلسم لنفسي والنور لقلبي ، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
حبيبي وشفيعي ، آمنت به نبياً كريماً أدى الرسالة ، وبلّغ الأمانة . وهدى الله به
الأمة وكشف به الغُمّة . وبهذه الهداية يكون قبر المسلم روضة من رياض الجنة .
6-
ومن الهداية – أيضاً – أن يكون للمسلم نورٌ في ظلمات ذلك اليوم الطويل المهول واقرأ
معي قوله تعالى في سورة الحديد " يوم ترى المؤمنين
والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها ، ذلك هو الفوز العظيم " ونحن نطلب الهداية لذلك الموقف
العظيم .
7-
ومن الهداية أيضاً أن يحوز المسلم كتابه بيمينه ، فيسعد السعادة الكبرى ويباهي بذلك
، واقرأ قوله تعالى في سورة الحاقة موضحاً ذلك الموقف البهيج "
فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول : هاؤم اقرأوا كتابيه ،
إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه ، فهو في عيشة راضية في جنة عالية ، قطوفها دانية ، كلوا
واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية " . إنها هداية رائعة أن ينال
المسلم كتابه بيمينه ، اللهم اهدنا لذلك يا رب وتكرّم علينا .
8-
ومن الهداية أن ينجو المسلم من النار وهو يجتاز الصراط المستقيم ، ألم يقل الله
تعالى " وإن منكم إلا واردها ، كان على ربك حتماً مقضياً
، ثم ننجّي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جِثِيّاً "؟ ولا بد من الرجاء
لله تعالى أن ينجينا من النار حين نكون على الصراط ، والتعيس من كبا به عمله وحظه ،
فهوى فيها وكان من أهلها والعياذ بالله تعالى منها .
لهذا وغيره من المعاني الثرة يجد
المسلم يدعو ربه ليلاً ونهاراً أن يهديه الصراط المستقيم ، وأن يُديم عليه نعمة
الهداية ....
ومن ادّعى الهداية فقد سقط في سوء
أعماله وخطل تفكيره ، ولن ينفعه إذ ذاك فلسفته القاصرة ولا تفكيره الضحل ..
وقد أفلح من عاش في رحاب "
اهدنا الصراط المستقيم
"
"أمر عجيب" (4)
قدمت مرة من أم القيوين – وهي إمارة صغيرة من الإمارات العربية المتحدة وكنت في
زيارة لأحد الأحباب عائداً إلى بيتي في الشارقة، ودخلت عجمان حتى وصلت إلى الدوّار
قرب جامعة عجمان التكنولوجية، فأذّن للعصر فدخلت مسجد الجامعة، ولما انتهت الصلاة
اتجهت نحو الباب، فلفت نظري أن شاباً عملاقاً ذا لحية لطيفة كان ينظر إليّ نظرات
حسبتها فضولية، ولم أعرفه، فسلمت عليه قائلاً في نفسي لعله ينتظر أحد المصلين من
إخوانه أو رفاقه الطلاب ، فردّ السلام، ولما خرجت من الباب رأيته يناديني باسمي:
أستاذ عثمان.. أنا أنتظرك، فلِمَ تجاهلتني؟
قلت: ومَنْ أنت يا ولدي؟ وأنّى لي أن أعرفك حتى أتجاهلك؟
قال: أنا أحد تلاميذك في ثانوية دبي يا أستاذي.
نظرت إليه متعجباً ثم قلت له مبتسماً: لا أتذكر أن أحد تلاميذي بطول خشبة الكهرباء.
ضحك الشاب وقال: هذه عادتك يا أستاذي، لمْ تغيّرها، تدخل إلى القلوب بأسلوبك
الفكاهي المتميز.
قلت: أمتأكد أنك أحد تلاميذي؟ كيف كنت تدخل بين الكرسي والطاولة في الصف؟
ضحك الشاب وقال: لن أذكر اسمي لأنك ستعرفه لو نبهتك إلى جملة كنت تقولها لي.
قلت: هات يا ولدي.. وما أظنني أتذكر فأنا كثير النسيان.
قال: لا.. إنك تعرفني جيداً يا أستاذ.. كنت تقول لي: إن اسمك يا ولدي لا يسمي
المسلمون أولادهم به في بلاد الشام، فهو خاص بالنصارى، وكنت تقول أيضاً: إنك
التلميذ الليبي الوحيد الذي تتلمذ على يديك..
فتحت له ذراعي وقلبي بآن واحد، وقلت له: أهلاً يا (وليد إلياس).. انزل قليلاً حتى
أقبّل وجنتيك، وأضمك إلى صدري.. كم أنا مشتاق إليك.. كيف غبت عني فلم أعرفك.. حجبك
هذا الطول المفرط وهذه اللحية المحببة، والشباب الناهد، حفظك الله يا ولدي.
قال والابتسامة تملأ فمه، ووجهه يشرق بالإيمان:
ـ أتذكر يا أستاذي ما كنت تغرسه فينا من معاني الإيمان ، وأفكار التوحيد؟ أتذكر
قصصك الهادفة والأفكار الإسلامية التي غذّيتنا بها؟ لقد نما غرسك يا أستاذي وجاء من
يقطف ثمرته، فالفضل لله سبحانه في السير على درب الهداية ثم إليك.. لقد كان كلامك
نوراً أضاء لي ولكثير من زملائي في الصف فجزاك الله خيراً عنّا.. وأجزل لك المثوبة.
كانت الدموع تتساقط بغزارة، وأنا الذي لم تعتد عيناه الدموع إلا وحيداً كما تساقطتْ
وأنا أسترجع ما قاله لي وأسطر مقاله على هذه الصفحة، وكان قلبي كما هو الآن ينبض
بشدة، يا الله إن عملنا معشر المعلمين عمل الأنبياء والمرسلين، اللهم اجعله في
صحائف أعمالي..
ودّعت الشاب على لقاء قريب يشاؤه الله تعالى ونحدده نحن مع بعض رفاقه الشباب،
وانطلقت إلى الشارقة عن طريق "النعيمية" كان الطريق أمام الجامعة عريضاً مزدوجاً،
فما إن انعطفت يميناً في شارع واحد ذي اتجاهين حتى كنت أسير بسرعة ستين كيلو متر في
الساعة، وعلى اليسار من الشارع، وسيارة تقترب مني مسرعة أكثر من سيارتي.. لم أنتبه
إلا والمسافة بيننا لا تتجاوز الخمسين متراً، وسيكون الاصطدام مروّعاً بقوة مئة
وخمسين كيلو متر في الساعة، يا الله يا رب.. وحاولت كبح السيارة ، وكبَحَ الرجل
اندفاع سيارته، ثم توقفنا وجهاً لوجه.. اصطدم قلبي بقلبه وارتعش جسمي وارتعش جسمه،
لكن السيارتين لم تصطدما، ولم تهتزا.. نزلت من السيارة لأرى المسافة المتبقية
بينهما..
أتدري أخي القارئ كم كانت؟ لن تصدق إذا قلت لك : كاد صدّاما السيارتين يلتصقان، بل
إنهما ملتصقان، فلم أستطع رؤية الأرض بينهما وسجدت لله سبحانه هو الحفيظ الرؤوف،
البر الرحيم.. يا رب لك الحمد، وأنت وليي في الدنيا والآخرة.. ما أعظمك وما أرحمك
بعبادك..
جبريل عليه السلام واليهود -5
يقول الله تعالى في
الآية 97 من سورة البقرة " قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (97) "
سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى
الله عليه وسلم : إنه ليس نبيٌّ من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه
بالرسالة وبالوحي , فمن صاحبك حتى نتابعك ؟ قال : ( جبريل ) قالوا : ذاك الذي ينزل
بالحرب وبالقتال , ذاك عدونا ! لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك
, فأنزل الله الآية إلى قوله : " للكافرين " أخرجه الترمذي . من تفسير القرطبي
رحمه الله تعالى . وقال المراغي رحمه الله في تفسير الآية : إن أحد علماء اليهود
وهو عبد الله بن صوريا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الملك الذي ينزل عليه
بالوحي ، فقال : هو جبريل . فقال ابن صوريا : هو عدوّ اليهود لأنه أنذرهم بخراب بيت
المقدس ، فكان ما أنذر به .
ولا شك أن هذا منهم دليل على خطل الرأي وعدم التدبّر ، ، وإنما ذكره الكتاب الكريم
ليستبين للناس حُجج أهل الكتاب ويعرفوا مقدار مَرائهم ، وسخفهم في جدلهم ، وأنهم
ضعاف الأحلام ، قليلو التبصر في عواقب ما يقولون ، وذلك لأسباب عديدة منها :
1-
أن عداوتهم لجبريل عليه السلام قائمة على الوهم والغباء وعدم التبصرة ، فليس جبريل
مَنْ خرَب بيت المقدس ، والذي خربها اليهود أنفسهم بتنكبهم سبل السلام وابتعادهم عن
العمل بالتوراة وفسقهم ، فسلط الله تعالى عدوّهم عليهم لفسادهم ، وما كان جبريل
عليه السلام سوى منذر وناصح ، فلما لم يستقيموا دمّر الله عليهم مدينتهم .
2-
أن ميكائيل نفسه لو أمره الله تعالى أن ينذرهم لفعل ، فالملائكة عليهم السلام "
لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون " .
3-
أن اليهود عاصون لله تعالى لا لجبريل ، فهو سبحانه يحدد الرسل ويختارهم لتنفيذ ما
يأمر ، وهو الذي يدبر الأمر ، وما على الملائكة سوى الطاعة ، وفي هذا يستوي
الملائكة كلهم ، كما أن لكل ملك عملاً يؤديه كما رُسم له .
4-
أن من غباء اليهود وفساد عقولهم وسواد قلوبهم أنهم يريدون أن يفرضوا على العزيز
الحكيم الأنبياءَ الذين يريدون والملائكة الذين يتخيرون ، وإلا استنكفوا عن عبادة
الله ، وخالفوا أمره . وكأنهم المنعمون المتفضلون على الله تعالى بعبادتهم إياه .
أليسوا هم من أساءوا إلى مقام الله تعالى فقالوا : " يد الله مغلولة " ألمْ يدّعوا الغنى واستهزءوا بالذات الإلهية حين
قالوا " إن الله فقير ونحن أغنياء " فكان التهديد
من الله على جرأتهم على الله تعالى في الآية الأولى " غلت
أيديهم ولعنوا بما قالوا ، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " وكان الجواب
على الثانية قوله تعالى " سنكتب ما قالوا ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق ، ذلك
بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد " وهو تهديد شديد لليهود
الملعونين لكفرهم وسواد قلوبهم وسوء أعمالهم .
ويكرم الله تعالى سفيره الرائع جبريل عليه السلام حين يرفع من قدره فيجعله أميناً
على رسالاته للأنبياء جميعاً " قل من كان عدواً لجبريل
فإنه نزّله على قلبك بإذن الله مصدّقاً لما بين يديه ، وهدى وبشرى للمؤمنين ."
، وهو الذي كان رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى بيت المقدس وإلى
السماء ، وهو من قاد ألفاً من الملائكة مسوّمين في غزوة بدر . وأكرمه الله تعالى
حين قرر أن من عادى جبريل كمن عادى الله تعالى ، فكان كافراً "
من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله
عدو للكافرين " . كما أنه سبحانه ضمه إليه في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم
في سورة التحريم حين قال : " وإن تظاهرا عليه فإن الله هو
مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير "
إن الله تعالى مدح جبريل عليه السلام في القرآن الكريم فقال: "
علمه شديد القوى ، ذو مرة فاستوى ، وهو بالأفق الأعلى ثم
دنا فتدلى فكان قال قوسين أو أدنى " وقال " ولقد
رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، عندها جنة المأوى " .
اللهم إننا معشر المسلمين نحب أمينك على رسالاتك سيدنا جبريل عليه السلام ، بحبك
أنت يا رب العالمين . اللهم فبلغنا بهذا الحب رضاك والجنة ، واحشرنا مع حبيبك
المصطفى صلى الله عليه وسلم آمنين مطمئنين في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظله . وارزقنا
الفردوس الأعلى بفضلك ومنّك يا أكرم الأكرمين ... اللهم آمين يا رب العالمين .
أرسول الله حيٌّ بيننا (6)
يقرأ أحدنا قوله تعالى
في سورة آل عمران " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ
عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ
ۗ
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
" فيرى المعاني
التالية :
1-
تحذيراً
للمؤمنين أن يطيعوا اليهود والنصارى ، وأن يتخذوهم أولياء .
2-
لا يرضى أهل
الكتاب منا إلا الردة عن الإسلام ، الدينِ العظيم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده .
3-
والعاقل الذي
يعيش في رياض القرآن العظيم وسنة النبي الكريم يعلم أنه على نور من ربه فيلتزمه
ويسعد في أفيائه .
4-
من اعتصم بحبل
الله المتين اهتدى إلى الحق وإلى صراط مستقيم ، فكان القرآن وكانت السنة المشرفة
حصناً منيعاً يمنعانه أن ينزلق إلى مهاوي الكفر والضلال .
ولا يرتد أحد عن الحق
حين يكون القرآن بين يديه يتلوه ويتدارسه تفسيراً وفقهاً وحياة ، وحين تكون سنة
النبي صلى الله عليه وسلم نبراساً يضيء له دروب الحياة .
القرآن الكريم بين
أيدينا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فقد أكد المولى سبحانه أنه
سيحفظه ، بل هو حافظه إلى يوم القيامة : ألم يقل الله تعالى "
إنا نحن نزّلنا الذكر ، وإنا له لحافظون " فالله
تعالى تكفل أن يبقى القرآن العظيم كاملاً تاماً لا يعتريه النقصان ولا الزيادة على
مر الدهور وكرّ العصور . ففي هذه الكلمات السبع (أحد عشر) تأكيداً – والله الخالق
الصادق لا يحتاج كلامه هذا التأكيد فهو رب الصدق . ومع هذا أكد كلامه بما لا يدع
مجالاً للمتنطعين والمتشدقين المتفيهقين . وإليك هذه التأكيدات كما ذكرها علماء
البلاغة :
1-2- إنّ المؤكدة ، ونا
ضمير العظمة المجموعتان في قوله " إنّا " .
3- ضمير العظمة " نحن "
4-5- التضعيف في الفعل
نزّل ، ونا ضمير العظمة في قوله " نزّلنا ".
6-تعريف الذكر بـ " ال
" العهدية وما الذكر إلا القرآن الكريم .
7-8- إنّ المؤكدة ونا
ضمير العظمة في قوله " إنا " الثانية
9- تقديم ما حقه
التأخير ، فقدّم " له " الجار والمجرور على المتعلق به حافظون
10-11- لام التوكيد ،
والجمع " حافظون " في قوله " لحافظون " .
أما النبي عليه الصلاة
والسلام فحي بيننا بسنته المطهرة التي نقلها إلينا أصحابه الأفاضل من بعده رضوان
الله عليهم ، ثم التابعون لهم بإحسان ، فهو الوحيد من بين البشر - أنبياء وصالحين –
نعرف سيرته المطهرة منذ ولد إلى أن توفاه الله وكأنه يعيش بيننا ، حتى إننا نعرف
دقائق حياته بين أصحابه وزوجاته سلماً وحرباً وسياسة ودعوة وفكراً واجتماعاً فهو
صلى الله عليه وسلم كتاب مفتوح بين يدي أتباعه إلى يوم الدين ، يقتبسون من فيوضه
الدروس والعبر والأسوة الحسنة . ألم يقل الله تعالى " لقد
كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً
" وليكون أسوتنا الحسنة فقد جلّى الله تعالى سيرته لنا واضحة وضوح الشمس في
رابعة النهار .
عشت مع والدي رحمه الله
قرابة أربعين سنة ، ولأني كنت أكبر أولاده فقد لازمته ملازمة غير منقطعة ، وأعرف
عنه ما لا يعرفه غيري ، إلا أنني أعرف عن الحبيب المصطفى آلاف أضعاف ما أعرفه عن
والدي بل عشرات الآلاف ضعفٍ . وهذا يوضح قوله تعلى "
وفيكم رسوله " فالرسول صلى الله عليه وسلم يعيش في قلوبنا وعقولنا وبين
جوانحنا ، سيرته تفتح لنا كل يوم آفاقاً من التربية الرائعة والهداية الصافية .
أنت بيننا يا رسول الله
في كل حركة وسكنة وفكرة وعمل . أنت قدوتنا وقائدنا وشفيعنا عند الله تعالى
اللهم إننا نحبك ونحب
نبيك فارض عنا ورضّنا .... اللهم آمين يا رب العالمين .