مع الله..
مع الله..
سحر المصري
طرابلس - لبنان
[email protected]
حين يعلو
موج الغربة.. وتشتد جرأة الألم.. ويفيض الكأس بالهَم.. وحين تنظر إلى الأمل
الذي
يتلألأ في الأفق وتخشى أن يكون سراباً فتذبل ورود الحياة.. وحين تتضاءل القدرة
على مخالطة الناس والصبر على إساءاتهم والقبض على الجمر في آخر الزمان.. وحين
يهدّ الروحَ الفراقُ
ويجنّ القلب من الاشتياق.. لا يعود هناك إلا شدّ الرحال إلى حيث تُسكَب العبرات..
إلى مكة والمدينة..
هي محطّة وقود يتزوّد منها المسلم حين يشير عدّاد الهمّة
والإيمان إلى الانخفاض.. وهي مهمة لإعادة بثّ الروح في القلب والحيوية في الحياة..
وحمداً لربي جل وعلا أن جعل للمسلم مواسماً ومحطات يتقوّى بها على الطاعة..ويلتمس
فيها الإياب والارتقاء!
يتحدّثون عن الحب وقد ذقته حتى ارتويت.. هناك تلذّذت بمعنى الخضوع لله جلَّ في
عُلاه والتضرّع إليه والانكسار على بابه والتمرّغ بأعتابه.. هناك غرفت من معين
الطاعة وارتقيت.. ثم زادني الرحمن جل وعلا من فضله.. فانتشيت! هناك يحلو للدموع أن
تخضّب الخدود فتتوضأ المعاصي من ماء الرحمة لتتلاشى.. دموع كفيلة بالبوح عن كل ما
يختلج الضلوع من حب وخوف ورجاء.. وحرقة على معاصٍ مضت وأوقاتٍ ضُيِّعَت وحقوقٍ
ربانيةٍ انتُهِكَت.. هناك يزيد اليقين ويفيض الحنين ويسجد الجبين..
وماذا عساي أقول في سِحرِ الكعبة المشرّفة؟! لن أجد كلمات تفيها بهاءها وشرفها.. ما
إن يقع نظرك عليها حتى تغيب في عوالم أُخرى.. وتعود بالذكرى.. إلى عهود الأنبياء..
وهذا التعلّق بهذه الرحاب أتُراها دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام حيث قال "واجعل
أفئدة من الناس تهوي إليهم" فهَوَت منذ ذلك الحين وحتى يومنا وإلى أن يضمّنا القبر
جميعاً بإذنه.. فهنا تعيش لذة الطواف تحت البيت المعمور.. أنت والملائكة في هذا
سواء.. تسبيح وتهليل.. وذِكر وتبجيل.. لربّ الأكوان.. وحمدٌ له جلّ في علاه أن
صيَّرك إلى هذه البقعة المباركة لتنزوي عن حياة "دنيا" وتعيش الحياة "الحق".. فلا
رفث ولا فسوق ولا جدال ولا مباهاة ولا خوض ولا مراء ولا كذب ولا تفاضل ولا يأس ولا
كدر.. إنما ذكرٌ وذكر وذكر.. حتى إذا ما تغشّتك السكينة والتقى ذبتَ في ملكوتٍ غير
الذي تطأه بأقدامك!
وهذه القلوب المؤمنة التي تجتمع على كلمة التوحيد.. قِبلتها واحدة: رضا الرحمن جلّ
في علاه.. فلا تجد نفسك إلا وأنت تبتسم لهذه الجموع.. وتصافحها بقلبك الذي وسِع
الله جل وعلا فوسِع عياله.. وتتقرّب منها وتحرص على التعرّف على من تستطيع منها..
لتبقى بعض هذه العلاقات وتستمر حتى بعد العودة إلى الديار.. عبر الإنترنت أو الهاتف
أو الزيارات أو فقط عبر الدعاء في ظهر الغيب.. وأسماه أن يجمعنا الرحمن جل وعلا في
ظلٍّ ظليل إذ التقينا عليه وتفرَّقنا عليه سبحانه..
وهناك في روضة الجنّة.. تسجد وأنت في رحاب الله طائر.. تتفلّت الدموع لتُغرِق
الذنوب.. وتتسارع دقّات القلب حتى إذا ما كبَّرت ودخلت في الصلاة خرجت من الدنيا
إلى رياض الجِنان.. وحين تنظر من خلف الحجُب إلى منبر الحبيب عليه الصلاة والسلام
وقبره مع الصدِّيق والفاروق يتحكّم فيك الشوق إلى ملاقاتهم فتضع يدك على تلك المضغة
القابعة في نصفك الأعلى الأيسر وتقول: أُثبُت أيها القلب.. ففي جوارك نبيٌّ
وصدِّيقٌ وشهيد!
ثم يؤذّن المؤذّن أن يا أيتها الجموع قد حان وقت الرحيل لتذوب من رهبة الفراق..
أوّاه يا مكة والمدينة.. وواللهِ يا خير البقاع.. لولا أنّني مضطرة للعودة إلى حيث
أرادني الله تعالى أن أكون ما خرجتُ منكِ! ولكن حسبكِ أنني أعود بجسدي وأُبقي لكِ
الروح ترتع بين أكنافك!
لا زلت أذكر أني حين توجّهتُ بكلّيتي إلى الكعبة للمرة الأخيرة وأنا
أغادر شعرتُ كأني أنسلخ عن مكة ويكأن روحي تخرج مني وبكيت بكاء من فَقَد حبيب.. ثم
بدأتُ بالتفكر.. لِم يكون الحال في مكة غير ما يكون عليه في غيرها من البلدان؟
أوليس ربّ مكّة هو نفسه ربّ الأماكن الأُخرى؟ لِم نخشى في مكة أن يمضي الوقت دون
طاعة ونحرص على أن نستفيد من كل دقيقة هناك في العبادة بشتّى أنواعها ونذرف الدموع
ونحلّق ونستغل كل لحظة من الأيام القليلة كأن القيامة ستقوم في اليوم الذي سنغادرها
فيه بينما نرزح تحت نير التسويف واللامبالاة خارج مكة؟!.. لا شك أن لتلك البقاع
خاصيّة لا تدانيها أماكن أُخرى ولكن لو حرصنا على أن تكون حياتنا كاملة "لله" كما
نحرص عليها هناك ولو صدقنا لاستطعنا أن نجعل – بعون الله جلَّ وعلا – صلاتنا ونسكنا
ومحيانا ومماتنا لله رب العالمين.. ولكنها الحياة التي نسرح فيها فتُلهينا عن ذكر
الله جل وعلا.. ولو بقينا في ذلك السمو الروحاني كما هناك لصافحتنا الملائكة..
ربما..
إذاً هي الإرادة والإصرار والتوكل على الله جل وعلا في أن نكون عباداً
ربانيين.. ولَكَم نحن بحاجة إلى تربية إيمانيّة شاملة تجعلنا نعي وندرك.. ولا
يغرَنَّ أحد عمله الكثير وجهده الطويل حتى لو كان في الدعوة إلى الله جل وعلا ولا
يجعلنَّ أحد انشغاله الحركي أو الديني أو الاجتماعي حجة لعدم تمكين وتغذية هذه
العلاقة
الربانية بالله جل وعل والسعي إلى خلوة يوميّة يُعيد المرء فيها حساباته ويزِن
أعماله قبل أن توزن عليه.. بل لعلّ الداعية هو أكثر الناس حرصا وحاجة لأن تكون
علاقته بالله متينة وصلبة حتى يستمد منها معيناً في الطريق.. فتكون له خلواته
وتلاواته واستغفاراته وسعيه الحثيث للحفاظ على مستوى راق لعلاقة ترفعه عند ربه جل
وعلا.. علاقة يكون تاجها الإخلاص لله جل وعلا على الدوام..
فليقف كل واحدٍ منا
ويتفكر.. ما هو حاله مع الله جل وعلا؟ خشوعه صلاته إيمانه؟ كيف حاله مع كتاب الله
جل وعلا؟ تلاوته حفظه تدبره؟ أوراده قيامه أخلاقه ومعاملاته؟ هل هي كما يحب الله جل
وعلا ويرضى؟
إن لم نكن كذلك - والإنسان على نفسه بصيرة - فماذا أعددنا لغد؟!
ولله درّ ابن القيّم الجوزية رحمه
الله جل وعل حيث قال: "في القلب شعث لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشة
لا
يزيلها إلا الأنس بالله.. وفي القلب خوف وقلق لا يذهبه إلا الفرار إلى الله.. وفيه
حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته.. وفيه قلق لا يُسكِنه إلا الاجتماع
عليه والفرار إليه.. وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه
ومعانقة صبره على ذلك إلى وقت قضائه.. وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه
ودوام ذكره وصدق الإخلاص له.. ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً"
أفبعد هذه الومضات لهذا النوراني لا زلنا نفكر بإعمار دنيا على حساب دين.. واتّباع
هوى وإعراض عن رحيم؟!
اللهمّ!