ولكل وِجهة.. فما وِجهتك
م. محمد عادل فارس
تصحيح العقائد والتصورات والمفاهيم هو البداية للسير على الطريق الصحيح.
والانسجام مع هذه العقائد والتصورات والمفاهيم هو مقتضى السير على الطريق الصحيح.
كثيراً ما نرسم في أذهاننا صوراً ذات أبعاد مضطربة، تشوِّه الحقيقة، وتقود إلى مسلك خاطئ، كالذي يرسم صورة إنسان فيجعل يده مثلاً، طويلة بطول قامته كلها، غليظة بغِلَظ جذعه، فإذا روجع في ذلك احتج بأن لليد في جسم الإنسان أهمية كبيرة، وأن وجودها أمر طبيعي لا يجوز أن يجادل فيه أحد!. والحق أن الجدال ليس في وجود اليد وأهميتها، ولكن في نسبة حجمها إلى حجم الجسم. فهذا مثل لمن يبالغ في تقدير خصلة أو فضيلة أو شعيرة، فيكون مؤدى مبالغته هذه أن صَغَّر من شأن ما يقابلها أو يجاورها من قيم.
نحن نقول في مناسبات كثيرة، وقولنا حق: إن من سمات الإسلام العظيم ذلك التوازن الرائع الذي حققه في تصور المؤمن، وفي تشريعات الحياة، بين الدنيا والآخرة، وبين الفرد والمجتمع، وبين الرجل والمرأة، وبين أشواق الروح وحاجات البدن... لكننا، تحت ضغط أهوائنا وشهواتنا، أو تحت ضغط المفاهيم الدخيلة على حضارتنا، نرانا وقد أخللنا بهذا التوازن، فقدَّمنا ما حقُّه التأخير، وأخّرنا ما حقُّه التقديم، وحقّرنا ما حقُّه التعظيم...
ومن ذلك موضوع التوازن بين الدنيا والآخرة.
لقد تواردت النصوص الشرعية، بالعبارة مرة، وبالإشارة مرة، في ترجيح وزن الآخرة على الدنيا. من ذلك قوله تعالى:
}والآخرة خيرٌ لمنِ اتّقى، ولا تُظلمون فتيلاً{ سورة النساء: 77
}بل تؤْثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى{ سورة الأعلى: 16 و17.
}وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب. وإن الدار الآخرة لهي الحَيَوان. لو كانوا يعلمون{ سورة العنكبوت: 64.
}واضرب لهم مَثَل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح. وكان الله على كل شيء مقتدرا{ سورة الكهف: 45.
ولو سأل أي مسلم نفسه: أي الأمرين أعظم: الدنيا أم الآخرة؟! لأجاب بداهةً: الآخرة. ولكن لو دقق المسلم في سلوكاته ومواقفه واهتماماته لوجد أنه يعكس الأمر، ويجانب هذه الحقيقة، أو أنه يخالفها مخالفة يسيرة حيناً، ومخالفة حادة، حيناً آخر.
ألم يخاطب القرآن الكريم فريقاً من أصحاب النبي r ممن حضروا غزوة أحد بقوله: }منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة{ سورة آل عمران: 152. بلى، وإن الأمر هو إرادة الدنيا، أو إرادة الآخرة!!.
وإنهما اتجاهان متباينان، فالذي يريد العاجلة أو الحياة الدنيا، ويوجّه إليها اهتمامه، يفترق افتراقاً هائلاً عن الذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها.. يفترقان في سعيهما واهتماماتهما، كما يفترقان في جزاء كل منهما:
}من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفِّ إليهم أعمالهم فيها، وهم فيها لا يُبخَسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار. وحبط ما صنعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون{ سورة هود: 15 و16.
}من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم، يصلاها مذموماً مدحوراً. ومن أراد الآخرة، وسعى لها سعيها وهو مؤمن، فأولئك كان سعيهم مشكوراً{ سورة الإسراء: 18 و19.
لقد سيقت الآيات الأخيرة في بيان الفرق الشاسع بين الكافرين الذين يكون اهتمامهم كله للدنيا، والمؤمنين الذين يريدون الآخرة بحق!. وإذاً لا ينبغي لمؤمن أن يكون فيه شبه بصفة أهل النار.
فالمسلم الذي يبحث عن أي وسيلة، ويفتش عن أي فتوى، حتى يقلص ما يجب عليه من زكاة في أمواله، فضلاً عن أن يتصدَّق مما رزقه الله، ويدّخر لنفسه بذلك ذخراً عند الله... هذا المسلم يؤثر العاجلة الفانية، على الآخرة الباقية }كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة{ سورة القيامة: 20 و21.
ألم يخاطب الله تعالى قوماً دُعُوا إلى الإنفاق فبخلوا، فقال لهم: }ها أنتم هؤلاء تُدْعَون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخلُ، ومن يبخلْ فإنما يبخلُ عن نفسه{ سورة محمد: 38.
والمسلم الذي يتقاعس عن الجهاد في سبيل الله، وقد يخذِّل المجاهدين، أو يغمز فيهم، ويتوجه باللوم للشهداء، أو يرثي لمسلكهم، ويصوّرهم بصورة الخاسرين، ويقول عنهم: مساكين، لقد أضاعوا زهرة شبابهم، وخلّفوا وراءهم أرامل وأيتاماً وآباء مسنّين وأمهات.. أليس حراماً عليهم أن تركوا تلك الأرملة الشابة، وذلك الرضيع اليتيم، وذلك العجوز الذي ربّاهم كي يحفظوا شيبته؟! ألم يكن خيراً لهم أن يتمتعوا بحياتهم، ويحفظوا أسرهم من الضياع؟!
هذا المسلم، لا شك أن ثقل اللحم والطين هو الذي يشدُّه إلى هذه الاعتبارات، ويجعله ينسى ما أعدّه الله في الآخرة للشهداء والمجاهدين:
}وقالوا: ربنا لمَ كتبتَ علينا القتال؟ لولا أخّرتنا إلى أجل قريب!! قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خيرٌ لمن اتّقى. ولا تُظلمون فتيلاً. أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة{. سورة النساء: 77 و78.
}ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً. بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله...{ سورة آل عمران: 169 و170.
والمسلم الذي يوازن بين حالين: حال رجل فضّل زينة الحياة الدنيا، وقصّر بواجبه تجاه ربه ودينه، ولعله وقع في مخالفات شرعية شتى... لكنه حقق لنفسه ثروة وجاهاً ومركزاً اجتماعياً مرموقاً... وحال رجل آخر تحرّى ميزان الحلال والحرام، فآثر الحلال ولو كان قليلاً، على الحرام والشبهات، ولو كانت مصحوبة بالمكاسب الدنيوية... المسلم الذي يوازن بين هاتين الحالين، فيفضل الأولى على الأخرى، إنما يقع في التصور الخاطئ الذي وقع فيه المشركون الذين أخبر الله تعالى عنهم: }وإذا تتلى عليهم آياتنا بيناتٍ قال الذين كفروا للذين آمنوا: أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً؟{ سورة مريم: 73. يقولون: أي الفريقين أعظم مكانة اجتماعية، وأحسن جمعاً من الأصحاب والجلساء؟! مَن؟ رسول الله ومن معه من المستضعفين، أم أبو جهل والكبراء والملأ؟!
إن الثروة والجاه والمركز الاجتماعي ليست معيار الحق والصواب والخير، إنما المعيار هو الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، سواء اقترن بزينة الحياة الدنيا أو كان عاطلاً عنها.
والمسلم الذي يغلِّب شهواته في حب المال والجاه.. ويركب في ذلك كل مركب، من حلال أو حرام، ويتغافل عما ينتظره، لقاء هذا، من عذاب الله وبطشه ونقمته... لا شك أنه يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة.
والمسلم الذي يبحث عن فتاة ليخطبها، فيهتم بالجمال أولاً، ويتغافل عن أي ضعف في دينها، وإذا حذّره أحد الأصدقاء من ضعف دينها قال: لا بأس، سوف يتحسّن دينها بعد الزواج... لا شك أنه يُؤْثر - في موقفه هذا - الدنيا على الآخرة، ويغامر مغامرة غير محمودة.
والمسلم الذي تتاح له فرصتان للعمل: إحداهما ذات دخل مناسب وضوابط شرعية تامة، وأخرى ذات دخل أعلى بكثير، لكنها محوطة بالشبهات، بل المحرمات، بسبب نوع العمل، أو بسبب البلد الذي سيعمل فيه... فيختار الفرصة الأخيرة هذه، بحجة أن المؤمن مأمور بالعمل، وأنه نعم المال الصالح للرجل الصالح... إنما يغالط نفسه حرصاً على متاع الدنيا، وغفلة عن نعيم الآخرة، وعذاب الآخرة، وينسى قول الله تعالى: }بقيةُ الله خير لكم إن كنتم مؤمنين{ أي إن الربح الحلال، مهما بدا قليلاً، هو خير للمؤمن وأكثر بركة.
والأمثلة على هذا كثيرة وكثيرة، نواجهها كل يوم في حياتنا.
ولسنا هنا نتحدث عن الهفوات والزلات، ولا عن الفواحش التي يُلِمُّ بها الإنسان مرة ثم يتوب، ولا عن أحوال يكون فيها الإنسان في موضع المضطر.. إنما عن كثيرين ممن جعلوا مسلكهم في الحياة الدنيا يَدُلُّ على أنهم يؤثرونها على الآخرة.
وغني عن البيان أننا لا ندعو إلى إهمال الحياة الدنيا، والتقصير في عمارة الأرض، والقيام بالدور الذي خلق الله تعالى الإنسان للقيام به... إنما ندعو إلى أن نضع كل أمر في نصابه الصحيح، وفي هذا الشأن ندعو المؤمن إلى ابتغاء رضوان الله وما أعدَّه الله لعباده المؤمنين في الآخرة... وألا ينسى "نصيبه" من الدنيا.
}وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا{ سورة القصص: 77.
إنه في حس المسلم لا مكان في الحقيقة لسؤال: الدنيا أم الآخرة؟! لأن حقيقة أن الآخرة هي المبتغى وعليها المعوّل، وأن الدنيا دار ابتلاء واختبار وعمل وعمارة وإقامة للعدل والإحسان وتعاون على البر والتقوى... هذه الحقيقة ينبغي أن تكون حاضرة في حس المسلم: }وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردُّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون{ سورة التوبة: 105