مملكة جدي الأول

عبد الرحمن السيد

[email protected]

الحمد لله وكفى وصلاة على نبيه المصطفى وبعد...

جلست يوما أتذكر ذلك الماضي الجميل، ماضٍ لم أعشه لكني سمعت عنه، أقرأ عنه كثيرا وأسأل عنه بين حين وآخر فيكاد عقلي يطيش من جمال ما أقرأ وأسمع، ويهتز قلبي طربا وشوقا وحنينا إلى ذلك الماضي الجميل فما أجملها من ذكريات؛ إنها ذكريات جدي الأول؛ كان في قمة السعادة؛ كانت تغمره الفرحة من كل مكان، الأنهار تجري من تحته.. الحقول تحيط به من كل مكان.. كانت ثمار وأزهار.. جنات وجداول.. كانت حياة جميلة من أرقى ما يكون.. أتذكر الخدم الذين يحملون إليه ما لذ وطاب صباح مساء، وهؤلاء الغلمان كأنهم لؤلؤ منثور وتلك الحلل التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا أتخيل تلك الأرائك التي لم ينعم بمثلها أحد في زمانه.. جدي الحبيب لم يعرف للهم مسلكا أو للحزن طريقا كان مَلِكاً بحق بكل ما تحويه هذه الكلمة من الملك والجاه والسلطان..

كانت أياما جميلة، لكن الفرحة لم تدم طويلا فقد غادر جدي كل هذا النعيم وفي لمحة بصر، فيا أسفاه على ملك ضائع..

أخذت أتفكر في ذلك الملك الهائل العظيم ملك جدي الأول وأقول هل من سبيل إلى الوصول.. فعزمت النية على العودة إلى ذلك الوطن السعيد؛ إنه موطني وفيه أحبابي.. إنه موطني.. لكني جئت إلى هنا في رحلة قصيرة حزينة ..

أكاد أبكي حرقة وأسفا.. وأنا أتذكر موطني الحبيب.. أنام وأتمنى أن لا أصحو إلا في موطني الأول.. أخرج من البيت وأحدث نفسي بعدم العودة إلا إلى موطني الأول..

أقسمت يا نفسي أن أعود لأحيا تلك الحياة حياة السعادة بكل ما تحويه من سعادة..

لكني علمت أن جدي خرج من مملكته لأنه أذنب ذنبا فاجتنبته، وعلمت طريق العودة فسلكته ..

حياتي هنا على هذا الكوكب ما هي إلا لأداء مهمة قصيرة ثم أعود، لكني لن أعود إلى ذلك الملك وإلى تلك المملكة إلا بعد أن أنتهي من أداء مهمتي و على أكمل وجه..

أتدري عزيزي ما المهمة الكبرى التي كلفت بها !!

إنها الإصلاح.. أرسلني سيدي لإصلاح هذه الأرض.. إصلاحها من الظلم والفساد.. أرسلني سيدي لأكون شمعة تضيء بل وتنشر النور، فمهمتي هي الإصلاح ولابد له من إصلاح لنفسي أولا ثم يكون التغيير..

فإذا قمت بالمهمة على أكمل وجه فأصلحت نفسي من أمراضها الظاهرة والباطنة.. أمراض القلوب وأمراض الجوارح؛ ثم أصلحت ما أستطيع إصلاحه في المجتمع من حولي وبذلت قصارى جهدي في سبيل ذلك فإن سيدي سيعيدني إلى مملكة جدي الأول.. أتدري من جدي الأول!! إنه آدم عليه السلام..

أيها القارئ..

ما أقصر الحياة هنا على ظهر هذه الأرض.. حياة لكنها سريعة جدا.. ما أشبهها بحلم أو رؤيا من الرؤى.. هذه الحياة سأنظر إليها بعد عودتي إلى مملكتي وأقول ما أجمله من حلم كان سببا في ما أنا فيه من النعيم..

أيها القارئ..

في هذه الحياة القصيرة أقوم ببعض الأعمال وأقرأ بعض الأذكار التي كانت سببا في رجوع إخواني وأبناء أعمامي إلى تلك المملكة فأستشعر تلك السعادة الحاصلة بذلك العمل؛ السعادة هنا وهناك في أجمل مملكة في الوجود.. أعلم أن هذه الأعمال سبب في رجوعي فأعشق تلك الأعمال الصالحة وأعملها بشوق ولهفة لأنها تحقق لي ما أهفو إليه...

أيها القارئ..

أقف وأتساءل كثيرا وأقول.. متى يحين يوم رجوعي.. متى يكون الاستقرار..

لقد طالت الغربة، وكثر الترحال..

لكني أعود وأقول.. ماذا قدمت ؟ ؟

إني في الحقيقة لم أقدم شيئا أستحق بسببه دخول أعظم مملكة في التاريخ بل وتملُّكَها...

فات من عمري الكثير ولكن.. ما ذا قدمت.. أيليق بمثلي أن يقابل ملك الملوك جل جلاله ولم يترك أثرا في هذه الحياة .. أيليق بمثلي أن يقابل ملك الملوك جل جلاله خاويا من الأتباع والمهتدين على يديه..

أيليق بمثلي أن يضيع لحظة من عمره القصير في هذه الحياة بدون عمل صالح ..

لا وألف لا.. لم يبق إلا القليل .. فقد أزف الرحيل واقترب الموعد..

أيتها النفس البشرية..

كفى نوما كفى لعبا إن الأمر جد لا هزل فيه.. هي حياة واحدة لا غير.. حياة تمر سريعا كما مرت على غيري.. كما غادروها بلا عودة فإني أيضا سأغادرها بلا عودة ..

فاعتبري أيتها النفس الحبيبة إني مشفق عليك.. مشفق عليك من الحرمان... الحرمان من الفوز بمملكة جدي الأول....

أسأل الله أن يعيدني إلى أهلي ووطني... و أن يجعل قراءتكم لكلماتي في موازين حسناتكم... إنه ولي ذلك والقادر عليه...