إذا قمتم إلى الصلاة
30
رضوان سلمان حمدان
﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾المائدة6
المعاني المفردة[1]
الْمَرَافِقِ: العضدان.
وَامْسَحُواْ: المسح هو اللمس بالماء ليصيب العضو ولا يتقطر منه الماء.
الْكَعْبَينِ: العظمان النائتان عند بداية الساق.
جُنُباً: الجماع والاحتلام.
فَاطَّهَّرُواْ: أصلها فتطهروا، فأدغمت التاء في الطاء لاتحاد مخرجيهما، ومعنى اطهروا: اغتسلوا.
الْغَائِطِ: مكان التغوط والتبول.
فَتَيَمَّمُواْ: فاقصدوا. من أم الشيء إذا قصده.
صَعِيداً: وجها ظاهرًا من الأرض.
طَيِّباً: طاهرًا غير نجس.
حَرَجٍ: ضِيقٍ فِي دِينِهِ.
في ظلال الآية[2]
إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء. وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام.. إن هذا لا يجيء اتفاقاً ومصادفة لمجرد السرد، ولا يجيء كذلك بعيداً عن جو
السياق وأهدافه . . إنما هو يجيء في موضعه من السياق ، ولحكمته في نظم القرآن..
إنها - أولاً - لفتة إلى لون آخر من الطيبات.. طيبات الروح الخالصة.. إلى جانب طيبات الطعام والنساء . . لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع. إنه متاع اللقاء مع الله ، في جو من الطهر والخشوع والنقاء . . فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة ؛ استكمالاً لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان . . والتي بها يتكامل وجود « الإنسان » .
ثم اللفتة الثانية . . إن أحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب . . كبقية الأحكام التالية في السورة . . كلها عبادة لله . وكلها دين الله . فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيراً - في الفقه -على تسميته « بأحكام العبادات » ، وما اصطلح على تسميته « بأحكام المعاملات » . .
هذه التفرقة - التي اصطنعها « الفقه » حسب مقتضيات « التصنيف » و « التبويب » - لا وجود لها في أصل المنهج الرباني ، ولا في أصل الشريعة الإسلامية . . إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء . وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه؛ وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع . لا ، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر . والدين لا يستقيم إلا بتحققهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء .
كلها « عقود » من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء ، وكلها « عبادات » يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله . وكلها « إسلام » وإقرار من المسلم بعبوديته لله .
ليس هنالك « عبادات » وحدها و « معاملات » وحدها . . إلا في « التصنيف الفقهي » . . وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي . . كلها « عبادات » و « فرائض » و « عقود » مع الله . والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله!
وهذه هي اللفتة التي يشير إليها النسق القرآني؛ وهو يوالي عرض هذه الأحكام المتنوعة في السياق .
﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة . .﴾. .
إن الصلاة لقاء مع الله ، ووقوف بين يديه - سبحانه - ودعاء مرفوع إليه ، ونجوى وإسرار . فلا بد لهذا الموقف من استعداد . لا بد من تطهر جسدي يصاحبه تهيؤ روحي . ومن هنا كان الوضوء - فيما نحسب والعلم لله - وهذه هي فرائضه المنصوص عليها في هذه الآية :
غسل الوجه . وغسل الأيدي إلى المرافق . ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين . . وحول هذه الفرائض خلافات فقهية يسيرة . . أهمها هل هذه الفرائض على الترتيب الذي ذكرت به؟ أم هي تجزىء على غير ترتيب؟ قولان . .
هذا في الحدث الأصغر . . أما الجنابة - سواء بالمباشرة أو الاحتلام - فتوجب الاغتسال ..
ولما فرغ من بيان فرائض الوضوء ، والغسل ، أخذ في بيان حكم التيمم . وذلك في الحالات الآتية :
حالة عدم وجود الماء للمحدث على الإطلاق . .
وحالة المريض المحدث حدثاً أصغر يقتضي الوضوء ، أو حدثاً أكبر يقتضي الغسل والماء يؤذيه . .
وحالة المسافر المحدث حدثاً أصغر أو أكبر . .
وقد عبر عن الحدث الأصغر بقوله : ﴿أو جاء أحد منكم من الغائط﴾ . . والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه . . والمجيء من الغائط كناية عن قضاء الحاجة تبولاً أو تبرزاً .
وعبر عن الحدث الأكبر بقوله : ﴿أو لامستم النساء﴾.
لأن هذا التعبير الرقيق يكفي في الكناية عن المباشرة . .
ففي هذه الحالات لا يقرب المحدث - حدثاً أصغر أو أكبر - الصلاة ، حتى يتيمم . . فيقصد صعيداً طيباً . . أي شيئاً من جنس الأرض طاهراً يعبر عن الطهارة بالطيبة - ولو كان تراباً على ظهر الدابة ، أو الحائط . فيضرب بكفيه ، ثم ينفضهما ، ثم يمسح بهما وجهه ، ثم يمسح بهما يديه إلى المرفقين . . ضربة للوجة واليدين . أو ضربتين . . قولان . .
وهناك خلافات فقهية حول المقصود بقوله تعالى : ﴿أو لامستم النساء﴾. . أهو مجرد الملامسة؟ أم هي المباشرة؟ وهل كل ملامسة بشهوة ولذة أم بغير شهوة ولذة؟ خلاف . .
كذلك هل المرض بإطلاقه يجيز التيمم؟ أم المرض الذي يؤذيه الماء؟ خلاف . .
ثم . . هل برودة الماء من غير مرض؛ وخوف المرض والأذى يجيز التيمم . . الأرجح نعم . .
وفي ختام الآية يجيء هذا التعقيب :
﴿ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج . ولكن يريد ليطهركم ، وليتم نعمته عليكم ، لعلكم تشكرون﴾ . .
والتطهر حالة واجبة للقاء الله - كما أسلفنا - وهو يتم في الوضوء والغسل جسماً وروحاً . فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه؛ ويجزئ في التطهر عند عدم وجود الماء ، أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء . ذلك أن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت الناس ، ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف . إنما يريد أن يطهرهم ، وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة؛ وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة ، ليضاعفها لهم ويزيدهم منها . . فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم .
وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا :
﴿ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون﴾. .
تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء . فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد ، ليقول متفلسفة هذه الأيام : إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات ، كما كان العرب البدائيون! لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة! إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد؛ وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه . وجانب التطهر الروحي أقوى . لأنه عند تعذر استخدام الماء يستعاض بالتيمم ، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى . . وذلك كله فضلاً على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات ، وجميع البيئات ، وجميع الأطور ، بنظام واحد ثابت ، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطوار؛ في صورة من الصور ، بمعنى من المعاني؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال .
فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . ولنحاول أن نكون أكثر أدباً مع الله؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء .
كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها . عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة؛ وإزالة كل عائق يمنع منها . . فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان . . كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية . إذ يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر ، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء . . لقاء العبد بربه . . وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب . . إنها نداوة القلب ، واسترواح الظل ، وبشاشة اللقاء . .
هداية وتدبر[3]
1. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ [4]«
2. إن أحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب.. كبقية الأحكام التالية في السورة.. كلها عبادة لله. وكلها دين الله. فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيراً - في الفقه - على تسميته «بأحكام العبادات»
، وما اصطلح على تسميته « بأحكام المعاملات ».
3. أبو بكر الجزائري: الأمر بالطهارة[5]. وبيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل. وكيفية التيمم[6]. وبيان الأعذار الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم. وبيان موجبات الوضوء والغسل. والشكر هو علة الإنعام.
4. سئل عكرمة عن قول الله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ فكلّ ساعة يتوضأ ؟ فقال : قال ابن عباس : لا وضوء إلا من حدث .
5. أربعة أسباب للتيمم وهي: المرض، والسفر، والحدث (المجيء إلى الغائط)، وملامسة النساء، وفقد الماء في الحضر.
6. ذكر – تعالى - موجب الغسل وهو الجماع، وكنى عنه بالملامسة، تعليماً لعباده المؤمنين الآداب الرفيعة في مخاطباتهم.
7. تتعرض الآية إلى الأركان الأساسية في الوضوء.. ويبدأ الحق أركان الوضوء الأساسية بقوله: ﴿فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ والغسل يتطلب إسالة الماء على العضو وأن يقطر منه الماء بعد ذلك.. والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في هذه الآية عن الوضوء، تكلم عن أشياء تُغسل وعن شيء يُمسح. فالأمر بالغسل يشمل الوجه واليدين إلى المرافق والرجلين إلى الكعبين. والأمر بالمسح يشمل بعض الرأس. والغسل قد يكفي مرة أو اثنتين أو ثلاثا ليتأكد الإنسان تمامًا من الغسل، ولكن إذا كانت المياه قليلة فيكفي أن يغسل الأجزاء المطلوبة مرة وأن يتأكد أنه قد غسل المساحات المطلوبة.
8. لم يأت الحق بالممسوح في جانب والمغسول في جانب ليدل على أن الترتيب في هذه الأركان أمر تعبدي وإلا لجاء بالمغسول معًا والممسوح معًا.
9. يقول الشعراوي رحمه الله تعالى في خواطره: وقد يقول قائل: أليست " لامستم النساء " كالجنابة؟
ونقول: إن الذي يجيء هنا هو حكم ثان يوضح لنا ما ينوب عن المياه، لأن الحق يرتب لِعبادة لا تسقط عن المكلف أبداً؛ لذلك لن يكلفه بشيء قد لا يجده، فقد لا يجد الإنسان المياه، وعليه إذن بالتيمم؛ لأن الصلاة عبادة لا تسقط أبدًا عن المكلف حتى في حالة مرضه الذي لا يستطيع أن يحرك معه أي عضو من جسمه، هنا يسمح سبحانه للمريض أن يصلي جالسًا، أو مستلقيًا أو يصلي بالإيماء برأسه، أو يصلِّي بأهداب عينيه، وحتى مريض الشلل عليه إجراء خواطر الصلاة وأركانها على قلبه؛ لأن فرض الصلاة عبادة لا تسقط أبدا عن الإنسان مادام فيه عقل.
10. إن العبد الصالح يتمنى أن يرى مَن أنعم عليه؛ لذلك وضع الحق شرط الطهارة للقائه. وعندما يحضر الإنسان لحضرة ربه بالصلاة ويكبر: " الله أكبر " فهو منذ تلك اللحظة يوجد في حضرة الله. وإذا كانت الفيوضات تتجلى على الإنسان من نعمة مخلوق مثله سواء أكان أخاً أم أباً أم قريباً وهي نعمة مادية يراها الإنسان سواء أكانت طعاماً أم شراباً أم لباساً. فما بالنا بفيوضات المنعم الخالق الذي أنعم على الإنسان، إنها فيوضات من غيب؛ فكرمه لك غيب كالاعتدال في المزاج والعافية ورضا النفس وسمو الفكر.
[1] . التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير. تفسير خواطر الشعراوي.
[2] . في ظلال القرآن.
[3] . في ظلال القرآن. توفيق الرحمن. محاسن التأويل. زهرة التفاسير. تفسير خواطر الشعراوي.
[4] . حديث 135 - الوضوء - صحيح البخارى.
[5] . في الحديث الصحيح: "الطهور شطر الإيمان" . رواه مسلم.
[6] . الأكثرون بالنسبة للتيمم على أنه من ضربتين: إحداهما للوجه، والأخرى لليدين، ومسح اليدين يكون ظهرًا وبطنًا، ليعم المسح أجزاءهما.