قلبي ليس للإيجار..
سحر المصري
طرابلس - لبنان
طفلتي دانية.. ما زلت أذكر براءة عينيها في أول لقاءاتنا.. كان عمرها لا يتجاوز العشر سنوات وكانت ضمن مجموعة اليتيمات اللواتي تعهدتهنّ بالإرشاد والتوجيه والترفيه.. وكانت دانية قوية الشخصية منذ صغرها ولم يغنها فقرها عن مشاعر العزّة فاستعاضت بالأخلاق والتفوق عن المال.. ومضت السنون وكبرت دانية وبالرغم من تخرّجها من المدرسة وانقطاعي عن تلك المجموعة المميّزة إلا أن دانية بقيت تتردّد عليّ بين الفينة والأُخرى لتطمئنني عنها وتسرّ لي بأسرارها الصغيرة.. حتى كبرت واشتدّ عودها وتخرّجت من الجامعة وتوظفت وابتدأت تعيل أسرتها وتقطع عنها شبح العوز والفقر بفضل الله جل وعلا.. كانت دانية محط فخر لبنات جنسها بعصاميّتها ووعيها في كل أمورها..
وذات محنة.. طرقت بابي دانية ووجهها يقطر ضعفاً وأسىً.. وما إن أغلقت باب غرفتي حتى ارتمت في حضني وأجهشت بالبكاء.. ثم تكلَّمَت بمصابها.. لقد عضّتها أنياب الحب فأوجعتها.. استمعت إلى قصتها كاملة.. وفهمتُ منها أن الشاب حديث عهدٍ بزواج ومع أنه "يحترم" زوجته إلا أنه لا يجد غضاضة بإقامة علاقات "محرّمة" مع أُخريات.. وكان داهية في سلب ما ليس من حقه.. المشكلة معي كانت أن دانية تعرف أن ما تقوم به خاطئ ولكنها لم تكن تستطيع التخلص من هذه المشاعر التي وجدت فيها لذة "آنية" سرعان ما تتلاشى أمام أول وقفة بين يدي الله جل وعلا في محرابها.. حاولت أن أخفّف عنها ضغطها.. أخبرتها أن الحب مشاعر راقية طاهرة وليس بذاته حراماً بل هي أسمى ما يمكن أن يشعر به انسان تجاه آخر.. ولكنها إن لم تكن مؤطّرة برباط شرعي واسترسل فيها الشاب والفتاة فإنها كيد إبليس يلقيه عليهما ليقتات من دينهما وراحتهما.. وكان جلياً أن ذلك الشاب يتلاعب بمشاعرها من خلال ما أخبرتني به يساعده في ذلك دهاؤه وخلقه الوضيع وقلة دينه! لم يسبق لدانية أن مرّت بأي تجربة حب من قبل وربما فقدها لأبيها جعلها تتعلق بأول شاب أظهر لها بعض حنان "ذكوري" ثم كلماته التي تلامس شغاف قلبها فتشحنه بِطاقَةٍ ترفعها عالياً في عوالم سحرية.. ولكنها سرعان ما تحطّها أرضاً بل قل حضيضاً!
كنت أتفهّم مشاعرها وما تمر به وأنصحها في كل زيارة لها إلي بضرورة إنهاء هذه العلاقة مستخدمة تارة المنطق والعقل – الذي عادة ما يكون مغيّباً وفي حالة سكر عشقي – ومستخدمة تارة أُخرى خوفي على سمعتها وقلبها ودينها..
مضت سنة كاملة وأنا بين هذا وذاك.. وبين متابعات حثيثة لهذه العلاقة ومحاولات احتواء دانية لتخرج مما هي فيه حتى بشّرتني في يوم أنها في طريق الشفاء وأنها استقالت من المكان الذي تعمل فيه وانتقلت إلى مكان آخر ولم تعد تردّ على مكالماته لها وتحاول جاهدة طرد كل ذكرى تنهش طهر قلبها.. فهي ما زالت تحِنّ إليه بين وقتِ وآخر.. ولكنها مصرّة على قطع العلاقة مهما كلّفها ذلك وأسرّت إليّ أنها تريد العمرة لتكفِّر عما قصّرت به في حق الله جل وعلا فاستبشرت خيراً وصاحبتها إلى تلك الديار الطاهرة حيث تنجلي الروح وتسمو النفس ويتوضأ القلب بزمزم التوبة.. وكانت رحلة من أروع الرحلات حيث ارتقينا في ظلِّ الذكر والاستغفار والخضوع لله جلّ في علاه وتعاهدنا على طلب مرضاته سبحانه..
قصة دانية لا تزال فصولها تلاحقني.. فَكَم في هذه الدنيا من "دانية"؟ وكَم فيها من دنيء خُلُق يلاحق الطاهرات ليرمي بهنّ في مهالك الرذيلة.. ويبقى يتتبّع خطواتهنّ ليقتنص زلّة قدم أو ضعف إيمان أو فراغ روح.. حكايا عجيبة نسمعها كل يوم نسأل الله جل وعلا بعدها السلامة لبنات المسلمين والحفظ لشبابهم.. ومن خلال احتكاكي بصبايا بعمر الورد في الدروس الدينية أجد أكثر أسئلتهنّ حين يتعرّفن على الدين هي عن حكم الإسلام في الحب وهل هو حرام؟ وهل إذا التزمنَ لن يعد بإمكانهنّ التكلم مع الجنس الآخر والخروج معهم؟ هذا الكمّ من الأسئلة توضِح مدى أهمية هذا الموضوع لهنّ وبقدر بُعد المجتمع الذي يعشن فيه عن الإسلام بقدر استثقالهنّ لأحكام الشرع في ضبط هذه العلاقة بين الجنسين..
ثمّ إن مساهمة الإعلام في إظهار الحاجة البشرية للحب "بمفهومه الدنيوي السفيه" تجعل الشباب والشابات يفتشون عنه ويعتقدون استحالة الحياة بدونه فتأتي الأغنيات والمسلسلات والأفلام والسفاهة لتغلّف مشاعر فطرنا الله تعالى عليها لنعيشها في الحلال ونعمر الأرض ويكثر النسل..
ولِمن اكتوى بنار الحب الذي لا يمكن له التتويج برباط شرعي فهذه نصائح مهمة جداً تفيد في الخروج من الحالة التي يرتكس فيها صاحبه مع التأكيد أنه ليس بالأمر الهيِّن أن يجاهد المرء نفسه ليُخرِجها من مشاعر قد تكون مسيطرة عليه ولكنه الجهاد الأكبر وتحرير الروح مما يكبلها يستحق المعاناة التي قد يلقاها المرء في طريق الشفاء..
أما عن النصائح فهي الآتية:
- بتر العلاقة فوراً وبشكل نهائي.
- محاولة الإبتعاد عن أي مكان يوجد فيه المحبوب.
- طرد أي فكرة تأتيه عن الطرف الآخر ومحاربة تزيين الشيطان له ليتواصل من جديد وعدم الاسترسال مع أي خاطرة.
- حرق كل الصور والرسائل الورقية وحذف كل الملفات والرسائل الالكترونية الخاصة بالمحبوب.
- تفريغ الطاقة بالرياضة والإشتراك بالنوادي والكشاف.
- التذلل لله جل وعلا والدعاء بأن يعينه على التخلص مما يجد فالقلب بين اصبعين من أصابع الرحمن جل وعلا يقلّبه كيف يشاء.
- التفكّر بعقلانية ومنطق عن مآل هذه العلاقة المتعِبة والأهم سخط الله جل وعلا على المرء الذي يتقوّى بما رزقه إياه في معصيته! واختيار اللذة البعيدة السرمدية على اللذة الآنية الزائلة.
- الانشغال بمآسي الأُمّة والترفّع عن النفس والعمل لإعادة شرع الله جل وعلا ونصرة قضايا الإسلام العظيم.
وإن كنتَ ممّن أكرمك الله جل وعلا بتربية وإرشاد الشباب ومتابعة بعض حالات مَن هام حباً فأهمّ خطوات يجب أن تتبعها هي:
- عدم التعنيف وإفهام المُبتلى أن هذه المشاعر طبيعية ولكن يجب أن تكون في ظل رابطة شرعية. فالحب ليس حراماً في ذاته ولكنه يدخل دائرة الحرام حين يتم التعبير عنه خارج الأطر الشرعية.
- احتواء الشاب أو الفتاة والتقرّب منهم وإشعارهم أن هناك من يتفهّمهم تماماً ويدعو لهم في ظهر الغيب.
- التأكيد للفتاة على أن الشاب إن كان يحبها فعليه أن يحافظ عليها وإلا فهو عابث أو ضعيف وهي لا تحتاج كلا الصفتين.
- إن كان ثمّة علاقة جسدية بين المتحابّين فمن المهم ارشادهم الى خطوات التوبة والندم والعزم على عدم العودة وتوجيههم إلى هذه المعاني وأن الله جل وعلا يغفر الذنوب جميعا وهذا يقيننا بالله جل وعلا.
- متابعة الحالات هذه بشكل مستمر ومحاولة إخراجهم مما همّ فيه من التعب عبر رحلات ترفيهية وربطهم بالصحبة الصالحة.
- تشجيعهم على الانخراط في دور القرآن الكريم ولجان المساجد والجمعيات الخيرية.
- تشجيع الشاب على التقدّم الى الفتاة إن كان ذلك ممكناً فقد جاء في حديث ابن عباس "لم يُرَ للمتحابين مثل النكاح".
- الوساطة لدى أهل الفتاة ان كانوا يرفضون تزويج الشاب لمعايير غير معتبرة والتخفيف عن الشباب من المتطلبات الكثيرة لتحصين النفس.
- محاولة تقوية ايمانه وخاصة الايمان بالقضاء والقدر فكلما ارتقى ايمانيا كلما شعر بتفاهة الدنيا وزهد بما فيها كما أنه على المربي أن يوجِّه تفكير العاشق إلى أن الله جل وعلا لا يقدّر إلاّ الخير للإنسان الذي لا يعرف دائماً الحكمة من المنع وعسى أن يكره شيئاً وهو خير له!
- اقناعهم أن ما عند الله جل وعلا خيرٌ وأبقى وأن الحب الطاهر الحلال رزقة سيسوقها الله تعالى لهم ولكن عليهم التحلي بالصبر والمصابرة وعدم الاستعجال.
- نشر ثقافة الحب في المجتمع عبر المحاضرات والدروس ودرجاته ابتداء من الحب الإلهي ثم حب الحبيب عليه الصلاة والسلام وحب الأهل والصالحين وتبيان كيفية معالجة من ابتُلِي بداء العشق أو السبل التي تعين على قطع الطريق أمام استفحال هذه المشاعر ووأدها وهي بعد وليدة. فالبداية يمكن حدّها.. حين يتسلل هذا الشعور الى النفس على المرء أن يبتعد عن ما يؤجّجه إن كان يخشى على دينه وقلبه وهو يعلم أنه لا يستطيع الزواج من الطرف الآخر فيردم حفرة الإعجاب قبل أن يتطور الأمر إلى علاقة وطيدة ينتزعها الحرام من كل جانب في لقاءات وأحاديث ومواعيد ومراسلات وتقرّب وتودّد وقد تصل الأمور إلى الملامسة المحرّمة وسلوكيات لا يرضاها المولى جل وعلا..
وفي الختام.. قلوبنا عندنا أمانة.. قد أفلح من زكّاها.. وألبسها أزكى الحُلل وأرضى ربه جل وعلا.. وقد خاب من صيّرها إلى الهلاك وغاب في غياهب جب الهوى.. وأرضى الشيطان والدنيا والنفس الأمّارة بالسوء..
ووالله الذي لا اله الا هو.. لا تعدل لذة سنوات قربٍ من حبيبٍ في الحرام نار لحظة في البعد عن الله جلّ في علاه..
ومن ترك شيئاً لله.. عوّضه الله خيراً منه.. في الدنيا والآخرة!
اللهم اجعلنا من الذين قلت فيهم "والذين آمنوا أشدّ حباً لله" وممّن "يحبهم ويحبونه" !