التربية المتوازنة في الجوانب الشخصية
خليل الجبالي
حرص رسول الله صل الله عليه وسلم علي أن يربي الصحابة ومَن ثمَّ المسلمين تربية متكاملة كما جاء بها الإسلام الحنيف، مما بَنَى رجالاً يعتمد عليهم في السراء والضراء والمنشط والمكره.
فزرع رسول الله صل الله عليه وسلم في قلوبهم الربانية بكل معانيها من إيمانيات وروحانيات وعبادات، فأهلَّهم ليكونوا ربانيين يعمرون الحياة ويبنون الأرض ويوجدون العقيدة في القلوب والمشاعر والجوارح، ويقومون بدورهم الذي خلقهم الله من أجله (ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات :55 ).
فالتربية الإسلامية بخصائصها وأهدافها ووسائلها مميزة عن غيرها، فمصادرها الأساسية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة اللذان زاداها كمالاً وخلوداً، فقد قال الله تعالى: ( إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9 ) ، وقال سبحانه وتعالي عن نبيه محمد صل الله عليه وسلم: (ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى (4))(سورة النجم.
فصارت التربية الإسلامية سوية لطبيعة البشر، ومناسبة لفطرتهم التي فطرهم الله عليها مما سهل لهم طريق العلم والمعرفة ومن ثمَّ التطبيق علي أرض الواقع.
والتربية الإسلامية تتناسب مع الجنس البشري، فتربي الذكر والأنثي والصغير والكبير كل بما يتناسب مع جنسه ومراحل عمره المختلفه.
والتربية الإسلامية ربانية، تعني بالجانب الإيماني والتعبدي فتنشئ جيلاً ربانياً سوي النفس، مطمئن الفؤاد ، متصل العلاقة بالله سبحانه وتعالي فيصبح إلتزامه وطاعته حباً لله ورضاً بما أمره به، فينال الأجر والثواب والجنة بعد رضا الله سبحانه وتعالى.
والتربية الإسلامية أخلاقية، فهي تضبط الأخلاق والسلوك، وتحدد علاقة المسلم بالآخرين وتبين له الحقوق والواجبات تجاههم، مما تجعله محبوباً لدى الآخرين بحسن خلقه الذي ينال به منزلة جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فعن عمرو بن حفص قال: حدثنا أبي: حدثنا الأعمش قال: حدثني شقيق، عن مسروق قال:
كنا جلوساً مع عبد الله بن عمرو يحدثنا، إذ قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وإنه كان يقول: (إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً)رواه البخاري ،
وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ) رواه الترمذي وصححه الألباني في الجامع الصغير.
والتربية الإسلامية شاملة كما جاء بها الإسلام الحنيف فتحث المسلم أن يأخذها من كل جوانبها حتي يصل للوعي والفهم الصحيحين، فلا يميل في جانب دون الآخر، فهي تهذب الروح وتسمو به، وتربي العقل وتوعيه فكرياً وثقافياً وسياسياً، وتضبط العواطف وتهذبها، وتعني بالجسم بدنياً فتريضه، وجمالياً فتطهره، وتأمره بحسن المظهر، وصحياً فتنهاه عن الطعام والشراب الذي يضره،
( فهذا الدين لايصلح له إلا من أحاطه من جميع جوانبه ).
لم تكن التربية الاسلامية دنيوية محضة في أهدافها كما كانت عند اليونان والرومان، ولم تكن دينية محضة كما كانت عند اليهود. إنما هي دينية ودنيوية معاً، تقوم على الايمان والعمل والعقيدة والسلوك لتكوِّن المسلم الصالح للدنيا والآخرة.
فعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبداً ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (متفق عليه).
فالتربية المتوازنة والمعتدلة تعصم صاحبها من الغلو والتطرف في جانب دون الآخر، وتهيئ له حياة يسيرة سهلة، يستطيع من خلالها العيش مع الآخرين والتمتع بما فيها من خيرات وطاعات وعلم ونفع له ولغيره، فتحثه علي زرع الخير في الدنيا لينال به حسن العاقبة في الآخرة، فيحرص علي نفع البشرية والعمل لدين الله، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة .. ) رواه البخاري .
ـ وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ( هلك المتنطعون .. ) قالها ثلاثًا ، ( رواه مسلم ) .
فالإسلام منهج شامل متوازن يشمل كل مناحي الحياة جميعاً، فينمي الشخصية المسلمة ويطورها ويعمل علي تكوينها تكويناً دقيقاً في كل جوانبها ومناشطها الحياتية.
(يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78))(سورة الحج )