قدوة القيادة في الإسلام 41
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الحادية والأربعون:
مشاورةُ القائد لأصحابه ، واحترامُه لآرائهم
د. فوّاز القاسم / سوريا
إن شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تحتوي على عنصرين ، عنصر نبوي معصوم ، وهو عنصر غير قابل للخطأ لأنه مُسَدَّد بالوحي ، وعنصر بشري غير معصوم ، وهو الذي تسدِّدُه الشورى ، وتغنيه التجربة .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب ، كثير المشورة لإخوانه ، شديد الحرص على سماع آرائهم والأخذ بها حتى في أموره الشخصيّة والعائليّة .
فلقد شاورهم في معركة بدر ، وكان حريصاً على سماع آرائهم في الإقدام على المعركة ، ولم يكتف بآراء المهاجرين على عظمتها وروعتها ، بل أصرَّ على سماع آراء الأنصار كذلك .
قال ابن اسحاق يحدث عن مشورة الرسول القائد صلى الله عليه وسلم لجنوده في بدر : فاستشار الناسَ ، وأخبرهم عن قريش ؛ فقام أبو بكر الصدِّيق ، فقال وأحسن . ثم قام عمر بن الخطاب ، فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، إمض لما أمرك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (( اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون ))، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغماد ، لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ؛
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : خيراً ، ودعا له بخير.
ثم قال : أشيروا عليَّ أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، فقال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل ؛
قال : قد آمنَّا بك وصدَّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلَّف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لَصُبُرٌ في الحرب ، صُدُقٌ عند اللقاء ، ولعلَّ الله يريك منا ما تقرُّ به عينُك ، فسر بنا على بركة الله .
فسُرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشَّطه ذلك ؛ ثم قال : أبشروا ، فقد وعدني الله بإحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم . هشام 1 (614 )
وغيّر مواقع جيشه بناء على مشورة أحد جنوده وإخوانه .
قال ابن اسحاق : فحُدثتُ عن رجال من بني سَلَمة ، أنهم ذكروا : أن الحُباب بن المنذر رضي الله عنه ، قال : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخره ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة .
فقال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ( يعني المشركين ) ، فننزله ، ثم نغوِّر ما وراءه من القُلُبْ ، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماءً ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي . فنهض ومن معه من الناس ، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقُلُبِ فغُوِّرت ، وبنى حوضاً على القَليبِ الذي نزل عليه … هشام 1 ( 620 )
وشاورهم في ملحمة أُحد كذلك ، وأخذ برأي الأكثرية من إخوانه الراغبين بملاقات المشركين خارج المدينة المنورة ، بالرغم من أنه كان مخالفاً لرأيه .
ولقد جاء القرآن العظيم في معرض تعليقه على أحداث ملحمة أُحُد الخالدة ، ليؤكد على أهمية مبدأ الشورى في حياة الأمة ، بالرغم من كل تلك النتائج المريرة التي ترتبت على تطبيقه .
قال تعالى في سورة آل عمران : (( فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ، ولو كنت فظَّاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك ، فاعفُ عنهم ، واستغفرْ لهم ، وشاورْهم في الأمر ، فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله ، إنَّ الله يحب المتوكلين )). آية (159)
وعندما أقف أمام هذه الآيات البيِّنات ، وأستعرض أحداثها في السيرة المطهرة ، تنتابني رعشة ، وتسري في جسدي قشعريرة ، وتتملكني الدهشة ، من مستوى الروعة والعظمة التي أدار بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بتوجيه من ربه ، تلك الأحداث .
وأعلم بمطلق اليقين بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عند بشر ، بل هو من عند الله رب العالمين .!
فها هو القرآن العظيم يقرِّر مبدأ الشورى بصورة جازمة قاطعة لا لبس فيها ، وفي ملحمة أُحُد بالذات ، وعقب وقوع نتائج للشورى كانت تبدو في ظاهرها خطيرة ومريرة .
فقد كان من جرَّائها _ ظاهرياً على الأقل _ وقوع خلل في الصف المسلم ، حيث اختلفت الآراء حين استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لملاقاة المشركين ، فرأت مجموعة _ وفيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم _ أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها ، بينما تحمَّست مجموعة أخرى _ وهي الأغلبية _ فرأت الخروج للقاء المشركين خارجها ، وكان من جرَّاء هذا الاختلاف ، ذلك الخلل في وحدة الصف المسلم ، إذ عاد عبد الله بن أُبيّ بن سلول بثلث الجيش ، والعدوّ على الأبواب ، وهو حدث عسكري مرعب ، وخلل تكتيكي مخيف .
كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن هي أسلم الخطط من الناحية العسكرية ، إذ أنها كانت مخالفة للسوابق في الدفاع عن المدينة ، ولذلك فقد اتبع المسلمون عكسها في معركة الخندق اللاحقة .
هذا قبل المعركة .. أما بعدها ، فقد كان من حق القيادة النبوية _ لو لم يكن هذا القرآن من عند الله _ أن تنبذ مبدأ الشورى من أساسه ، وتنسفه من جذوره ، أمام ما أحدثه من انقسام في الصف المسلم في أحرج الأوقات ، وأمام النتائج المريرة التي نتجت عن تطبيقه ، ولكن الإسلام كان ينشئ أمة ويربيها ويعدها لقيادة البشرية ، وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمة ، وإعدادها للقيادة الراشدة ، هي أن تربى بالشورى ، وأن تُدرَّب على حمل التبعات ، وأن تخطيء مهما كان الخطأ جسيماً وذو نتائج مريرة ، لتعرف كيف تصحح الخطأ بنفسها ، وكيف تتحمل تبعات رأيها وتصرفها ؛ فهي لن تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ ، ولا قيمة للخسائر مهما عظمت ، إذا كانت الحصيلة هي إنشاء أمة مدرَّبة ، مدركة ، واعية ، مقدرة للتبعة.
ولا قيمة لاختصار الأخطاء في حياة الأمة ، إذا كانت النتيجة أن تظلَّ قاصرة ، كالطفل الذي يُمنع من المشي ، لمجرَّد توفير بعض العثرات والصدمات .!
إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته ، لأنه يعلم أن الأمة لن تستعد أبداً إلا إذا مارست ذلك فعلاً .
وحرمان الأمة من مزاولة مبادئ حياتها الأساسية ، كمبدأ الشورى ، هو أخطر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله .
والأخطاء في مزاولته في البداية ، مهما بلغت من الجسامة ، لا تسوّغ إلغاءه ، لأنه إلغاء لنموها الذاتي ، ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف ، بل هو إلغاء لوجودها أصلاً .
وثمة لفتة أخرى في هذا السياق ، وهي أن لو كان وجود القيادة المتميزة في الأمة يمنع مزاولة الشورى ، أو يكفي ويسد مسدَّها ، لكان وجود محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، المؤيد بالوحي ، كافياً لحرمان الجماعة يومها من حق الشورى ؛ ولكن وجود محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعه الوحي الإلهي ، لم يلغ هذا الحق ، بالرغم من كل ما ترتب عليه من إشكالات ، لأن هذه كلها لا تقوم ، كما ذكرنا ، أمام إنشاء الأمة الراشدة المدرَّبة على الحياة ، المدركة لتبعات الرأي والعمل ، الواعية لنتائجهما .
ومن هنا فقد جاء هذا الأمر الجازم : (( وشاورهم في الأمر )).
ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر النتائج التي صاحبت استعماله ، وليثبت أهميته في حياة الأمة أياً كانت الأخطار التي ترافق تطبيقه ، وليسقط الحجة الواهية التي قد تُثار لإبطاله ، كلما نشأ عن استخدامه بعض العواقب السيئة ، كما حدث في أُحُد ، لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ ، ووجود الأمة الراشدة أكبر من أية خسارة في الطريق .
على أن الصورة الحقيقية للعمل الإسلامي لا تكتمل حتى نمضي مع الآية إلى آخرها ، فنرى أن الشورى في المفهوم الإسلامي لا تعني التأرجح ، والمهاترة ، والتعويق ، والتثبيط .!
وهي لا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف (( فإذا عزمت ، فتوكَّل على الله ، إنَّ الله يحب المتوكلين )).
إن مهمة الشورى الحقيقية هي تقليب وجهات النظر وأوجه الرأي ، واختيار أفضل الخيارات المعروضة ، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد، انتهى دور الشورى ، وجاء دور التنفيذ ؛ والتنفيذ يكون في عزم وحزم وتوكل على الله ؛ وكما ألقى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، درسه النبوي الرباني ، وهو يعلم الأمة مبدأ الشورى ، ويعلمها إبداء الرأي ، وتحمل المسؤولية ، في أخطر الشؤون وأكبرها ، وهو قرار الحرب ؛ كذلك فقد ألقى عليها درسه الثاني ، في عدم اتخاذ هذا المبدأ العظيم وسيلة للجدل المقيت ، والمهاترة ، والتسويف ، وتضييع الأعمار والأموال ؛ بل المضاء بعد الشورى بعزم ، والتوكل على الله، وإسلام النفس لقدره ، وعدم التأرجح بين الآراء والأهواء ، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي في النهاية إلى العبثية والسلبية ، والإسلام العظيم صاحب الأهداف العظيمة ، والطموحات العملاقة ، يمقت السلبية ، ويترفع على العبثية ؛ بل هو رأي وشورى ، وعزم ومضاء، وتوكل على الله ، في توازن رائع ، وتكامل عجيب …
كما شاورهم يوم الأحزاب ، وأخذ برأي أحد جنوده ، وهو سلمان الفارسي ، رضي الله عنه ، في حفر الخندق ، والذي كان أسلوباً رائعاً ، فاجأ الأحزاب ، لأن العرب لم يكونوا يعرفونه من قبل .
بل كان يشاورهم حتى في أموره الشخصية والعائلية كما ذكرنا ؛
قال ابن إسحاق يحدث عن عائشة رضي الله عنها ، الصديقة المبتلاة بخبر الإفك الآثم : قالت : فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، عليَّ بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد رضي الله عنهما، فاستشارهما؛ فأما أسامة فأثنى عليَّ خيراً وقال : يا رسول الله ، أهلك ، ولا نعلم عنهم إلا خيراً .
وأما عليٌّ فإنه قال : يا رسول الله ، إن النساء لكثير ، وإنك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فإنها ستصدقك ؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بُرَيْرَةَ ( الجارية ) ليسألها ، قالت : فقام إليها علي بن أبي طالب فضربها ضرباً شديداً ، ويقول : اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : فتقول : والله ما أعلم إلا خيراً ، وما كنت أعيب على عائشة شيئاً ، إلا أني كنت أعجن عجيني ، فآمرها أن تحفظه ، فتنام عنه ، فتأتي الشاة فتأكله .!
ملاحظة : لقد قدحت في ذهني إشراقة فأحببت أن أسجّلها لكم .
إن لكل كائن في هذا الوجود مجاله الذي يحلّق فيه ، فهنالك من الناس من لا يتطلّع لأكثر من مواضع قدميه ، وهناك من الرجال من يحلّق فوق الثريا ، ويعتبر ذلك دون طموحاته، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم ، وتأتي على قدر الكرام المكارم ...
والهدهد في سورة النمل لم يكن لديه طموح أكثر من نقر دودة مخبوءة في التراب ، ولذلك قال لسيدنا سليمان عليه السلام في استغراب ودهشة :
(( ألا يسجدوا لله الذي يُخرج الخبء في السموات والأرض ، ويعلم ما تخفون وما تعلنون )) النمل 25
والمسكينة زنّيرة مسكونة بالخدمة ، وحراسة العجين ..!!!
وأفدح خطأ كانت تتصوره عن عائشة رضوان الله عليها أنها كانت تنام فتأتي الشاة فتأكل العجين ...!!!
هذا في الوقت الذي كانت الأمة دائخة ، والدولة الإسلامية مهدّدة ، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم يمر بأعظم محنة في حياته ، وزنّيرة مشغولة بالعجين والشاة!
وعلى الجانب الآخر هناك الألق والسمو والارتقاء والطهر والعنفوان والملائكية ..!
فلقد سأل رجلٌ يمتطي صهوة فرسه رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فقال :
يا رسول الله : أدعُ الله لي أن أرافقك في الجنّة .!!!
فقال له الرسول المعلّم : (( إذاً يُعقرُ جوادُك ، وتُنكحُ زوجتُك )) !!!
يا الله ، يا للروعة ، ويا للعظمة ...!!!
حتى الجواد لا يسلم أيها الأبطال العظماء ، ويا أيها السوريون المجاهدون النجباء.!
حتى الجواد لا يسلم مع عشّاق المجد ، وطلاّب المعالي ...!!!
وما للجواد ولذلك ، فقد كانت تكفيه حفنة من الشعير ، أو باقة من الحشيش ، أو أن يرخى له الحبل فيرتع على البيدر ...!!!
ولكننا هنا أمام رجال من طراز متميّز...
رجال يعيشون فوق صهوات الخيل ، ويحيون تحت ظلال السيوف ...!!!
رجال لهم نفوس عظيمة ، تتعب معها الأبدان ، وتُعقر تحتها الخيول ...!!!
وإذا كانت النفوسُ عظاماً *** تعبت في مرادها الأجسام