ترانيم الروح

هايل عبد المولى طشطوش

[email protected]

جلست في ذات مساء تشريني وقد تهالكت فيه أوراق الشجر وآلت إلى السقوط، والشمس ترسل بقايا من خيوطها الذهبية وقد اعترتها حمرة لا تخفى من بين ثناياها الأحزان، جلست بين ثنايا الروح الحالمة وبين بقايا الذكرى المحطمة وتحيط بي أمواج النفس المتلاطمة التي أخرجت بزفراتها من بين ثنايا ضلوعي المنكسرة شريط الذكريات الطويل...، فما كان من الروح إلا أن تسامت إلى فضاء الكون وحلقت في افقه الفسيح الرحيب وتبعتها مني الزفرات والآهات على تلك الصور التي لم يعد منها إلا بقايا الإطار وشيء من الملامح العتيقه....تلك الصور التي سجلت للأحداث الخالدات في حياتي.... وبدأت اسمع ترانيم الروح تحدثني، وجعلت ذاك الشريط يمر من أمام ناظري ليذكرني بما مضى من الأيام والسنين العتيقات حين كان ذاك الحي زقاق ضيق ولكن كانت آفاق الصدور من ساكنيه فسيحة واسعة تتسع لتضم بين جوانحها الدنيا كلها ...، تذكرني بمن رحلوا من سكانه الطيبين..أولئك الذين سكنوا البيوت العتيقة ..المعتقة برائحة الحب ورائحة الأمان والحنان...!

 تذكرني بخيوط الشمس الذهبية ونسمات الحي الندية حين كانت تحمل معها أصوات الأمهات الطيبات، تلك النسوة أللآتي صنعن أمجاد الزمان وكتبن على ألواحه أبجديه خالدة رغم أميتهن، وعزفن على قيثارة الحب أجمل الألحان رغم أنهن لم يتعلمن أبجديات العزف ولا معاني إشاراته ولكنهن عرفن قيمه اللحن فعزفنه بصدق وتذوق فصنعن سيمفونية خالدة على مدى الزمان.

 يمر الشريط مسرعا بصوره وأحداثه فيرسم أمام ناظري صورة الأرض الطيبة حين كانت لا تنبت إلا الخير ولا يفوح منها إلا عطر الياسمين المعتق.. حين كان الندى يداعب سنابل قمحها ويمر من فوق أشجار زيتونها...حين كانت ريح الصبا تعبر فوق واديها فتسرق من اندائه الرائعات شيئا لتلقي به على قيض الصيف فتحيله إلى مجلس للسمار والعاشقين والحالمين بالغد القادم...تجمعهم تحت أضواء القمر فيجالسهم ويجالسونه إلى أن يغلبه النعاس فيغيب خلف ذاك الأفق البعيد متواعدين على آمل جديد..

 تطوف الروح مني سارحة في فضاء الكون لتعود بي إلى ذاك الزمان الطيب والى أولئك الناس الذين غادروا المكان بصمت فلم يبق منهم سوى الذكرى...أولئك الطيبين الذين يحرقنا الشوق إلى ضمه من صدورهم نتنفس فيها الصعداء فنخرج زفرات هذا الزمان القاسي ونخبرهم أن مجلسهم ما عاد كما كان وان القلوب بعدهم ما عادت طيبه وان النفوس خلفهم ما عادت نقيه ... إنها ترانيم الروح ولها بقيه.