بمناسبة المولد النبوي الشريف

محمد صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 سئلت عنه السيدة عائشة ــ رضي الله عنها ــ فقالت " كان خلقه القرآن يرضى برضاه ويسخط بسخطه " .

 ولم تبالغ السيدة عائشة ولم تسرف في القول ؛ لأن القرآن لم يذكر أية قيمة من القيم الأخلاقية إلا وكان لها مكانتها في شخصية الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ في أقواله وأفعاله .

 ووصف ابن أبي هالة رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ بقوله " كان دائم البِـِشْر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مداح .

 ولا عجب في ذلك فقد عصمه الله من مفاتن الجاهلية من صغره ، وكان في شبابه وقبل أن يبعثه الله نبيا ورسولا موضع ثقة المجتمع الجاهلي فهو عندهم "الأمين " ، وهو الصادق الذي لا يعرف الكذب بشهادة أبي سفيان أمام قيصر الروم، ولم يكن أبو سفيان قد أسلم آنذاك .

**********

 لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله يعد المثل الأعلى الذي لا يعرف إلا الحق ، ولا يسلك إلا سبيل الحق . قال تعالى " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ " التوبة (128) .

 وفيه تتمثل " الوسطية " بمفهومها الثابت الراقي الركين . يقول تعالى
"
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ...... " البقرة 143 .

 لذلك كان على المسلم أن يفتح قلبه لحب الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ لأن حبه يعني حب القيم التى دعا إليها . ومن ثم كان على المسلم أن يجعل حب الرسول مقدما على الأهل والولد والنسب والمال . يقول تعالى " قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " التوبة (24)

 **********

 وبتعبير آخر كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير تجسيد "للمثالية الواقعية"، وخير تجسيد للوسطية العادلة. وتأكيدًا لنفي "يوتوبية المثال" وخياليته . وكان تركيز القرآن الكريم على " بشرية " محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك في قوله تعالى : (قل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الكهف: 110 ـ وفصلت : 6) (...قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً) (الإسراء: 93).

 ومن منطلق هذه البشرية .. من منطلق هذه "المثالية الواقعية " كان الأمر بطاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي طاعة تدخل في حدود الإمكان، والطاقة البشرية، فلا تكليف إلا بما جاء في وسع هذه الطاقة كما نرى في الآيات الآتية :

(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران: 132).

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (النساء: 79).

(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر: 7).

 فإذا ما آمنا بأن مثالية الرسول كانت "مثالية واقعية"، وأن طوابعه الأخلاقية تمثل "علوانية أرضية"، فنحن مأمورون بطاعته على مدى العصور، وإلى الأبد بحكم عمومية الرسالة، وخاتمية النبوة . يقول تعالى : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " النساء (65) .

**********

 ولنعش لحظات مع نموذج عملي من تعامل ــ رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ مع شخصيتين مختلفتين ولو في الظاهر . المعروف أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قد دعا إلى المعاملة الطيبة إلى أقصى حد ، حتى إنه جعل من "الكلمة الطيبة صدقة " ، والبشاشة في وجه الناس صدقة ، وكم ألانت الكلمة الطيبة قلوبًا، وكم فتحت للخير نفوسًا، وما زالت الحكمة والموعظة الحسنة أنجع الوسائل، وأقواها، وأبقاها. بل وأيسرها لغرس قيم الخير، والحق في نفوس الناس. وقد يختلط الأمر على كثير من الناس، فيعجزون عن معرفة حدود بعض القيم والمفاهيم، ولا يفرقون بين الشجاعة والتهور. ولا بين المجاملة والنفاق. ولا بين التسامح والتهاون . والتفريق بين هذه المفاهيم لا يحتاج إلى عقلية واعية فحسب بل يحتاج كذلك إلى حاسة إيمانية موصولة بالله ، قوية بالحق .

 وقد روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رجلاً استأذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما رآه قال: "بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة" فلما جلس تطلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجهه ، وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله "حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا" ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه" فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "يا عائشة متى عهدتني فاحشًا؟! إن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره" (رواه البخاري في كتاب الأدب ومسلم في كتاب البر والصدقة والآداب).

 وقبل أن نتحدث عن هذا الموقف النبوي الكريم علينا أن نذكر بموقف آخر للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع مسيلمة الكذاب حين حضر إلى المدينة وقال: لو جعل محمد الأمر لي من بعده تبعته". فأمسك النبي ـ عليه السلام ـ بقطعة من سعف النخل وقال: "يا مسيلمة والله لئن سألتني هذه القطعة من جريد ما أعطيتكها، ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله".

 وقد يتوهم متوهم أن موقف النبي الذي روته عائشة في صورتيه يتعارض مع ما عرف عنه ـ عليه السلام ـ من جرأة في الحق، ووضوح في أقواله وأفعاله، كموقفه مع مسيلمة الكذاب، وقد يتوهم كذلك أن هذه المداراة تعد لونًا من ألوان التنازل عن استعلاء الإيمان:

 ودفعًا لهذا الوهم، أو هذه الشبهة نجد أن الأمر يحتاج إلى شيء من التحليل والتفصيل.

1 ـ ذكر الإمام النووي أن المعنيّ بهذا الحديث هو عيينة بن حصن، وقد كان من الأعراب الجفاة المؤلفة قلوبهم، ومن جفائه أنه دخل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير إذن فقال له: "أين الإذن" فقال: "ما استأذنت على أحد من مضر طيلة حياتي".

وكا ممن ارتد وتبع طليحة الأسدي، وقاتل معه فأخذ أسيرًا، وحمل إلى أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فكان صبيان المدينة يقولون: "يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك؟ فيقول: ما آمنت بالله طرفة عين".

ودخل على عمر مرة فقال له: يا ابن الخطاب: والله ما تقسم بالعدل، ولا تعطي الجزل"، ومع أن عثمان بن عفان كان قد تزوج ابنته، إلا أنه دخل عليه ذات يوم، وأغلظ له القول، وأساء معه الأدب.

وكل أولئك يبين عن طبيعتة الجافية، ونفسه الفظة القاسية الخشنة.

انبساط النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له وطلاقته وبشاشته في وجهه، وإلانة القول له، إنما كان تألفًا له، ولأمثاله على الإسلام، والمعروف أن النبي ـ عليه السلام ـ كان يعطيه من سهم المؤلفة قلوبهم.

عرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحياء والأدب، والبشاشة، والتبسم في وجوه الآخرين حتى الذين يسيئون إليه، قال قيس بن جرير ـ رضي الله عنه ـ "ما حجبني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أسلمت، ولا رآني إلا وتبسم في وجهي". وقصص إحسانه إلى من أساء إليه أكثر من أن تحصى.

فاستقباله لعيينة بهذه الطريقة، إنما هو من باب الأدب، والحياء، وإكرامه لمن قصده. وهذا لا يتعارض مع وصفه للرجل بما وصف. يقول النووي: "ولم يمدحه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه ولا في قفاه، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام".

ولا تعارض بين بشاشة النبي ولينه في القول مع عيينة، وبين تصديه لمسيلمة وشدته في القول معه؛ لأن الأول لم ينل بكلامه من أصل العقيدة، أو النبوة، والقرآن في حياة النبي على الأقل، لذلك كان النبي يأمل دائمًا أن ينتفع الإسلام بهذا الأعرابي الجافي القوي الشجاع الذي وصف في التاريخ بأنه من "الزعماء أو القادة الجرارين" أي القادرين على الاقتحام، والغلبة.

ولو أنه أعطى كل ما عنده للإسلام بإخلاص لانخرط في سلسلة الفاتحين العظام مثل: سعد، وخالد، وعمرو بن العاص، ولكنه وقف بإسلامه عند أولى العتبات، ومات مسلمًا على أية حال.

 أما مسيلمة فجاء إلى المدينة مساومًا. يطلب مقابلاً ضخمًا لإسلامه: أن يجعل محمد له الأمر من بعده.. كأنها هرقلية كلما مات هرقل جاء هرقل. إن المسألة هنا في حاجة إلى حسم قاطع لا يعرف الملاينة؛ لأنها قضية من القضايا العليا ولا ردّ إلا الرفض. الرفض الذي لا رجعة فيه.

 لقد كان النبي أعلم الناس بطبائع الرجال، ومواقفه كلها تتسم بالإنسانية التي لا تعرف التهاون، وبالحسم الذي لا يعرف الظلم. وبالعدل الذي يضع كل إنسان في موقعه المناسب، وقد يحتاج الموقف لينًا لو استبدل به شدة لفسد كل شيء، وقد يحتاج الموقف شدة لو حلّ محلها لين لأضار ذلك بالدين والقيم، واختلاف التصرف باختلاف المواقف والرجال لا يتعارض مع القواعد العامة، والقيم العليا، إذا ما صدر ذلك عن نفس بصيرة موصولة بالله، وهل كان هناك من هو أنقى وأطهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.