الله تعالى يقبل توبة المذنب
فلماذا لا يقبلها العباد؟
د. بدر عبد الحميد هميسه
[email protected]
رحمة الله عز و جل – وسعت كل شيء, من الإنسان إلي الجماد فهو سبحانه الرحمن الرحيم
, وهو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار , ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء
الليل حتى تطلع الشمس من مغربها. قال تعالى : " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) سورة الزمر.
ولكن بعض الناس لا يدركون معاني الرحمة والتسامح والعفو, فهم متجبرون متكبرون,
يأبون في سفليتهم أن يتصفوا بما اتصف الله به – تعالي – في عليائه.
فلو أن إنسانا أغواه الشيطان وارتكب جرماً , ونال عقابه أمام الله ثم الناس
والقانون , فإن الله تعالي يجعل من إقامة الحد عليه كفارة له , ولكن المجتمع لا
يغفر له ولا يسامحه , بل يسدون في وجهه أبواب الخير , ويقولون عنه إنه : " خريج
السجون" .
إن المسلمين الأوائل ما عرفوا هنة الأخلاق الفاسدة لأنهم أيقنوا أن الإسلام يهدم ما
قبله , والتوبة تجب ما قبلها ولقد تعلموا هذا الدرس من النبي –صلي الله عليه وسلم –
فهو الذي قال لقريش :" اذهبوا فأنتم الطلقاء" بعد أن فعلوا به ما فعلوا وهو الذي
لقب خالد بن الوليد بسيف الله المسلول ومنحه القيادة على جيش المسلمين علي الرغم
أنه كان سبباً في هزيمة المسلمين في أحد , ولم يعيره بما فعل .
وحينما جاء كعب بن زهير معتذراً بقصيدته التي مطلعها :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول***
متيم إثرها لم يفد مكبول
وكان النبي – صلي الله عليه وسلم – قد أهدر دمه ,عفا عنه بعد توبته واعتذاره , بل
أكرمه وخلع عليه بردته الشريفة .
عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ:كَانَ مَاعِزُ
بْنُ مَالِكٍ فِي حِجْرِ أَبِي ، فَأَصَابَ جَارِيَةً مِنَ الْحَيِّ ، فَقَالَ لَهُ
أَبِى : ائْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعْتَ ،
لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ
لَهُ مَخْرَجًا ، فَأَتَاهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّى زَنَيْتُ ،
فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللهِ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَعَادَ ، فَقَالَ : يَا
رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي زَنَيْتُ ، فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللهِ ، فَأَعْرَضَ
عَنْهُ ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي
زَنَيْتُ ، فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللهِ ، ثُمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَةَ ، فَقَالَ
: يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي زَنَيْتُ ، فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللهِ ، فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ،
فَبِمَنْ ؟ قَالَ : بِفُلاَنَةَ ، قَالَ : هَلْ ضَاجَعْتَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ،
قَالَ : هَلْ بَاشَرْتَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : هَلْ جَامَعْتَهَا ؟ قَالَ :
نَعَمْ ، قَالَ : فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ ، قَالَ : فَأُخْرِجَ بِهِ إِلَى
الْحَرَّةِ ، فَلَمَّا رُجِمَ ، فَوَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ جَزَِعَ ، فَخَرَجَ
يَشْتَدُّ ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَقَدْ أَعْجَزَ أَصْحَابَهُ ،
فَنَزَعَ لَهُ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ فَرَمَاهُ بِهِ ، فَقَتَلَهُ ، قَالَ : ثُمَّ
أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : هَلاَّ
تَرَكْتُمُوهُ ، لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ.
قَالَ هِشَامٌ : فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ ، عَنْ أَبِيهِ
، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَبِى حِينَ رَآهُ : وَاللهِ يَا
هَزَّالُ ، لَوْ كُنْتَ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ ، كَانَ خَيْرًا مِمَّا صَنَعْتَ
بِهِ. أخرجه أحمد 5/216(22235و"أبو داود"4377 و"النَّسائي" في "الكبرى"7167 .
فانظر إلى نبي الرحمة صلوات ربي وسلامه عليه يقول لهزال " لو كنت سترته بثوبك كان
خيراً مما صنعت " وهو الذي قال : "مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا فِي الدُّنْيَا ، سَتَرَهُ
اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَمَنْ نَجَّى مَكْرُوبًا ،
فَكَّ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كَانَ فِي
حَاجَةِ أَخِيهِ ، كَانَ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فِي حَاجَتِهِ. أخرجه أحمد
4/104(17084).
وعلي هذه الأخلاق سار الصحابة رضوان الله عليه , فها هو الصديق أبو بكر – رضي الله
عنه – يعفو عن الأشعث بن قيس الذي كان من المرتدين , فأسره المسلمون , ولما عاد إلي
حظيرة الإسلام , عفا عنه الخليفة , بل كأفاه علي توبته فزوجه أخته .
ووحشي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم أشركه أبو بكر رضي
الله عنه في حروب الردة ومدعي النبوة حتى كان سبباً في قتل مسيلمة الكذب فكان يفتخر
بعدها ويقول : "قتلت خير الناس بعد رسول الله وقتلت شر الناس ".
قال أحمد بن مهدي جاءتني امرأة ببغداد ليلة من الليالي فذكرت أنها من بنات الناس
وأنها امتحنت بمحنة وقالت لي أسألك بالله أن تسترني فقلت وما محنتك وقالت أكرهت على
نفسي وأنا حبلى وذكرت للناس أنك زوجي أن وما بي من الحمل فمنك فلا تفضحني واسترني
سترك الله فسكت عنها ومضت فلم أشعر حتى وضعت وجاء إمام المحلة في جماعة الجيران
يهنئوني بالولد الميمون النجيب فأظهرت التهلل ووزنت في اليوم التالي دينارين
ودفعتهما إلى الإمام فقلت أبلغ هذا إلى تلك المرأة لتنفقها على المولود فإنه سبق ما
فرق بيني وبينها فكنت أدفع في كل شهر دينارين أوصلهما إليها بيد الإمام وأقول هذا
نفقة المولود إلى أن أتى على ذلك سنتان ثم توفي المولود فجاءني الناس يعزونني فكنت
أظهر لهم التسليم والرضا فجاءتني المرأة بعد ذلك ليلة من الليالي ومعها تلك
الدنانير التي كنت أبعث بها إليها بيد الإمام فردتها وقالت سترك الله كما سترتني
فقلت لها هذه الدنانير كانت صلة مني للمولود وهي لك لأنك ترثينه فاعملي فيها ما
تريدين. أبو نعيم : حلية الأولياء 10/397 , ابن الجوزي : المنتظم 6/225.
لكننا الآن نسد في وجه التائبين جميع الأبواب, ونسينا أن الله تعالي وصف المؤمنين
المتقين فقال: " أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (29) سورة
الفتح.