في ذكرى مولد الرسول الكريم

رسائل المراقب العام

الرسالة الرابعة والثلاثون

صلى الله عليه وسلم

المراقب العام: علي صدر الدين البيانوني

في 7 من ربيع الأول 1431 الموافق 21 من شباط 2010

من المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية، إلى إخوته وأخواته أبناء الجماعة وأنصارها وأصدقائها في كلّ مكان، وإلى أهلنا وإخواننا وأبنائنا، داخلَ الوطن الحبيب وخارجَه.. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأحمدُ إليكم اللهَ الذي أرسل نبيّنا محمّداً صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين.. اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الغرّ الميامين، وأسألُ الله عزّ وجلّ أن يرزقَنا حبّه، وأن يعينَنا على اتباع هديه، والسير على منهجه الصراطِ المستقيم.

أما بعدُ أيها الإخوةُ الأحبةُ والأخوات.. يا أبناءَ شعبنا في سوريةَ الحبيبة..

فإنه تُطلّ علينا في هذا الشهر الأغرّ، ذكرى مولدِ الرسول محمدٍ صلى الله عليه وسلم، مولدِ الهدى والنور، مولدِ الكمالِ البشريّ في أرقى تجلّياته، الذي أرسلَه الله رحمةً للعالمين، وبعثَه في هذه الأمة، لتكونَ به خيرَ أمةٍ أخرِجَتْ للناس، فأدّى الرسالةَ، وبلّغَ الأمانة، ونصحَ الأمة، وجاهدَ في الله حقّ جهاده.. وإنها لمناسبةٌ إيمانيةٌ حبيبة، يستمدّ فيها المسلمُ من معينِ حبّه لرسول الله، غذاءً لروحه وقلبه وعقله؛ مناسبةٌ لا ينبغي أن نقتصرَ فيها على قراءة الموالد والأناشيد، أو ترداد الأحاديث عن  شمائل هذا الحبيب في خَلْقه وخُلُقه وهديه فحسب، فأمتنا – أيها الإخوةُ والأخوات – تتعرّضُ حتى في شخص حبيبها وقائدها ورسولها، إلى هجمةٍ شرسةٍ، تدعونا جميعاً إلى وقفةٍ منهجيّةٍ، للدفاع وردّ الكيد، وللتعريف بمكانة صاحب الخلق العظيم، الذي تكفيه هذه الشهادة من مولاه: (وإنك لعلى خلُقٍ عظيم).

أيها الإخوةُ الأحبةُ والأخوات.. لنجعلْ من ذكرى المولد محطةً للتزوّد بالحبّ لسيدنا رسول الله، ولنذكرْ ونذكّرْ أنّ حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس نافلةً يتجمّلُ بها المحبّون!! بل هو فريضةٌ شرعيةٌ، وعزيمةٌ ماضيةٌ، لا يصحّ إيمانُ قلبٍ إلا أن يكونَ محلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، متقدماً على المال والأهل والولد، وعلى النفس التي بين جَنبَيْنا: (لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين). يقول عمر رضي الله عنه: يا رسولَ الله لأنتَ أحبّ إليّ من كلّ شيء، إلا من نفسي. يقولُ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحبّ إليك من نفسك).. فيجاهدُ عمرُ نفسَه ليجيبَ إجابةَ الصادق المكين: فأنتَ الآن - واللهِ - أحبّ إليّ من نفسي.. فيقولُ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الآنَ يا عمر).. الآن كمُلَ إيمانُ الفاروق. ومن أجل الارتقاء إلى هذه المرتبة، ينبغي أن يجاهدَ كلّ أولئك الذين يريدون أن يدخلوا تحت عنوان (إخوان رسول الله) يومَ أتى المقبرة: فدعا لأهلها ثم قال: (وَدِدْتُ لو أرى إخواني)، قالوا: أولسنا إخوانَك يا رسول الله؟ قال: (أنتمْ أصحابي، إخواني قومٌ يأتون من بعدِكم، يؤمنون بي ولم يرَوْني).

يجب أن يبقى لهذا الحبّ السلطانَ الأولَ على قلوبنا ونفوسنا وعقولنا، ليكونَ حبّنا لرسول الله فوقَ حبّ الزوجِ والولدِ والمالِ والعشيرة، ويكونَ حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فوقَ دواعي النفوس، ومتطلّباتِ الأهواء والشهوات، وبغير هذا المستوى من الحبّ لا يكتملُ إيمان المسلم، ولا يرقى مراقي السلف الصالحين: (لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواهُ تَبَعاً لما جئتُ به). هذا مقامٌ لا يُنالُ إلا بمزيدٍ من العمل بمقتضَياتِ هذا الحبّ ومتطلّباته وتضحياته..

أيها الإخوةُ الأحبةُ والأخوات.. في ذكرى مولد الحبيب، لا يجوزُ أن نغفَلَ عن هذه الهجمةِ الشرسة، والكيدِ الدنيء، لشخص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدينه وملّته وشريعته وأمته.. لا يجوز أن نتجاهلَ هذه الهجمة، أو نديرَ لها ظهورَنا.

وإنها لمناسبةٌ عظيمة، نبثّ فيها هذا النداء، للتصدّي للهجمة الشرسة التي تُشَنّ على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة، وعلى أصحابه الكرام من أخرى. حملةٌ تحتاجُ إلى الجهد الواعي المنظّم، تتحمّلُ أمانتَه طائفةٌ من أولى العلم والاختصاص، تعملُ على محورين: محورِ فضحِ الأكاذيبِ وتفنيدِ الشبهات، ومحورِ التعريفِ بعظَمةِ صاحبِ الخلُقِ العظيمِ بين ظهرانَيْ أمته، كما بين ظهرانَيْ الأمم والشعوب وأتباع الأديان والحضارات. في عصرٍ حلّ فيه جهادُ الكلمة، المرتبةَ المتقدّمةَ في الدفاع عن الإسلام. وإنّ من بعضِ حقّ النُّصرةِ في أعناقنا، لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذا الزمان، أن نبلّغَ عنه البلاغَ الصحيحَ، بالأسلوب الحكيم: (بلّغوا عني ولو آية)، وأن نفتحَ سِفْرَ فضله أمامَ أعين العالمين.

ومهما اختصرنا في هذا المقام الذي لا يحتملُ التفصيل، فلا يجوزُ أن نتجاوزَ التذكيرَ بالموقفِ التربويّ الأساس، الذي تناقلَه سلفُنا الصالح: (أدّبوا أولادَكم على حبّ نبيّكم صلى الله عليه وسلم، وعلى حبّ آل بيته، وصحابته رضيَ الله عنهم أجمعين).

أيها الإخوةُ الأحبةُ والأخوات.. تتعرّضُ أجيالنا لألوانٍ من الثقافة، منها الإيجابيّ، ومنها السلبيّ، ومنها المفيدُ النافعُ، ومنها ما يضرّ أبلغَ الضرر. إنّ جيلَ الألعاب الإلكترونية والشبكة العنكبوتية، يفرضُ على المربّين والمصلحين والدعاة، تحدّياتٍ جديدة.. أن يستحدثوا من الوسائلِ والأساليبِ العصريةِ الملائمة، ما يغمسُ هذه الأجيالَ في بحيرة نورِ حبّ محمد، وآل محمد، وأصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وإنها لمهمةٌ ضروريةٌ، نستذكرُها في ذكرى ميلادِ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونندبُ إليها القادرين بكلّ معاني القدرة: العلمية، والفنية، والمادية. وهو - لا شكّ - بابٌ من أبواب الجهاد، فأيّ جهادٍ أعظمُ من أن نمكّنَ في نفوس أبناء الجيل المسلم، حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحبّ الذي وصلَ إليه سيدنا عمر، عندما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الآنَ يا عمر). وأيّ جهادٍ أعظمُ من أن نُشعِرَ كلّ طفلٍ وفتىً وشابّ، وكلّ طفلةٍ وفتاةٍ وصبية، وكلّ رجلٍ وامرأةٍ، وكلّ أبٍ وأمٍّ، أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أحبّ إليه من أهله وماله وولده والناس أجمعين، وأحبّ إليه من نفسه التي بينَ جنبَيْه. أفُقٌ لمثله ينبغي أن يعملَ العاملون، ويتفرّغَ المتفرّغون. إنّ تعظيمَ حبّ رسول الله في النفوس والقلوب والعقول، وحبّ آل بيته الطيبين الطاهرين، وحبّ صحابته أجمعين، الذين رضيَ الله عنهم ورضُوا عنه.. هو بعضُ واجب الوقت، الذي أصبح أكثر وجوباً أمامَ ما يتعرّض له الإسلامُ والمسلمون.

أيها الإخوةُ الأحبةُ والأخوات.. إنّ حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، له مقتضياتٌ وعلامات، تظهرُ ملامحُها في حياة الفرد وحياة الجماعة على السواء، وأولُ هذه المقتضيات الاتباع.. واتباعُ هذا الحبيبِ الرؤوفِ الرحيم، يقودُ العبدَ إلى سدرةِ المنتهى، ليكون حبيباً لله.. (قلْ إن كنتمْ تحبونَ الله فاتبعوني يحببْكم الله ويغفرْ لكم ذنوبَكم..)

واتباعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو اتباعُ حالٍ، وليس اتباعَ مقال، هو اتباعٌ في المنهج، وفي معالي الأمور، وفي المقاصد التي مثّلَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، في خُلُقِه العظيم (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسِكم، عزيزٌ عليه ما عنتّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم). اتباعٌ في الرأفة والرحمة، اتباعٌ بإعادة تقديم شخصِ الداعيةِ إلى أممِ الأرضِ وشعوبِ البلاغ، لتصحيحِ ما شوّهَه المشوّهون، ولردّ كيدِ الكائدين.

اتباعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، في منهجه، منهجِ التبشيرِ والتيسير: (يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا..) الاتباعُ الذي يجعل المسلمَ يتخذُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسوةً وقدوةً في مقاله، وحاله، وسلوكه، وأخذه، وعطائه.. (لقد كانَ لكم في رسولِ الله أسوةٌ حسنةٌ لمنْ كانَ يرجو الله واليومَ الآخرَ، وذكرَ الله كثيراً).

وإنه لدرسٌ خاصّ للمسلمين الذي يعيشون بين ظهرانَيْ غيرِ المسلمين، لتعريفِ الناسِ برسولِ الله، ليس من خلال الكلمة التي تُقال فحسب، وإنما من خلالِ السلوكِ الذي يميّزُ المسلمَ برأفته، ورحمته، ورقّته، وحرصِه على الآخر. التعريف العمليّ بالخلُق والسمْتِ الذي يجعلُ المسلمَ كما أرادَه رسولُ الله عندما قال لأصحابه: (إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم، حتى تكونوا كأنكم شامةٌ بين الناس، فإنّ الله لا يحبّ الفحشَ ولا التفحّش)..

أيها الإخوةُ الأحبةُ والأخوات.. إنّ من مقتضَياتِ التعبيرِ عن حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شهر الحبّ الذي نعيشُه هذه الأيام، أن نعلمَ أن الدعوةَ إلى الله عزّ وجلّ، هي حالٌ ملازمة، وليست مهنةً يُلبَسُ لها زيّ، ويُستعَدّ لها بدوامٍ ووقت..

المسلمُ الداعيةُ المحبّ لرسول الله، المتأسّي به، هو ذلكَ المسلمُ الذي يكونُ صورةً مشرقةً للداعية بين أهله في بيته، وبين أرحامه وقومه وعشيرته، ومع أهل حيّه ومسجده، وشركائه في مكانِ عمله، وجيرانه، والملاصقين له في كلّ أمره. أن يكونَ لسانُ حالِه يقول: أنا مسلمٌ، وتلميذٌ في مدرسة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. أوَليسَ هذا السلوك هو الذي نشرَ الإسلامَ في كثيرٍ من بِقاعِ الأرض؟؟  سلوكُ تاجر، أومعاملةٌ حسنةٌ من متعامل..

إنّ من مقتضيات التعبير عن حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يكونَ كلّ واحدٍ منا مشروعَ داعية، لا يتوقّفُ عن الدعوة في حاله أو في مقاله، في قعوده أو في قيامه، وأن يعتقدَ أن الناس جميعاً هم موضعُ دعوته. تهدي ضالاً، وتعلّمُ جاهلاً، وترشدُ مسترشداً وترتقي بسالك، تضيفُ إلى دعوة الإسلام في كلّ أمرك رصيداً جديدا..

أيها الإخوةُ الأحبةُ والأخوات.. لنجعلْ من ذكرى مولدِ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم، محطةً لتغذيةِ القلوبِ والنفوسِ والعقول، بمعينِ حبّه صلى الله عليه وسلم، ولنتذكّرْ - ونحن نتوقفُ عندَ هذه المحطة - ماذا أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، وقد عُرِضَتْ عليه.. وماذا أعطى للإنسانيةِ جمعاء.. وفي هذا بلاغٌ وأيّ بلاغ..

اللهم صل على محمدٍ وعلى آلِ محمد، اللهم اجزِ سيدَنا محمداً خيرَ ما جزيتَ رسولاً عن أمته، ونبياً عن قومه.. اللهم إنا نشهدُ أنه قد بلّغَ الرسالةَ، وأدّى الأمانةَ، ونصحَ للأمة.. اللهم آتهِ الوسيلةَ والفضيلة، وابعثْهُ مقاماً محموداً الذي وعدته، برحمتك يا أرحمَ الراحمين..

وإلى رسالةٍ قادمةٍ - بإذن الله - أستودعُكم الله، وكلّ عامٍ وأنتم بخير.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لندن في 7 من ربيع الأول 1431 الموافق 21 من شباط 2010     

أخوكم: أبو أنس