في ذكرى غزوة بدر

أني مَعَكُم

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

كانت معركة بدر صباح يوم الجمعة ـ السابع عشر من رمضان من العام الثاني للهجرة، ويمثل انتصار المسلمين في هذه المعركة نقطة مضيئة ـ لا في حياة المسلمين فحسب ـ ولكن في حياة البشرية جمعاء؛ لأنها لم تكن مجرد انتصار جيش على جيش، بل انتصار قيم إنسانية عليا على أخلاقيات منحدرة، وطوابع نفسية وعقلية متعفنة موكوسة مهترئة.

وكثيرة هي الأسباب التي أدت إلى انتصار المسلمين في هذه المعركة، منها: حسب تدريب المسلمين، فقد بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمئات منهم وخصوصًا المهاجرين في عدد من السرايا فكان تدريبهم ميدانيًا عمليًا مثمرًا وكان ذلك قبل بدر، ومنها القيادة الحكيمة وهي قيادة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان يستشير أصحابه وجنوده مع أنه نبي يوحى إليه حتى إنه ألغى قرارًا له وأخذ برأي أحد جنوده وهو الحباب بن المنذر ثم إن الحب الصادق العميق كان هو الآصرة القوية التي تربط بين هذه القيادة الرشيدة الهادية والجنود المقاتلين في سبيل الله.

وفي مقابل ذلك كان قائد جيش الكفار ـ وهو أبو جهل ـ يتسم بالطيش والحماقة والاستبداد بالرأي فرفض ـ في عنجهية ـ وكبر رأي علية قومه بالرجوع إلى مكة وحقن الدماء.

وأهم عوامل النصر عقيدة الإيمان الراسخ في قلوب المسلمين وحرصهم على الفداء والشهادة.

وفي السطور التالية:

أفصل الكلام ـ بعض الشيء عن عامل غيبي نص عليه القرآن وأعني به نزول الملائكة واشتراكهم في القتال، قال ابن هشام في السيرة النبوية: "ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددًا ومددًا، لايضربون".

أي أن مهمتهم في غير بدر من معارك المسلمين كانت مهمة نفسية روحية تكاد تنحصر في الشحن المعنوي والروحي.

وقد جاء في الأثر الصحيح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذه نعاس خفيف، قبيل المعركة وهو في العريشة أي غرفة القيادة بالتعبير الحديث، ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله! هذا جبريل آخذّ بعنان فرس يقوده على ثنايها النقع "أي على طوايا ملابسه غبار الحرب".

وفي سورة الأنفال "الآية 9" يقول تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ).

ويقول تعالى في الآية 12 (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ).

ولنا من هاتين الآيتين استخلاصات تتلخص فيما يأتي:

1 ـ أن الله سبحانه وتعالى لم يمد المسلمين بالملائكة إلا بعد أن استغاثوه ودعوه أن ينصرهم، ونأخذ من ذلك أن على المسلم أن يتجه إلى ربه دائمًا بالدعاء وخصوصًا أوقات الكربات والأزمات وهو القائل (ادعوني استجب لكم).

2 ـ إن اشتراك الملائكة في القتال لا يلغي دور المسلمين فيه فهم أصحاب الدور الرئيسي فيه، بدليل التعبير عنهم بأنهم "مدد" للتثبيت، ثم المساعدة في القتال الفعلي وبدليل توجيه الأوامر بعد ذلك للمسلمين مثل (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ).

3 ـ إن مصدر قوة الملائكة وقدرتهم الخارجة لا يرجع إلى تفردية ذاتية ولكن يرجع إلى قدرة الله وتأييده، أي يرجع إلى قاعدة "أني معكم" فالإيحاء للملائكة بذلك يمنحهم القوة الخارقة لتثبيت الذين آمنوا ثم يكون إلقاء الرعب في قلوب الكفار عملاً إلهيًا يسهل مهمة الملائكة في الضرب فوق الأعناق وضرب كل بنان.

ومن ذلك نتعلم أن من أدب الإسلام أن نسند الأمور في أصولها إلى الله سبحانه وتعالى، فالخلق جميعًا سواء أكانوا ملائكة أم بشرًا ما هم إلا وسائل، نعم وسائل تعدم قدرتها، وتفقد إمكاناتها، إذا تخلت عنها القاعدة التي أشرنا إليها، قاعدة "إني معكم" وم أصدق قوله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى). (الأنفال: 17)