أحزان الروح
زهير سالم*
[email protected]
روى أنس بن مالك في يوم وفاة الرسول، صلى الله عليه
وسلم، أن المسلمين وبينما هم في صلاة الفجر وراء الصديق أبي بكر، يوم الاثنين
الثاني عشر من ربيع الأول؛ لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكشف ستر
حجرة عائشة (رضي الله عن عائشة وعن أبيها)، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة وراء
الصديق، ثم تبسم يضحك...
ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله
يريد أن يخرج إلى الصلاة، يقول أنس وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحا
برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم رسول الله بيده: أن أتموا صلاتكم. ثم
دخل الحجرة، وأرخى الستر، ثم لم يأت على رسول الله بعدُ وقت صلاة..
ثم دخل الحجرة، وأرخى الستر، ثم لم يأت على رسول
الله بعدُ وقت صلاة، فقد سمعته عائشة رضي الله عنها وقد تغشاه من أمر الله ما تغشاه
يقول: اللهم الرفيق الأعلى..
أما قول الراوي: ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.. فهو
معبر بظاهره عن حقيقته. فقد كان إسدال الستر ذاك هو الإشارة على طي سنوات الأداء
والبلاغ والقيام على أمر الناس بالحق ودون ادعاء، يقول لهم بلسانه النبوي البشري:
إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو
ما سمعت، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فقد قضيت له قطعة من نار...
دخل الحجرة وأرخى الستر، بعد أن أطلق بسمة الرضى على
الصفوف التي ترك تتراص بعده خلف أبي بكر. لن تستطيع يوما وإن حاولت أن تواجه
بالتعبير أو التفسير دلالات بسمة الرضى تلك وآفاقها، أو حركة إسدال الستارة عن عالم
الأداء والبلاغ، أو قول الراوي ثم لم يأت على رسول الله بعدُ وقت صلاة. دائما ستشدك
الجملة الأخيرة إلى صلاتك التي لن يكون بعدها وقت صلاة. أما أي بسمة ستبتسم إذا
(بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) فذاك هو الأمر الذي ينبغي أن يستحضر
الهم والحزن لتقول اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل..
وأعود إلى الحجرة والصف والبسمة والستر؛ وأقول وماذا
لو رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم طرف الستر علينا؟! ونحن الكثير الغثاء، غثاء
السيل ، تتداعى علينا الأمم، وهو صلى الله وسلم عليه كان قد وصف وحذر، فقال:
وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا وما الوهن يا رسول الله، قال: حب الدنيا وكراهية
الموت..
وماذا لو رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر
الحجرة، حجرة عائشة علينا فرأى دماء بعضنا تسيل على أيدي بعض، يقتل بعضنا بعضا؟!
ويُخرَج بعضنا من ديارهم؟! ، ماذا لو أطل رسول الله علينا فرأى فينا رجالا بأيديهم
مثل أذناب البقر يضربون ظهور الناس لا يتحاشون مؤمنا ولا يفون لذي عهد عهده..؟! أ
ماذا لو أطل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته فرآهم في هرجهم يتواثبون، لم
تعد الأمم تتداعى علينا فقط، بل أصبح بعض المنتسبين إلى أمته يستدعيها إن غابت،
ويستعجلها إن أبطأت، ويستنفرها إن اثَّاقلت!!
ماذا لو رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الستر
اليوم فسمع أناشيد يوم بعاث على لسان سويلم اليهودي يحرض بعض أبناء الأمة بعضهم على
بعض...؟!
أو سمع أناشيد التكفير والتفسيق واللعن والنبذ
والتنابذ بما يسوء؟! ماذا لو سمع أبناء أمته يلعن بعضهم بعضا، ويحقّر بعضهم بعضا،
ويكيد بعضهم لبعض؟
ماذا لو وجد أمته في ردة ولا أبا بكر لها، أو تابع
أمته تذوب في دروب الشيطان ولا أبا حفص يحجزها، أو عاينها في عسرة يوم العسرة فقرا
وجوعا ومرضا وجهلا ولا منيرا مثل ذي النورين يجود عليها. ماذا لو رفع الستر فوجد
خيبر تحاصرنا ولا نحاصرها، فنادى أين رجل يحب الله ورسوله يأخذ الراية غدا؟ أين
حيدرة؟ فلم يكن فينا من يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة... أكيل للأعداء كيل
السندرة
ماذا لو رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر حجرة
عائشة رضي الله عن عائشة فوجدنا حطام أمة.. حطام أمة، ثم نظرت حولك فوجدت نفسك، رغم
أنفك، بعض هذا الحطام؟!
تحاول أن تستحضر بسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم
في وقت صلاته الأخير، قبل أن يسدل الستر الأخير، فتأبى عليك الابتسامة، ويتملكك
إحساس خانق بالفجيعة، وتتفرى روحك بين جنبيك، كل الزوابع والدوامات تطوف بشجرة
الإسلام جذرها وجذعها وفروعها؛ والمسلمون في غفلاتهم ساهون. ليس فيهم من إذا كان في
المقدمة كان في المقدمة، وإذا كان في الساقة كان في الساقة، كلما سمع هيعة طار
إليها، وما أكثر، فيهم، من جُل همه أن يبث الأذى ويتتبع العورة.. ومن تتبع عورة
أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله. وكل من قصّر عزمه
عن رمي عدو الإسلام تباهى برمي أخيه، سهمه الكليل في ظهر مسلم أو في جنبه، ولا
يستحيي من الله ولا من رسول الله..قالوا ( وإنا لنستحيي من الله يا رسول الله
والحمد لله!! قال الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما
حوى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا..)
تحس بالروح متعبة وتغلق عليك أحزانها الآفاق
والأقطار.. وتستغيث بكلمات الله لتجبر كسر قلبك فتسمع الرسول صلى الله عليه وسلم
فيه يقول: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا
الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) في أي زمان وفي أي مكان كان القول هذا؟ وكان الهجر هذا؟
تعود إلى القرآن الكريم فيمسح عنك الهم والحزن،
ويدفع عنك العجز والكسل، تجيبك كلمات الله (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ
إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
(*) مدير مركز
الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية