وفي العناية المركزة يتدفق الإيمان واليقين
وفي العناية المركزة يتدفق الإيمان واليقين
أ.د/
جابر قميحةبقاء الحال من المحال.
ويقول الشاعر القديم:
ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
وكم تمثل صاحبنا بهذين الشاهدين، وما دار في فلكهما وهو يسدد كلماته في مقالته الموجهة إلى الحزب الوطني، وقادته الذين يدَّعون أنه حزب الأغلبية، وأن الشعب لن يرضى به بديلاً فهو حزب الحاضر والمستقبل.
ويؤمن صاحبنا بهذه الحكم إيمانًا يقينيًّا؛ لأنها تمثل قاعدة أزلية تشمل كل جوانب الحياة، فالتغير من طبيعة الموجودات الحية والجامدة، وتجذر هذا الإيمان في أعماق صاحبي، وهو الآن في الهزيع الأخير من العمر ـ يتذكر الأزمة الصحية التي فاجأته من ثلاثة أشهر، وأوقعته في غيبوبة لمدة أربع ساعات، وقالوا إنها: "غيبوبة كبدية" ونقل على الفور إلى العناية المركزة بمستشفى خاص مشهور في القاهرة، ومرت الأزمة بسلام بعد علاج طبي مركز.
ولا ينسى صاحبنا، مساء السبت الرابع من أغسطس الماضي، وهو يهم بالنوم في أيام اشتدت حرارتها. أحس صاحبنا كأنما قد نزع ووضع في "ثلاجة" شديدة البرودة وغيبوبة قصيرة، ليرى وجوهًا غريبة تحمله في سيارة الإسعاف إلى مستشفى مشهور آخر تحت العناية المركزة.
ويفيق صاحبنا وقد ثقلت عيناه، وينظر إلى المصابيح في الغرفة فلا يراها إلا كنقاط صغيرة من الضوء علقت بسماء سوداء.
وينظر إلى الشارع من النافذة الزجاجية، فلم يميز مصباحًا واحدًا، وتحول الشارع في نظره الغائم إلى أفق ممتد، ومغطى بشبكات من الضوء المريض الشاحب، ويرتد بصره إلى حجرته فلا يرى إلا مرتديات الأبيض والأزرق.
ويكتشف صاحبنا أنه مشبوك بعدد كبير من الأسلاك المغروسة في بدنه، والممتدة إلى عدد من الأجهزة خلفه على يمينه، ويساره، قال لطبيبه الذي فحصه في الصباح التالي: ألا يكفي القيود التي أدمت حياتنا، وكرامتنا، فجئتم تضيفون إلى القيود قيودًا؟
ابتسم الطبيب، وقال: شتان ما قيود وقيود، فالأولى قيود سياسية ظالمة غاشمة، والثانية قيود علمية نافعة بإذن الله.
وتغمر الطمأنينة نفس صاحبنا وأخذ يردد بينه وبين نفسه "الخيرة فيما اختاره الله" فلا أملك إلا الصبر عن إيمان ويقين، وصدق الإمام علي إذ قال: "... فإنك إن لم تَسْلُ احتسابًا سلوت سلوّا البهائم".
وما أعظم قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10).
***
يقول صاحبي الراقد تحت العناية المركزة: وفي اليوم التالي (الخامس من أغسطس) كانت أول زيارة من الأهل والإخوان، وبادرتني زوجتي داعية: ربنا يطول عمرك، ربنا يطول عمرك، ودعا لي أحد الزائرين "ربنا يعطيك العمر الطويل".
وقفز إلى ذهني صورة "خالد بن عرفطة العذري" الذي أرسله سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين في الجبهة الفارسية إلى المدينة ليبشر الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ بالنصر. فيبادره عمر سائلاً عما وراءه، قال خالد: يا أمير المؤمنين، تركت من ورائي يسألون الله أن يزيد في عمرك من أعمارهم...".
يقول صاحبي: فالدعوة بالعمر الطويل، أو إطالة العمر قديمة، وإن أصبحت عبارة دارجة على ألسنة الناس، مع صعوبة الحياة، وغزارة المشكلات وتشابكها، والناس يقيسون الأعمار بالأرقام فكمّ العمر يحسب من ساعة الميلاد إلى الموت.
ويبتسم صاحبنا وهو يستعيد عبارة كتبها في سياقة مقال نصها: "إننا لو حذفنا من عمر الإنسان السنوات الهالكة.. العابثة الفارغة لما بقي من عمره الكمي إلا القليل. فالأعمار يجب أن تقاس بمعيار كيفي موضوعي وتحسب بقدر ما عمرت به من أعمال. وما أعظم قول عالم حكيم: إننا يجب أن نزيد السنين حياة، لا أن نزيد الحياة سنين".
***
وفي هدأة المساء وصاحبنا على سرير العناية المركزة موصولاً بالأسلاك العلمية، يدور في نفسه حوار داخلي "مونولوج": لماذا يحرص الناس على الحياة، ويهابون الموت؟
ـ لأن حب البقاء غريزة من أقوى الغرائز التي ركزها الله في نفوس الأحياء كالغريزة الجنسية، وغريزة حب التملك، وغريزة حب القتال. وقد عدها علماء النفس ست عشرة غريزة.
على أن غريزة حب البقاء، وكراهية الموت ترتبط ارتباطًا عكسيًا بقوة الإيمان، والاعتزاز بالقيم الإسلامية، والإنسانية.
وصدق الصادق المصدوق ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ قال: "...ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليلقين الله في قلوبكم الوهن، قيل وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
ولا ينسى صاحبنا كلمة أبي بكر إلى خالد بن الوليد رضي الله عنهما: "يا خالد احرص على الموت توهب لك الحياة" ويصدح في أذنيه قول الشاعر:
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم و جهنم بالعز أحسن منزلِ
وقد كان ـ وما زال ـ من مفردات شعار الإخوان "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
ـ ولكننا نحن المسلمين منهيون عن تمني الموت، بل تمني لقاء العدو، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، فإن الجنة تحت ظلال السيوف" (رواه البخاري وآخرون).
وعلى سبيل الاستطراد أذكرك بكلمة الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ "لا تَدْعُ إلى المبارزة، فإذا دعيت فأجب تنصر؛ لأن الداعي باغ".
وكذلك قول عمر رضي الله عنه: "لتمنيت أن يكون بيننا وبين الفرس، والروم جبل من نار، فلا يصلون إلينا، ولا نصل إليهم".
ـ نعم هذا صحيح.. ولكن المقصود الموت يأسًا، وتخلصًا من شدائد الحياة ومحنها، وما عليك إلا أن تذكر ما جاء في الأثر الكريم "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه".
ولا يجتمع يأس وإيمان في قلب واحد، وقد قال تعالى: (...وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).
فالمسلم عليه أن يقابل كل الشدائد بعزيمة قوية، ونفس متدفقة بالأمل، والرضى، والثقة بالله. ولكننا نرى الناس في وقتنا الحاضر يحولون طاقتهم إلى "سب الدينا، والزمن، والحظ العاثر، فصدق عليهم قول المتنبي:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
وهذا ما نهى عنه الله ـ سبحانه وتعالى ـ في حديثه القدسي: "يؤذيني ابن آدم، يقول: يا خيبة الدهر. فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر (أي خالقه بما فيه من وقائع وأحداث) أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قيضتهما" (رواه مسلم والإمام أحمد).
ويشعر صاحبنا في نهاية حواره الداخلي، ـ وهو مدد على سرير "العناية المركزة" ـ براحة نفسية عميقة، وهو يسلم أمره لله تسليمًا مطلقًا. ويرى وجه أبي بكر الصديق في الساعات الأخيرة من حياته.. وبعض أصحابه يسأله:
ـ هلا استشرت طبيبًا؟!!
ـ لقد استشرت أعظم طبيب فقال: "إني فعال لما أريد".
وحتمية الموت هي صوت القدرة الربانية الحاسمة بلا شبيه، أو نظير فهو المحيي، وهو المميت، وإيمان المؤمن بهذه القدرة الأزلية هو اعتراف صريح بواقعه، ووجوده، ودافعًا لأن يملأ رقعة عمره بالعمل الصادق قاصدًا به وجه الله سبحانه وتعالى.
والواقع المشهود للمؤمن والكافر على سواء تطرحه الكلمات الربانية:
ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 185).
ـ (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (النساء: 78).
ويزداد صاحبنا إيمانًا ويقينًا وهو يسمع صوت إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ متحدثًا عن رب العالمين: (... الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (سورة الشعراء: 78ـ 82).
وقد كان الشاعر العربي واقعيًا مع نفسه إذ قال:
أيَّ يوميّ من الموت أفر يوم لا يُقْدَرُ أم يوم قُدِرْ ؟
يوم لا يُقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجي الحذرْ
***
ويشعر صاحبنا أن حواره مع نفسه طال... وكثر فيه (الاستطراد) ويبتسم ويقول: إنه استطراد حميد،وهو لم يخرج عن دوائر الإيمان واليقين، وتتسع ابتسامته وهو يقول: إن الاستطراد نوع من التنقل والحركة المعنوية، وربما جاء كرد فعل غير مقصود على ما كبل به من أسلاك وأجهزة.
***
وتمضي أيام صاحبنا ويزداد إيمانًا برابطة الأخوة والمحبة، وهو يرى حوله كل يوم عشرات من الإخوة، وكثير منهم من خارج القاهرة. وتاتيه المكالمات الهاتفية بالعشرات من محافظات مصر والبلاد العربية .
ويزداد إيمان صاحبنا بهذه الرابطة الوثيقة التي جمع الله عليها المؤمنين، وهو القائل: (...وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 63).
ويغادر صاحبنا غرفة "العناية المركزة" والمستشفى بعد أسبوعين من دخوله ليكمل علاجه الطبيعي ببيته، وقد عاد وفي جعبته رصيدٌ كبيرٌ من الإيمان واليقين والثقة بالله، وحب الإخوة، والحرص على التسليم المطلق لله. وما أعظمه من رصيد .
فاللهم وثق رابطتنا , وأدم ودنا , واهدنا سبلنا ,واملأنا بنورك الي لا يخبو ,واشرح صدورنا بفيض الإيمان بك ,وجميل التوكل عليك.