الانفتاح الإيجابي
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
يقول ابن القيــم رحمه الله :(البصير الصادق من يضرب في كل غنيمة بسهم، ويعاشر كل طائفة على أحسن مامعها)(1).
من لايعرف الإمام ابن القيم ، ويقرأ العبارة بسطحية ، يقول أن الرجل يدعو إلى النفاق والانتهازية ، ولكن من يدقق النظر ويقرأ العبارة بتمعّن وتركيز يدرك أنّه رحمه الله قد أبدع قاعدة من ذهب في العمل الدعوي والتربوي والسياسي يحدد فيها ركني الانفتاح الإيجابي والتموقع الفعال، في مرحلة نحن في أمس الحاجة إلى إدراك مثل هذه القاعدة وتجسيدها ميدانيا في أرض الواقع.
ـــ الركن الأول :الضرب في كل غنيمة بسهم:
بمعنى استثمار كل الفرص المتاحة على كل المستويات ، والاستفادة منها لصالح الدعوة والحركة ، وعدم ترك الفرصة للآخرين كي ينفردوا ويحتكرونها ، فإن كان للحياة صانعون ، فلابد أن نكون من صنّاعها بل في مقدمة صناعها، ولانبقى على هامش التأثير، نستلذ الحياة في الأبراج العاجية، ونستحسن الانكفاء على الذات ، ونمارس العزلة السلبية بكل أنواعها الشعورية والجسدية والفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية ، ونحن ندرك يقينا أفضلية المخالطة بميزان الله ورسوله ، كما ورد في الحديث :(المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لايخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) (رواه الترمذي) ، رغم أن المخالطة قد تعرض صاحبها للأذى أي أن لها ثمن وضريبة لابد أن يدفعها المخالط لكنها تبقى هي الأفضل بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم من العزلة والإنسحابية والانغلاق والتمتع بوضعية غير المهتم أو المتفرج.
كذلك فإنه لا يجوز شرعا ولا عقلا أن نحتكر الخير والمعروف ، ولاحتى الحق والصواب ، لأنه في شرعنا :( لايحتكر إلا خاطئ ) (رواه مسلم ) ، فالاحتكار بمفهومه الشامل والواسع مرفوض، لقد كان الإمام حسن البنا رحمه الله يقول :(أرأيت إن كنت تحمل قارورة عطر مغلقة ، هل يستمتع من حولك بطيب ريحها، كذلك الفرد في مجتمعه لايكتفى منه بتقواه وصلاحه ومجموعة الفضائل القاصرة على نفسه ، بل لابد وأن تنفتح على المجتمع ليجد منها الريح الطيب والخلق الطيب والعمل الطيب )، (وقولوا للناس حسنا) (البقرة83)(2).
أيضا فإن طبيعة الدعوة و الحركة كما عبر عنها المؤسس هي :( روح يسري في هذه الأمة ..) ، فكيف يمكن لهذه الروح أن تسر في أمتها ومجتمعها إذا لم تمارس الانفتاح الإيجابي بكل صوره وأشكاله.
ـــ الركن الثاني: معاشرة كل طائفة على أحسن مامعها
وهذا ركن مهم من أركان الانفتاح ، وذلك بأن نمارس المخالطة على أكثر من صعيد، ونوسع دوائر علاقاتنا قدر مانستطيع ، ونعاشر كل الطوائف والفئات والأصناف ، مهما تعدّدت وتنوّعت واختلفت توجهاتها واهتماماتها ، على أحسن مامعها ، أي أن نبني معهم جسورا للتعايش والتفاهم والحوار والتنسيق والتعاون على مامعهم من خير ومعروف وحق وصواب ، مستغلين القواسم المشتركة التي تجمعنا بهم وإن قلّت وضاقت مساحتها لديهم، ونثمن الإيجابي الذي عندهم وننمي جانب الخير في نفوسهم وممارساتهم مهما صغر ، ونضيق دوائر الشر والسوء عندهم مهما كثرت وتعاظمت ، كما يؤكد ذلك سيد رحمه الله :( لن يعدم إنسان ناحية خيرة أو مزية حسنة تؤهله لكلمة طيبة ، ولكننا لانطلع عليها ولا نراها حتى تنمو في نفوسنا بذرة الحب)(3).
لأن الإنسان لايكون خيرا كلّه ولاشرا كلّه ، بل يكون جامعا بين هذا وذاك بنسب متفاوتة ، فيجب أن يتم التعامل معه وفق هذه النسبية ، ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه القضية بجلاء ووضوح حين يقول :(إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر ، بر وفجور ، طاعة ومعصية، سنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر مافيه من الخير ، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب مافيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد، موجبات الإكرام والإهانة)(4).
وكل هذا لايكون في الحقيقة إلا إذا صاحبه زاد تربوي وروحي وفكري كبير يكسب صاحبه مناعة وحصانة قوية تمنعه من التسيب وتحفظه من الذوبان والتأثر السلبي ، وحتى لاينقلب السحر على الساحر ، فإن توفّر هذا الزاد وهذه المناعة ، مارس الانفتاح وتموقع وتوغل في مسالك التأثير والاستيعاب والتوظيف ، وأنت على يقين أن :(المصباح في الموضع النجس لايبعث النور نجسا)، كما قال الرافعي رحمه الله(5).
1 ـــ مدارج السالكين ، ابن القيم ج2 ص 39.
2 ـــ حسن البنا الملهم الموهوب ، عمر التلمساني ص.190
3 ـــ أفراح الروح، سيد قطب ص.11
4 ـــ رسائل العين التقويم الدعوي ، عبد الله يوسف الحسن ص. 54
5 ـــ من وحي القلم ، للرافعي ج3 ص 126.