محاسبة النفس
رضوان سلمان حمدان
لا تخلو أفعالُ الإنسان من خطأ، فكل ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطآئين التوابون، والعبد مطالب أن يحاسب نفسه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ الحشر: من الآية 18، فأمر سبحانه العبدَ أنْ ينظر ما قدَّمَ لِغد، وذلك لا يتحقق إلا بمحاسبة نفسه على ذلك، والنظر في جلِّ أعماله وأقواله، صغيرها وكبيرها، متسائلاً: هل تصلُح أعمالي هذه للقاء الله أو لا تصلح؟!
قال تعالى:
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ* فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ الزلزلة 6- 8 وقال:
﴿وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ الأنبياء: 47.
وقال الله تعالى:
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ آل عمران: من الآية 30.
وقال:
﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ولاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ الكهف 49.
لذا فإنه مما يجب أن ننتبَّه له أن نداوم على محاسبة النفس في الدنيا قبل أن نحاسب في الآخرة، ففي ذلك خير كثير، من تصحيح للمسار، وردٍّ للحقوق، واستعداد ليوم الفزع الأكبر، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ومحاسبة النفس في الدنيا تحقِّق للعبد صدْقَ مراقبته لنفسه وكبْح جماح الشهوات، وتبعث النفس على الاطمئنان، وتوطِّد علاقة العبد بخالقه، فيحسن الظن بالله ويكتسب العبد بها فضائل جمَّة، كالرجوع عن الخطأ، وانتفاء مثالب الكبر والتكبر، واكتساب فضائل التواضع، فَمَنْ حاسب نفسَه في الدُّنيا خفَّ حسابُه في الآخرة وحَسُنَ منقلبُه.
قال الحسن:
"لا تَلْقى المؤمِنَ إلاَّ يُحَاسِبُ نفسَهُ : ماذا أرَدْتِ تَعملينَ؟ وماذا أرَدْتِ تَأْكُلينَ؟ وماذا أرَدْتِ تَشْربِينَ؟ والفاجِرُ يَمْضي قُدُمًا قُدُمًا لا يُحاسِبُ نفْسَهُ"، وقالَ الحسنُ: "إنَّ العبدَ لا يزالُ بخيرٍ مَا كانَ لهُ واعِظٌ مِن نفسِهِ، وكانتِ المحاسبةُ مِن همَّتِهِ"، وقالَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسِبُوا أنْفُسَكُم قبلَ أنْ تُحَاسَبُوا، وزِنُوا أنْفُسَكُم قبلَ أَنْ تُوزَنوا؛ فإِنَّهُ أهونُ عليكُم في الحسابِ غدًا أنْ تُحاسِبوا أنْفُسَكُمُ اليومَ، وتزَيَّنُوا للعَرْضِ الأكْبَرِ".
على العبد أن يجلس مع نفسه جِلسةَ صدقٍ، ويتحدث مع ذاته حديثَ صدْقٍ، فيضع يده على مواطن الزلل وأعمال الخلل التي اقترفها أو فكَّر في إتيانها، فيبحث عن العِلَّة من ذلك، فيعالج الأخطاء، ويعود إلى الصواب، فإن كان في أعماله مما فيه ظلمٌ لبشرٍ فليُسارِع في التوبة والاستغفار، ولا تتم التوبة إلا بإرجاع الحقوق كاملةً إلى أصحابها، وأما إذا كان الزلل والخطأ مما بين العبد وربه تاب من ذلك واستغفر وعمل صالحًا ليجبَّ ما فعل من زلل:
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ طه 82.
ينظر العبد لنفسه، يحدثها وتحدثه، يسألها وتجيبه: هل قصرت في جنب الله؟ هل أدَّيت ما فرضه الله تعالى عليَّ؟ وهل انتهيت عما نهى الله عنه؟ ماذا فعلت من معاصٍ؟ وفِيمَ قصَّرت من واجبات؟ في لحظات الصدق هذه يُعيد بناءَ وتجديد علاقته بالله، مستغفرًا مما سقط فيه، تائبًا منيبًا إلى خالقه، عازمًا على ألا يعود.
ينظر إلى أعماله وأفعاله هل كانت بنية خالصة لله أم كان يشوبُها مصلحة أو منفعة أو غرض ما؟ فما كان لله ذهب لله وثقلت به موازين الخير، وما كان لغير الله ذهب لغيره.
هل حقَّقت عبوديتي لله؟ هل أنا عبد لله أم عبد للدرهم والدينار واليورو والريال والدولار؟ هل حقَّقت في واقعي القولي والفعلي العملي مفهوم ومضمون قوله تعالى"
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ﴾ الذاريات: 56.
ثم أسأل نفسي: يا نفسُ هل بالفعل قبل القول حقَّقتِ:
﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ* لا شَرِيْكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِيْنَ﴾ الأنعام: 162- 163؟ هل فعلاً كل صلاتي كانت لله؟ وكل نسكي كانت لله؟ أم للشهرة؟ وكل كرمي وجودي- إن كنت كذلك- كان لله أم كان رياءً وسمعةً؟ يا نفس، أنا أقول إنني مسلم فهل حقَّقت مفهوم الإسلام، الذي هو انقياد واستسلام لأوامر خالق الكون؟!
العبد لا يحتاج أكثر من لحظات صدق مع نفسه، يحاسبها على أفعالها، فينظر إلى ماله: من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ مستحضرًا قوله تعالى:
﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ﴾ التكاثر 8.
وبميزان الشرع وميزان القلب المخلص لله تعالى، يمكن له أن يميِّز بين ما هو صواب وما هو زلل، بالصدق مع الله، ثم الصدق مع النفس، فيغالب وساوس الشيطان، التي تحسِّن له القبيح وتزيِّن له المبرِّرات والحُجَج والعِلَل، وينظر إلى زملاء العمل: ما هي علاقته بهم؟ هل هي علاقة سويَّة، تخضع لضوابط الشرع أو أن بها خللاً؟ هل خاصم أحدهم؟ ولماذا؟ هل ظلم أحدهم؟ هل تكلم في أحدهم بغيبة؟ هل؟؟ هل؟؟ ثم بميزان الشرع يُصلح ما فسد، ويُصلح ما انكسر، ويوطِّد ما يحتاج إلى توطيد.
هل قصَّرت في حق والدي أو أمي؟ هل طلبا مني مطلبًا فلم ألبِّه لهما؟ هل أتصل بأخي وأختي؟ هل نتزاور؟ كيف السبيل إلى توطيد صلتي بأهلي؟ لقد قصرت في شيء، لا بد أن أصلح ما فسد مع بعض أهلي.
كلها تساؤلات تتم في لحظات صدق بين الإنسان ونفسه، قد تراودني نفسي، ويزيِّن لي شيطاني أنني على صواب وبعض أهلي على خطأ، فأقول لها- أي لنفسي-: كلا، سوف أرتقي بنفسي، وأسمو بخلقي، فأعفو عمن ظلمني، وأتجاوز عمن أساء إليَّ، لماذا؟ لأجل صلة الرحمن؛ لأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-قال: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قُطعت رحمه وصلها"، ويستحضر قوله تعالى:
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ آل عمران: من الآية 30.
فلنعلم أننا محاسبون على كل شيء، محاسبون على السمع والبصر والفؤاد، وكل ما اقترفناه بواسطة جارحة من الجوارح، نحن محاسبون عليها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كما قال تعالى: ﴿إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾ الإسراء: من الآية 36.
وقال تعالى:
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الحجر: 92 93-
وقال تعالى:
﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ الأحزاب: من الآية 8
فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسَب.