التوبة-3

أحمد الجمال الحموي

التوبة

(3 ـ 3)

شروط التوبة

الشيخ : أحمد الجمال الحموي 

عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام

في الحلقتين السابقتين تبين أن التوبة تنظف العبد من الذنوب ، وتطهره من الخطايا ، فيرتاح قلبه ، ويشعر بالأمن بعد أن كان الخوف من العقاب يقضّ مضجعه ، ويثقل كاهله ، فقد أصبح الآن مؤهلاً للمحبة والقرب .

ولكن كيف تكون التوبة الصحيحة ؟

هل التوبة كلمة تخرج من الفم بأن يقول الإنسان إني تبت ، أو يقول يا رب إني تائب ؟ وهذا كل شيء ؟ لا ، إن التوبة أسمى من ذلك بكثير ، ولابد فيها من ثلاثة أمور ، كل واحد منها يحمل في طياته معاني وإشارات تجعل التوبة حقيقة فياضة ، لا كلمة باهتة جوفاء .

أول أمر من الأمور المطلوبة في التوبة ، هو الإقلاع عن الذنب والبعد التام عنه . وكم في التعبير بكلمة الإقلاع من دلالة على قوة الانسلاخ عن طريق المعاصي الذي سار قبلاً فيه ، وإذا رجع العبد عن هذا الطريق فقد ترك المعاصي ونبذها وألقاها وراءه ظهرياً . أما إذا ادعى المرء أنه تاب ثم استمر على السير في الطريق المهلكة ، فهو لم يتب ، حتى وإن قال تلك الكلمة ، فما كل دعوى صحيحة . وكيف يكون راجعاً تاركاً لهذا الطريق وهو لايزال يتخبط في مساربه وشعابه ، ويتيه في منعرجاته ومنحياته ؟!

الخطوة الأولى إذاً هي ترك الذنوب والبعد عنها ، وإن من ادعى التوبة وهو مقيم على المعاصي يكون كالمستهزئ بربه والعياذ بالله . يقول إنه رجع عن طريق الشيطان إلى طريق الرحمن ، والواقع يكذبه ، وأي توبة مع هذه الحال ؟!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نُكتةٌ سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى يُغلف بها قلبه ، فذلك الرّان الذي ذكر الله في كتابه : ( كلا بلْ ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) رواه الترمذي وصححه ، والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم .

 ولاحظ  كلمة (نزع) أي أقلع عن المعصية وابتعد عنها .

وإياك أن تتجرأ على المعاصي ، وأنت تقول : إن الله غفور رحيم ، فلقد قال تعالى : (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى) أرأيت ؟ إنه غفار لمن تاب ، لا لمن ركب رأسه وأصرَ .

الأمر الثاني من الأمور المطلوبة ، الندم على ما فات ندماً يبعثه في النفس شعورٌ عميق بأنه كان مخطئاً ، فهذا من جملة ما يعنيه الندم ، ويبعثه شعور قوي بأنه كان يفعل ما يضره في دنياه وآخرته .

أما الضرر في الآخرة ، فهو العذاب الذي سيحيق به لو لم يتب ، وهذا العذاب ، لو بذل العاقل مال الأرض ليبعده عنه لما كان المبذول كثيراً .

لكن قد يجهل بعض الناس أن للمعاصي ضرراً دنيوياً ، وهنا نسأل : هل ينهى ربنا عن شيء إلا لضرره ؟  فالله سبحانه منزه عن العبث ، وما شرع لعباده إلا ما يصلحهم ، وما أمر بشيء إلا لما فيه من نفع للعباد ، ولا نهى عن شيء إلا إبعاداً للضرر والأذى عنهم .

وكلما تقدمت الدراسات والبحوث العلمية ، اكتشف الناس جديداً يؤكد ضرر المعاصي وأذاها حساً ومعنىً ، وربما تجاوز ضررها الإنسان إلى الحيوان والبيئة .

غير أن المسلم الذي رسخ الإيمان في قلبه ، وأيقن أن الله بكل شيء عليم ، يبادر إلى تنفيذ ما جاء من عند الله ، شهد العلم بذلك أم لم يشهد ، ثم لا عليه بعد هذا أن يسعى إلى معرفة الحكمة من ذلك الأمر الإلهي ، بعد الإذعان والخضوع .

نعم لابد من الندم . أما ترك الذنب دون ندمٍ فهو علامة على أن العبد لم يشعر بقبح المعصية ، ولم يتذوق مرارتها ، ومثل هذا معرّض إلى نقض التوبة وعدم الثبات عليها ، نعوذ بالله من ذلك .

رباه ما أحلى الدموع تنهمر على الوجنتين في الخلوات ، وفي ظلمات الليل عندما يرقد الناس ، ندماً على ما فرط المرء في جنبك ، بل في جنب نفسه (ومن أساء فعليها)فالحق سبحانه وتعالى لا تنفعه الطاعات ولا تضره المعاصي ، إنما هي أعمالنا يحصيها علينا ثم يوفينا إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه .

هذه الدموع ماءٌ طهور يفور من قلب صحا بعد غفلة ، فانفجر الماء من عيون يقظى ، وانساب على الخدود وبلل الأرض .

ما أنقى دمع العيون ، وما أقدره على التطهير الذي تعجز عنه بحار الأرض .

لابد من ندم ، ندم ممزوج بالحرقة والألم ، حرقة تأتي على آثار الذنوب وتحرق مُتعها الزائفة .

ومع أن اشتراط الندم لا يحتاج إلى دليل ، لأن الندم هو حقيقة التوبة وجوهرها ، إذ لا معنى أن يتوب العبد من ذنب لم يندم على وقوعه فيه ، وقد جاءت أحاديث نبوية صريحة تربط بين الندم والتوبة ، وتجعل الندم هو حقيقة التوبة .

فعن حُميد الطويل قال : قلت لأنس بن مالك رضي الله عنه : أقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الندم توبة " قال : نعم . رواه ابن حبان في صحيحه . وروى الحاكم نحوه ، وقال : صحيح الإسناد .

أما الأمر الثالث : فهو العزم الصادق على ألا يعود إلى المستنقع الذي أخرجه الله منه ، وكيف يعود وهو ينظر إلى أيامه السوالف فيراها مليئة بأشباح مرعبة وبقع كالحة سوداء ، فيولي منها هارباً ، ويسأل ربه ألا يراها مرة ثانية .

إنه يصحو في جوف الليل يطلب من الله الثبات على طريق الحق ويناجيه بذل وانكسار ، يسأله العون على ما هدي إليه ، لقد أدرك حقيقة ما كان من قبل ، فلم يعد يرضى لنفسه أن ينزلق إليه .

لكن ماذا لو صدق العزم على عدم العود ثم غلبته نفسه أو شيطانه فقارف ذنباً من الذنوب ؟..

إن عليه أن يسرع إلى التوبة ، وليحذر اليأس من رحمة الله فهو سبحانه يغفر الذنوب جميعاً .

إن طلب العبد من ربه الثبات على التوبة علامة من علامات قبولها بإذن الله ، وهو في الوقت ذاته سبب من أسباب دوامها .

ومن علامات قبول التوبة ، ومن أسباب دوامها أيضاً : مقاطعة العصاة والبعد عنهم ، وملازمة الصالحين ، والتحبب إليهم ، فالصاحب ساحب ، وقرين السوء قد يُردي صاحبه . وفي حديث الذي قتل تسعة وتسعين نفساً أمر للقاتل جاء فيه : " انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء " .

ولقد أحسن الشاعر حيث قال :

وقاطع من واصَلْتَ أيام غفلةٍ                         فما واصلَ الإخوان من لم يقاطع

نسأله سبحانه توبة نصوحاً ، ونسأله دوامها .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

والحمد لله رب العالمين .