التوبة 2

الشيخ أحمد الحموي

التوبة

(2 ـ 3)

الشيخ أحمد الجمال الحموي

عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام

في مقالة سابقة بان لنا أن من أراد الله به الخير وفقه إلى التوبة ، فهي نهر جار للتطهر والاغتسال من الأدران وهي وسيلة ميسرة لولوج باب الرحمة والرضوان ، وطريقة سهلة سريعة للفوز بمحبة الملك الديان .

هي ارتقاء وتحرر من أسر الهوى والشيطان ، وهي في الوقت نفسه اعتراف بالضعف البشري ، وإقرار بالتقصير مع الله عز وجل ، وكل ذلك يدفع العبد أن يتوجه إلى المولى الكريم بذلة وانكسار ، طالباً منه الصفح والغفران .

والنصوص التي أمرت بالتوبة وحضت عليها كثيرة جداً ، نقتطف بعض أزهارها لنرجع جميعاً ونتوب ، فما منا أحدٌ إلا وهو عرضة للخطأ والزلل ، عدا الرسل عليهم الصلاة والسلام . ألم يقل صلى الله عليه وسلم : " كل بني آدم خطّاء ، وخير الخطائين التوابون " ؟!. بلى قد قال .

وما دام الأمر كذلك فإن الخطاب الرباني توجه إلى المؤمنين جميعاً مطالباً بالتوبة ، ولم يأت موجهاً إلى فئة واحدة كي لا يظن أحد أنه أكبر من أن يتوجه الخطاب إليه ، أو أنه معفوٌّ من التوبة والأوبة . قال تعالى : (وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون) 31 النور .

وهذه آية أخرى من آيات كثيرة تخاطب المؤمنين كل المؤمنين ، وليس طوائف من العصاة فحسب ، تدعوهم إلى رحاب الله عز وجل ، وتشجعهم على التوبة واللجوء إلى كنف الحق سبحانه .

قال عز من قائل : (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) 8 التحريم .

إنها دعوة للجميع ، دعوة إلى توبة صادقة لا غش فيها ولا خداع ، دعوة إلى توبة يعقد فيها العبد صلحاً دائماً راسخاً مع الله ، وما أجمله من صلح مع (الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) 25 الشورى . وكم في التعبير بقوله تعالى : (يقبل التوبة عن عباده) بحرف الجر (عن) بدلاً من حر الجر (من) من المعاني .

وربَّ عبد قد أسرف على نفسه بالمعاصي ، وانغمس في أصنافها ، وانفلت في ألوانها ، وأكثر منها حتى ظنّ أو خيلَ له شيطانه أنه لا توبة له ، يريد بذلك أن يرديه في أودية اليأس والقنوط ، ويضع بينه وبين التوبة الحواجز والسدود ، فيأتيه النداء الحاني الرحيم : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) ، ما أكرمه من ربٍّ وما أرحمه ، يخاطب عبده بهذه الرقة ، فينتزع اليأس من قلبه انتزاعاً ، ويغرس الأمل غرساً ، ويأخذ بيده إلى ميدان رحبٍ من الأمل .

ويبلغ تشجيع العبد على التوبة مدى بعيداً عجيباً فيخلصه من ضغط الماضي وذكرياته المرة ، وأي تشجيع أعظم من أن يعرف العبد الراجع إلى الله أن السيئات تبدل حسنات .

يا رب قد علمنا أن الذنب يمحى ، لكن أن يبدل حسنة أو حسنات فهذا لا يكون إلا منك ، إنه الكرم الذي لا يكون إلا من الرب الكريم . قال تباركت أسماؤه : (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً) 70 الفرقان .

فإياك يا من أغواك الشيطان وزلت بك القدم أن تظن أن الباب أمامك موصد ، وأنك مهما عملت من خير بعد ذلك لن ينفتح ، وأن الأوان قد فات ، احذر هذا الشرَك ، واقرأ بتدبر ما مرّ من آيات كريمة . اقرأ خطاب من يملك قبول التوبة ، وهو وحده يمنح العفو والمغفرة ، وأنصت بقلبك لما قال ، وارتوِ من جرعات الحنان تتدفق من خطاب الرحمن الرحيم .

ثم ماذا بعد ؟ بعد هذا آفاقٌ رحبة فسيحة من الرحمة نتبينها في قوله تقدست ذاته : (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) 222البقرة .

إن قبول التوبة ومغفرة الذنب مرتبة دون مرتبة المحبة ، فالمحبة مرتبة عالية حظي بها أصناف من المؤمنين قاموا بأعمال جليلة : (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) فماذا فعل هذا التائب حتى ارتقى هذه الدرجة ونال هذه الرتبة ؟!. إنه ترك ما كان يجب عليه تركه ، وابتعد عما يؤذيه ويضره .

إنها الرحمة الفياضة تنهال على التائب الذي انتصر في معركة الذات . وإذا هذا الذي كان بالأمس شارداً هائماً على وجهه في بيداء المعاصي ومستنقع الخطايا ، يحظى على عجل بهذه المرتبة السامية ، مرتبة المحبة .

سبحانك يا كريم ، ما أحلمك ، وما أعظمك ، سبقت رحمتك غضبك !.

وبعد أن عشنا لقطات من البيان الخالد ، نأتي إلى مشكاة النبوة نستضيء بنورها ونعيش مع لقطاتٍ محدودة من جوامع كلمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حول التوبة .

عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ياأيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة " رواه مسلم .

يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ والجواب : بلى . لكنها العبودية التي لا يسعد العبد إلا في ظلها ، والتعليم للأمة لتعرف كيف تتخلص من حمل المعاصي وثقلها ، بلزوم الأعتاب ، وإدمان قرع الباب .

وإلى حديث آخر من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته ، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده . فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك . أخطأ من شدة الفرح " رواه مسلم .

وحقك يا رب : إننا لا ندري ماذا نقول . وإن الكلام لينقطع أمام عظمة المشهد ، ومقدار الرحمة والكرم ، إن كان لذلك حد أو مقدار .

إن الحق سبحانه يخاطبنا بما نفهم من ألوان الخطاب ، ويضرب المثل بالأمور بما يصل إلى الأفهام من المحسوسات ، وهو سبحانه الذي ليس كمثله شيء . كل ذلك دعوة لنا إليه ، وهو الذي لا تنفعه طاعتنا ولا تضره معاصينا .

وفي الحديث فائدة عظيمة ، وهي أن ما يقوله الإنسان من مثل هذه الكلمات ، في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به ، وهذا من جملة الرحمة والكرم .

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه مسلم .

إنه الجود الممدود ، والخطاب الرقيق الذي يجسد المعنى بالمحسوس ، رحمة بالخلق ، ليبرز المعنى وينتصب شاخصاً ، حثاً للعبد على ما ينفعه ، وما أرقها من دعوة إلى الإسراع بالتوبة ، والبعد عن تأجيلها : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار " . فلا ينبغي أن يكون في الأمر تأجيل وتسويف ، بل لو كان الأمر أسرع لكان أولى وأحسن .

سبحانك أنت خلقتنا وتعلم ضعفنا ، فمنحتنا فرصة لولاها لهلكنا ، فيا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك .

وإلى اللقاء ـ بإذنه تعالى ـ في حلقة قادمة .