من الأدب الروحاني المغَّيب
من الأدب الروحاني المغَّيب
رسائل الود بين الخالق والمخلوق سبحانه
تحسين أبو عاصي
– غزة فلسطين –
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تُحشرون )
الحمد لله حمد من والاه ، وأشكره على نعماه ، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين .
اعلم أخي الكريم ، أن هذه بضاعتي ، وها أنا أعرضها عليك ، فإن رأيت خيرا ، فهو من فضل الله تعالى ، فاحمد الله عليه ، وأكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وإن رأيت غير ذلك فهو من عند نفسي المخطئة الأمارة بالسوء ، فادع الله لي بالتوفيق ، وقل : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ،=فإنها جبر لنقص المقصِّرين ، ولقلوب المنكسرين ، فقد ورد في صحيح السُّنَّة ، أنها كنز من كنوز الجنة .
فما سلم من النقص والخلل ، والخطايا والزلل ، إلا الذي صحَّ له الفضل والكمال ، صاحب الوصف الأكمل ، من جمع قلبه أشرف الخصال ، أوتي جوامع الكلم ، وخُصََّّ بالفضل والعلم والنقل والعقل ، سيدنا ومولانا وحبيبنا وشفيعنا ، محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
اعلم أخي أنه إن طال سجود قلبك لربك في حِسِّك ويقظتك ، وأنت بين أهلك وأحبائك ورفاق عملك وميادين حياتك ، تزاول عملك مثل الآخرين بل أفضل منهم ، وأنت بربك موصولا بصلة الودِّ ، إنما يجود الحق سبحانه على قلبك الموصول بنوره ، وعندما يجود مولاك على قلبك ، فإنما يجود بما يليق به من كرم وفضل ، لا بما يليق بك ، وأنت العبد العاصي والجاهل والفقير الضعيف ،=يجود عليك بمواهب الأسرار لأنه الوهّاب ، ويجود عليك بمخازن الفهوم وبمعادن العلوم ، ما لا يخطه قلم ، ولا تحصره عبارة ، ولا تنقله إشارة .
اعلم أخي وفَّقك الله لحبه ورضاه ، أنه إذا سجد قلبك لله سجدة واحدة بحق ، فإن قلبك لا يرفع رأسه إلى قيام الساعة ، فمن سجد على سبع وقلبه غافل فكأنه ما سجد ، نعوذ بالله من حجاب الغفلة ، فالسجود هو التذلل لجبار السماوات والأرض ، طاعة وخشوعا وانكسارا ، فمن وجد نفسه أو عقله أو تجارته أو شهادته في سجوده ، فذلك الحرمان والقطع ، نعوذ بالله من القطع بعد الوصل ، ومن المنع بعد العطاء .
إنه الود ، مرتبة أعلى من الحب ، ينالها من أكثر من ذكر حبيبه ، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره ، حتى يتعلق القلب بربه ، فلا يمل من ذكره ولا يغفل عن قربه ، وكيف يغفل عنه وهو في معيته ، إن الله مع الذين آمنوا ، إن الله مع المحسنين ، إن الله مع الصابرين ، فما فقد من وجد الله ، وما وجد من فقد الله ، قلبه متصل بالأفق الأعلى ، وعلامات ذلك أنه في حالة ذكره لربه يُشغِل الملائكة ، إما بالاستماع إليه ومشاركته ، وإما أن تبني له في الجنة من القصور والنعيم ما الله اعلم به ، حتى إذا توقف عن الذكر توقفت ملائكة الملأ الأعلى عن البناء .
تدافع عنه حور العين ، كلما حدث نزاع أو شقاق مع زوجته في الدنيا ، فعالم الدنيا على اتصال وانفعال وتأثير بعالم الملكوت الأعلى .
فسبحان من ودَّ من أراد من الخلائق برسائل مودته ، فهم أحبابه ، اجتباهم واصطفاهم ، فحجبهم عن عيون خلقه ، ولم يحجبهم عن أنوار قلوب أحبابه ، يعرف من عرف ، ويجهل من جهل ، وقليل من عبادي الشكور ، يتعارفون ويتقابلون عن بعد ، ويتجاذبون عن سر ، ويتنافسون ويتزاحمون عن حب ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، هم الأحباب والأخيار ، يرتعون في جنات قلوبهم ، ويمشون من فوق صراط أعمالهم ، ويحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، ويموتون في الدنيا قبل أن يموتوا .
هم في الحفظ والصّون ، يودهم حبيبهم برسائل وده ، يقرؤون رسائله ويفهمونها من غير لغة ولا لسان ولا ترجمان ، فعلموا وأيقنوا ، وذاقوا من معين شراب المعرفة الصافي ، وأمسوا في لذة لو عرفها الملوك والسلاطين لقاتلوهم عليها بحد السيوف .
حطت الملائكة رحالها على قلوبهم ، وحط الصالحون ركابهم في حماهم ، وقفوا جميعا على جبل عرفات فتعارفت أرواحهم وتآلفت ، وطافوا على الصَّفا فتصافوا ، وشربوا من الماء ولكنهم لم يرتووا ، وأنّى لهم الارتواء ، فسبحان من اختصهم واختارهم ووصفهم وصفّاهم .
قلوبهم مهبط ومسكن لملائكة الرحمن ، يغشى قلوبهم من الأنوار ما يغشاها ، ارتبطت أرواحهم بعالم الود الأبدي السرمدي الأوحد ، فما ثمَّ في قلوبهم إلا الله تعالى ، أولائك الفطناء ، نظروا إلى الدنيا فعلموا أنها ليست لحيٍّ وطنا ، جعلوهاا لُجَّةً ، واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا ، لا تنام قلوبهم وإن نامت ، ولا يلهون حيث يلهو غيرهم ، الناس نيام ، وهم بين يدي مولاهم يتنعمون بلذَّةِ المناجاة في وقت السحر ، فصارت كل لياليهم هي ليلة القدر، وكل اجتماعاتهم هي يوم جمعة.
منحهم الحق بودِّه قلوبا شفّافة يقظة مبصرة ، ترى ما لا يراه الناظرين ، يطيرون بها إلى ملكوت رب العالمين ، لا يسعها ملك ولا ملكوت ، بل يسعها خالق الملك والملكوت سبحانه .
يجيبون دعاء الود في كل الأوقات والأماكن والأزمنة ، على وجوههم علامات الرضى ، فالرضى من الرضى لمن رضي ، فافهم المعنى ، ولا تكن من أهل الجهالة والكثافة أعاذنا الله منهم ، حتى تنعكس على قلبك معاني الألفاظ ومدلولاتها .
يقف على أبوابهم كل من عرفهم ، أو لامس سرُّه سرّهم ، فكيف بالدخول عليهم ومجالستهم ؟ . اللهم أكرمنا بهم تفضلا منك وتكرما .
وقد صدق من قال فيهم :
هم الفقراء عنهم فارْو ِ إذا مـا الحب ناجاهم تراهم عن الدنيا تجافوا واستراحوا عـلـى وجناتهم كتبوا إليه إذا سهروا تراهم في الدياجي وإن نـامـوا تولاهم حبيب فـدعـهم يا عذول ولا تلمهم هـم الـفقراء والحقراء حقا | ذكراوقف واسمع لهم خبرا يميلوا في الدجى طربا وذكرا وقد قطعوا بها الأعمار صبرا بـأدمـعهم حروفا ليس تُقرا يديمون الخضوع لديه جهرا بـأسرار القلوب إليه أسرى فـسـاقيهم بهم لا شك أدرى هـم الأمراء إذا حققت أمرا | وخيرا
أحبوا الله بعد أن أحبهم ، فقد سبق منه فضل الحب ( يحبهم ويحبونه ) كما سبق منه فضل الرضى ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) جاء في الحديث الشريف عنه صلى الله عليه وسلم : أحبوا الله لما يغذيكم به من نعمة ، وأي نعمة أعظم من نعمة الإسلام ؟ ونعمة حب الله ورسوله ثم حب الصالحين ؟
وفي الحديث القدسي الشريف : لو يعلم المدبرين عني كم شوقي إليهم ، لتقطعت أحشاءهم حبا إليَّ .
ووراء ذلك كثير من المعاني ، ولكن كما قال صلى الله عليه وسلم : أُمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم ، حتى لا يُكذَّب الله ورسوله .
ما أجمل أن تغشى قلبك رسائل مودته سبحانه ! وأنت في صلاتك ، فتأخذك الخشية فتبكي من عظمته .( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون) .
ما أجمل أن تتلو آيات ربك ، فتتفكر في خلق السماوات والأرض ثم تسمو روحك من بعد ذلك ، لتفكر في بحار العلوم المخفية عنك ، فتزداد إقبالا على ربك وخشية منه ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ) .
( إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) .
ما أجمل أن تغشى قلبك رسائل مودته سبحانه فيقشعر من ذكره قلبك وجلدك ثم تلين ، حتى إذا ما وقع خطب أو كرب ، وجدت قلوب الناس تموج في بعضها موجا ، وأنت ثابت كالجبال بسكينة وُدّ ، من الودود الغفور الرحيم .
إلـى مـتـى تلهو بدار نـاسـيـا لـلـموت يا غافلا حـادي السَّرى ناداك مستعجلا فانهض وتب من كل ذنب مضى | الغُروروفـي تمادي الغيِّ تفنى الدهور عـلـيـه كـاسات المنايا تدور ومـا تـزودت لـيـوم النشور تـحط برضوان العزيز الغفور |