منهج القرآن في التغيير..

بين الفردية والجماعة

لؤي عبد الباقي

[email protected]

التغيير والتطور في حياة البشر والمجتمعات الإنسانية من السنن الكونية المستمرة عبر مختلف الأزمنة والعصور. والحديث عن التغيير والإصلاح في حياة البشر يتجدد كلما ظهرت تحديات جديدة وظروف طارئة، وكلما تفاقم الفساد وتراجعت القيم الموجّهة للسلوك الإنساني. من هذا المنطلق فإن انتشار النقاش حول ضرورة التغيير في الدول والمجتمعات العربية يدل على أن هناك اتفاق واسع بين أرباب الفكر والعلم والثقافة على أن المجتمعات العربية في هذا العصر تعاني من أزمات حادة، على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأخلاقية، الأمر الذي يستدعي استنفارا عاما لإطلاق ثورة إصلاحية شاملة، تحشد الطاقات البشرية وتوجهها نحو تحقيق تغيير جذري يعيد بناء المؤسسات التي ثبت فشلها في مواجهة التحديات المعاصرة.

فمن أين يبدأ التغيير؟ هل يبدأ من الفرد أم من المجتمع؟

هناك توجيه في القرآن الكريم وتعهد صريح من الله عز وجل: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الرعد:11). فكيف نفهم هذا التوجيه الرباني والمنهج القرآني؟ على الرغم من وضوح هذا التوجيه في الإشارة إلى أن التغيير الشامل يبدأ من أعماق النفس البشرية، إلا أن الكثير من الناس يفهمون فكرة التغيير الذي يبدأ من النفس بشكل مغلوط، فيغرقون في المعنى السطحي ويبتعدون عن روح المنهج القرآني المتكامل. إن سبب الخلط الذي يقع فيه الكثير من الناس هو النزوع إلى الفردية عند الحديث عن إصلاح النفس.

فهل يمكن إصلاح النفس بمعزل عن المجتمع؟ وهل هناك أية إشارة في خطاب التغيير: "ما بأنفسهم"، إلى أن تغيير النفس يتحقق في الفرد بعيداً عن الجماعة؟ بمعنى آخر، هل يجب تغيير النفس أو إصلاح الفرد من خلال عزله عن التدخل  في الشأن العام، الاجتماعي أو السياسي؟

لا يمكننا أن نصل إلى إجابة شافية منبثقة من وحي المنهج القرآني الشامل، إلا من خلال ربط آية التغيير بآيات وأحاديث توضيحية أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر:

1.        (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله). فمعيار الخير والإيمان في هذه الآية مرتبط بالسعي نحو نشر المعروف ومحاربة المنكر.

2.         (ولا تركنوا للذين ظلموا فتمسّكم النار، ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير). وهذا إنذار ووعيد ليس للظالمين فحسب، بل لكل من يركن إلى الظلم فلا يحرك ساكنا لتغيير الواقع الذي حل فيه.

3.         (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم، فلا تظالموا). صورة من صور العدل الإلهي وتوجيه إلى تأسيس العلاقات الإنسانية على أساس العدل ورفض الظلم.

4.        (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر). عندما يحيد صاحب السلطان عن منهج العدل وتسوقه شهوة السلطة إلى الجور والطغيان تصبح كلمة الحق في وجهه، كوسيلة سلمية للتغيير، أفضل أنواع الجهاد.

لا مجال هنا لإحصاء الآيات والأحاديث التي تشير إلى علاقة الفرد بالآخرين ودوره في المجتمع، فهي أكثر من أن تحصر في هذا المجال الضيق. ولكن العبرة في جميع هذه الآيات والأحاديث هي أن صلاح الفرد من صلاح المجتمع.

وكما أشار المفكر الشيخ جودت سعيد في كتابه "حتى يغيروا ما بأنفسهم"، إن التعهد الرباني الذي جاء في آية التغيير "إنما هو في مجال القوم - أي الجماعة أو المجتمع - لا في مجال الفرد ، وفي مجال الدنيا لا في مجال الآخرة"، لذلك فإن "هذه السنة في هذه الآية سنَّة اجتماعية، لا سنَّة فردية".

 فتغيير الأنفس لا يتحقق للفرد بمعزل عن إصلاح وتغيير المجتمع الذي يعيش فيه إيضا. وبناءا على هذا الفهم لا يمكن للفرد أن يتغير إلى الأصلح وهو راض بالفساد في مجتمعه.. ولا يمكن للفرد أن يكون عادلا وهو يركن للظلم.

فتغيير النفس هو تغيير موقف من المجتمع.. هو إصلاح علاقة مع الآخرين.. هو إعلان موقف من الفساد.. هو إعلان رفض للظلم والقهر والطغيان..

ومن خلال هذا الفهم الشامل فقط يصبح تغيير النفس هو المدخل إلى تغيير المجتمع الإنساني.