من فقه إصلاح ذات البين
من فقه إصلاح ذات البين
لؤي عبد الباقي
من آيات الله في خلق الإنسان أن جعله متنوعا في اللون واللسان رغم خلقه: ﴿من نفس واحدة﴾ [النساء: 1]، تناسلت عبر الزمان والمكان حتى تفرقت إلى شعوب وقبائل تتنافس في النمو والعمران، وتتصارع على مصادر النفوذ والقوة، مما جعل التعارف بين الشعوب والجماعات البشرية حاجة حضارية وسنة كونية. والتنوع والتعدد في التجارب الحياتية والأساليب المعيشية يولد الاختلاف في تقدير المصالح وتقييم الحاجات والضرورات، مما يجعل العلاقات بين الأفراد والمجتمعات عرضة للخلاف والشقاق، ما يفتح الباب أما شياطين الإنس والجن ليتسللوا إلى مواطن الضعف البشري، فيغرسوا بذور الفتنة التي توغر الصدور وتنفر القلوب، وبذلك تتحول المحبة والمودة إلى ضغينة مبطنة أو ظاهرة، وينقلب الأخوة والأخلاء إلى أعداء متربصين. وبما أن الإسلام دين مدنية وحضارة، كما هو دين عقيدة وعبادة، فقد اهتم ببناء الفرد والجماعة منظما علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، تماما كما نظم علاقته بخالقه جل وعلا. لذلك فإن الإسلام، كمنهج رباني شامل، تعامل مع مواطن الضعف البشري بواقعية، فوضع العلاج لمسألة الخلاف والتخاصم بين الناس، وأمر بإصلاح ذات البين عندما تتعثر العلاقات بين الأفراد والجماعات، انطلاقا من القاعدة النبوية التي تقرر أن ((كلّ ابن آدم خطّاء، وخيرُ الخطّاءين التَّوابون))،[1] وانتهاء بالتقرير والتوجيه الإلهي: ﴿إنَّما المؤمنون إخوةٌ، فأصلحوا بين أَخَويكم﴾ [الحجرات: 10]. فالمؤمن الصادق الذي يجعل من رسول الله أسوته ومن كتاب الله منهجه، يفسح الباب لإخوانه المصلحين لأداء واجبهم الشرعي في حق الله والأخوة، انطلاقا من يقينه بأنه عرضة للخطأ والصواب، وبالتالي فهو بحاجة إلى النصح والتبصرة أو التقويم.
فالإصلاح بين الناس حاجة اجتماعية تعزز تآلف القلوب، وتزرع بذور المحبة بين أفراد الناس، كما هو أمر إلهي وفريضة دينية تتحقق من خلالها نهضة الأمة وتماسكها، فكما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المُؤمنُ للمؤمنِ كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضا))،[2] فلا يجوز التفريط بتماسك هذا البنيان وتعريض عقد الرابطة الإسلامية إلى خطر الانفراط والتشتت. والأمر بالإصلاح بين الناس تكرر في القرآن الكريم في مواطن كثيرة لا مجال لحصرها هنا، كما أنه ورد في أحاديث نبوية متعددة. ففي سورة الأنفال قرن الله تعالى إصلاح ذات البين بالتقوى وبطاعة الله ورسوله، بل وجعله أيضا ملازما للإيمان، فقال عز وجل: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1]. وقال تعالى: ﴿إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ فأصلِحوا بين أخويكم واتَّقوا الله لعلَّكُم تُرحَمون﴾ [الحجرات: 10]. كما قال جل من قائل: ﴿ولا تَجعلوا اللهَ عُرضة لأَيمانِكم أن تبرّوا وتتَّقوا وتُصلِحوا بين النّاس والله سميعٌ عليم﴾ [البقرة: 224]. وفي موطن آخر قال تعالى: ﴿لا خيرَ في كثيرٍ من نجْواهُم إلا من أمَرَ بصدقةٍ أو معروف أو إصلاحٍ بين النّاس ومن يفعل ذلك ابتغاءَ مرضاتِ الله فسوف نُؤتيه أجراً عظيما﴾ [النساء: 114].
أما بالنسبة للهدي النبوي الشريف، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله - تبارك وتعالى - للطالب: فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب فليحمل من أوزاري، قال: وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال: إن ذاك اليوم يحتاج الناس إلى من يُحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من ذهب وقصور من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا؟ أو لأي صديق هذا؟ أو لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا ؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب فإني قد عفوت عنه، قال الله عز وجل: فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإن الله يصلح بين المؤمنين)).[3] وفي حديث رواه أبو الدرداء يقرر الرسول صلى الله عليه وسلم درجة الإصلاح بين الناس عند الله، حيث قال: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين قال: وفساد ذات البين هي الحالقة)).[4]
وقد علمنا النبي، عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام، كيف تستخدم الموعظة في الإصلاح، ففي حديث البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قالت: ((سَمع رسولُ اللَّه صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ صوْتَ خُصومٍ بالْبابِ عالِية أَصواتُهُم، وإِذا أَحدُهُما يَستوْضِعُ الآخرَ ويَسْتَرْفِقُهُ في شيءٍ وهو يَقول: واللَّهِ لا أَفْعلُ فخرجَ عليْهِما رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليهِ وسلَّم: فقال أيْن الْمُتَألّي على اللَّهِ لا يفعَلُ الْمَعْرُوف؟ فقال: أنا يا رسول اللَّهِ، فلَهُ أَيّ ذلك أَحَبّ)). ومعنى (يستوضع الآخر) أي يطلب منه الوضيعة، أي الحطيطة من الدَّين، (ويسترفقه) أي يطلب منه الرفق به.[5]
قال صاحب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" في "كِتَاب الصُّلْحِ":
قوله: (فله أي ذلك أحب) أي من الوضع أو الرفق.
وفي رواية ابن حبان: "فقال إن شئت وضعت ما نقصوا إن شئت من رأس المال، فوضع ما نقصوا" وهو يشعر بأن المراد بالوضع الحط من رأس المال، وبالرفق الاقتصار عليه وترك الزيادة.[6]
ولفقه الإصلاح بين الناس آداب وسلوكيات مضبوطة بنصوص الشرع الحنيف وهدي النبوة، ينبغي على المصلحين المخلصين الالتزام بها، كي تحصل الثمرة المرجوة من ثواب الله وسد مسالك الشيطان وأبوب الشر، ومن أهم هذه الآداب والسلوكيات:
1. أن ينطلق المصلح بمبادرته من حيث استشعاره بأنه يقوم بذلك استجابة لأمر الله، وابتغاء لمرضاته جل وعلا، وفي نفس الوقت لا ينطلق في مبادرته مشترطا ضمان النجاح، لكي لا يشعر بصدمة أو خيبة أمل عند أول عقبة تواجهه، بل يبادر بسعيه من منطلق بذل الوسع والمستطاع، معتمدا على قوله تعالى: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88]. فهذا يساعد على إخلاص النية، وعلى التجرد من الميول الشخصية والابتعاد عن الأغراض الدنيوية، كالتودد للطرف الأقوى على حساب الطرف الآخر لتحقيق مصلحة ضيقة تحبط العمل وتضيع الثواب.
2. أن يُكوِّن المصلح تصورا متكاملا وواضحا للقضية المتخاصم عليها قبل التقدم بالمبادرة والنصح، ولا يتحقق ذلك دون الاستماع إلى الطرفين المتخاصمين وإعطاء كل منهما الفرصة في التعبير والإفصاح عما في داخله من خلال الجلوس مع كل طرف على حدة. وفي هذا السياق فإن إجادة المصلح لحسن الاستماع تلعب دورا فاعلا في إفراغ النفوس من الغيظ والضغط، فيسري فيها شعور بالارتياح والهدوء. كما يمكن الاستئناس بآراء أطراف حيادية ليس لها صلة مباشرة بالقضية المتخاصم عليها، ولكن ينبغي هنا الحذر الشديد من دخول أطراف متحيزة أو مغرضة أو جاهلة، فكثرة الآراء المتناقضة أو الرؤى المتسرعة، التي لا تقوم على دراية ونزاهة، تعكر صفوَ الرؤية وتعرقل بلورة تصور متكامل وواضح حول القضية. وبما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فأن التصور الخاطئ لا ينتج إلا أحكاما خاطئة. كما أن التصور المتكامل والصحيح يساعد المصلح على إدراك تعقيدات وتشعيبات القضية مما يسهل عليه تقييم قدرته على المبادرة في حلها منفردا أو من خلال الاستعانة بأطراف قادرة على ممارسة ضغط مادي أو معنوي، سواء كان من أقارب الأطراف، أو من أصدقائهم، أو ممن له تأثير عليهم، خصوصا في حال وجود طرف أقوى من الآخر يتعذر إقناعه برد مظلمة قد لا يراها واقعة بسبب تحيزه وتشدده، أو بسبب ثقته المطلقة وإعجابه الكبير برأيه.
3. كما ينبغي على المصلح التحلي بالحلم وسعة الصدر وتجنب استخدام الكلام المستفز أمام أي من الأطراف، حتى وإن تعرض شخصيا للنقد والتجريح أو الإساءة من أحد الأطراف، فنفوس المتخاصمين غالبا ما تكون مشحونة بالتوتر والنفور، وهي سريعة الانفعال والغضب، وهذا يتطلب المزيد من الحلم والصبر والأناة حتى يتمكن المصلح من تهدئة الخواطر وتطييب النفوس.
4. ومن أهم أخلاقيات الإصلاح التي لا ينبغي التفريط بها الالتزام بالمحافظة على أسرار الأطراف المتخاصمة، فلا يبوح المصلح بما يمكن أن يسيء لأحد الخصمين، فضلا عن تجنب الوقيعة بينهما، فهذا انزلاق في أوحال الغيبة والنميمة، ومن شأنه تعقيد القضية وربما يؤجج الخلاف ويثير حفيظة المتخاصمين تجاه المصلح، وبالتالي تبوء جهوده بالفشل، وقد يعود بنتائج عكسية. فالأَولى بالمصلح أن يحرص على تليين القلوب والحث على المصالحة من خلال الثناء على لسان أحدهما للآخر مع تجنب ذكر المذمة التي تبدر من الخصمين تجاه بعضهما البعض. ومع أن التزام الوضوح والصدق أمر ضروري، إلا أن استخدام المعاريض والتورية للتقليل من شأن الخلاف ولفت النظر إلى مواطن الخير، والتودّد إليهما دون مسايرة طرف على باطل، أمر لا بأس به وقد يكون ضروري كما أنه لا يتنافى مع الصراحة والصدق.
5. وينبغي أيضا تجنب إعطاء أي انطباع باليأس من إمكانية تحقيق الصلح بين المتخاصمين مهما بلغت حدة الخلاف والشقاق بينهما، فالإخفاق في بداية المحاولة لا يعني استحالة الأمر، بل ربما يحتاج وقتا إضافيا كي تصفو النفوس، وهذا يتطلب نفسا طويلا وتروٍّ هادئ في تكرار المحاولات، كما يحتاج إلى التدرج في تقريب وجهات النظر وردم الفجوات المتراكمة. وهنا يأتي أثر الوعظ المباشر وغير المباشر، كالتذكير بكلام الله تعالى ومكانة العفو عند الله عز وجل: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [البقرة: 237]، وأن تقديم بعض التنازلات في سبيل الحفاظ على حبل المودة والأخوة لا يضيع عند الله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40].
6. وكما يبدأ المصلح بنية التقرب إلى الله وطاعته، عليه أن يبقى مرتبطا بالله عز وجل في جميع مراحل سعيه، متوجها إلى خالقه بالدعاء والرجاء أن يقرب القلوب وينقي النفوس من الضغينة والتشنج، وبذلك يربط التوفيق بإرادة الله وعونه لا بجدارة المصلح وذكائه الشخصي.
العدل والإنصاف في إصلاح ذات البين:
ومن أهم ما ينبغي الحرص عليه عند الإصلاح بين الناس تحري العدل والإنصاف، وعدم مطالبة صاحب الحق بالتنازل عن حقه إلا عن طيب نفس منه، فكثيرا ما يقع بعض الذين يتصدون للإصلاح في الضغط على الطرف الضعيف ليسكت عن حقه ويحابون القوي حفاظا على مصلحة وحاجة لهم معه، أو تجنبا لنقمته وغضبه، وهذا ليس من العدل والإنصاف الذي أمر الله به، حيث قال تعالى: ﴿فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين﴾ [الحجرات: 9]. وليس هناك من مبرر شرعي لمحاباة الناس، سواء لهوى في النفس أو قرابة أو صحبة، في حقوق العباد، وهذا ما أمر الله تعالى به عباده المؤمنين، حيث قال في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾. [النساء: 135].
وكما أكد ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: والصلح الذي يُحل الحرامَ، ويحرم الحلال كالصلح الذي يتضمن تحريم بُضعٍ حلال، أو حل[إحلال] بُضع حرام، أو ارقاق حُرٍ، أو نقل نسب أو ولاء عن محل إلى محل، أو أكل ربا، أو إسقاط واجب، أو تعطيل حد، أو ظلم ثالث، وما أشبه ذلك؛ فكل هذا صلح جائر مردود.
فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله سبحانه، ورضى الخصمين؛ فهذا أعدل الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل، فيكون المصلح عالما بالوقائع، عارفا بالواجب، قاصدا للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم بأفضل من درجة الصائم القائم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين؛ فإفساد ذات البين هي الحالقة، أما إنّي لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدّين).[7]
لذلك فمن كان يبتغي الدار الآخرة ويسعى لمرضاة الله بتجرد فإنه يبذل النصيحة الصادقة في إصلاحه بين الناس طاعة لله ولرسوله، وحرصاً على إخوانه المسلمين، وتحقيقاً للمصلحة الشرعية دون خوف من سخط أصحاب الأهواء من الناس ودون مبالاة بلومهم أو معاتبتهم، كما في قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية8). والعدل هو المساواة بين الطرفين دون تحيز أو محاباة، ومعنى قوله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم، و(شَنَآنُ قَوْمٍ) أي بغضهم.
ومن أهم متطلبات تحقيق العدل في الإصلاح، المعرفة والإلمام الكامل بكل جوانب الخلاف ووقائعه، فلا ينبغي التسرع بالحكم أو إسداء النصح قبل التحري الدقيق والاستماع بموضوعية وإنصاف لكلا الطرفين المتخاصمين، ولا نجد في هذا السياق أوضح وأدق من البيان الرباني في توجيه نبيه داود عليه السلام إلى ضرورة الاستماع إلى الخصمين قبل القفز إلى الأحكام والنتائج، فتعال معي أخي الكريم لنتأمل في هذا الدرس الرباني في الإنصاف بين المتخاصمين، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في ذلك: ﴿وهل أتاكَ نبأُ الخصْمِ إذ تسوَّروا المحراب، إذا دخلوا على داود ففَزِع منهم قالوا لا تخَفْ خَصْمانِ بغى بعضُنا على بعضٍ فاحكم بيننا بالحقِّ ولا تُشْطِطْ واهدنا إلى سَواءِ الصِّراط، إنّ هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ فقال أَكْفِلْنيها وعزَّني في الخطاب﴾، هنا ينتهي الخصم الأول من تبيان موقفه الذي يعطي صورة على مدى الظلم الذي لحق به، وعن مدى عجزه عن إظهار حجته أمام خصمه الذي غلبه وقهره في الحجة والكلام: (وعزني في الخطاب)، فيأتي الحكم الذي يأبى إلا أن يناهض الظلم وينتصر للمظلوم، ولكن بتسرع وحماس يحجب الرؤية الدقيقة والنظرة الشاملة، ودون سؤال الطرف الآخر أو الاستماع إليه، فيجيب داود عليه السلام: ﴿قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخُلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم﴾. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال: "والقضية – كما عرضها أحد الخصمين – تحمل ظلماً صارخاً لا يحتمل التأويل. ومن ثم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة؛ ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثاً، ولم يطلب إليه بياناً، ولم يسمع له حجة. ولكنه مضى يحكم... ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان: فقد كانا ملكين جاءا للامتحان!...عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء".[8] يخبرنا المولى عز وجل بعد ذلك عن طبيعة الأنبياء الموصولين بخالقهم عز وجل على الدوام، إذ يتجه داود إلى ربه مستغفرا منيبا بعد أن أدرك أن الله ابتلاه ليعلمه هذا الدرس في العدل: ﴿وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب، فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب﴾ .[ص: 21-24].
خلاصة القول أن إصلاح ذات البين واجب شرعي وقربة يتقرب بها المؤمن من ربه عز وجل، لذلك فالإصلاح بين الناس كالعبادة التي ينبغي أن تكون خالصة لله ومنزهة عن الأهواء والأغراض، فالمؤمن الصادق الذي يبتغي الدار الآخرة، يحرص على أن يكون سعيه في الإصلاح بين الناس طاعةً لله ولرسوله، وتعزيزا لرابطة الأخوة بين المسلمين. ولكي يقوم المصلح بأداء هذا الواجب الشرعي على الوجه الصحيح لا بد أن يتقيد بالآداب والسلوكيات المنضبطة بحدود الشرع وبهدي النبوة، فبذلك تحصل الثمرة المرجوة من ثواب الله، كما يتعزز تآلف القلوب وتنمو بذور المحبة في ربوع المجتمع الإسلامي.
[1] رواه الحاكم والترمذي في كتاب
الزهد.
[2] صحيح البخاري: 2314.
[3] رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
[4] رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي معاوية وقال الترمذي حسن صحيح.
[5] الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَاب
الصُّلْحِ.
[6] المصدر السابق.
[7] ابن القيم، إعلام الموقعين: 1 / 109 ـ 110 ]
[8] سيد قطب، في ظلال القرآن، المجلد الخامس، ص 3018.