التكبر والتواضع

قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم

القصة العاشرة

التكبر والتواضع

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

ثلاثة من بني إسرائيل رفع كل منهم يديه إلى السماء يدعو الله أن يفرّج عنه ما فيه من مصاب .

      أما الأول فكان أبرص ، وأما الثاني فأقرع ، والثالث أعمى .

فأراد الله سبحانه وتعالى أن يختبرهم ، فأرسل إليهم ملَكاً .

- فلمّا جاء الأبرصَ قال : أي شيء أحبّ إليك ؟

قال : لون حسَن ، وجلد حسن، ويذهب عني هذا البرَصُ الذي استقذرني الناسُ له ، فتقزّزتْ نفوسُهم ، وتحاشَوني .. إني لأشعر بالأسى يجرح شعوري ، والخزي ِ يلاحقـُني .

قال الملَك : ألا ترى أن الصبر على ذلك ثوابُه الجنـّة؟

قال : بلى ، ولكنّ العافية أوسع لي .

قال الملك : ولَئِنْ شفاك الله ما أنت صانعٌ؟

قال : الشكرُ لله سبحانه ، ولأكونَـنّ عند حسن ظن ربي  بي .

فمسحه الملك ، فذهب عنه قذَرُه ، وانقلب كأحسن ما يكون الرجلُ .. لونٌ حسنٌ ، ومنظرٌ بهِيّ ، وعافيةٌ . .. كل ذلك بإذن الله سبحانه .

ثم قال الملَك : أي المال أحبّ إليك؟

قال : الإبل . ... فأعطاه الملَك ناقةً عُشَراءَ ( حاملاً) ، وقال له : بارك الله لك فيها ...

- وأتى الملَكُ الأقرعَ ، فقال : أي شيء أحبّ لك ؟

قال الأقرعُ : شعر حسنٌ ، فإن ذهاب شعري وتقيّح رأسي نفـّر الناس منّي ، وكرّهني إليهم .

قال الملك : ولكنّ الصبر على هذه البلوى واحتساب الأجر عند الله خير .

قال الأقرع : نعم ، ولكنّ العافية أوسع لي .

قال الملك : ما تصنع إن شفاك الله وجمّلك ؟

قال : الشكرُ لله نُصب عيني ، ولأكونَنّ عند حسن ظن ربي  بي .

فمسحه الملَك ، فذهب عنه درَن رأسه بإذن الله تعالى ، وكُسِيَ شعراً جميلاً أظهر حُسنَه ، فامتلأ سعادة .

ثمّ قال الملك : أيّ المال أحبّ إليك ؟

قال الرجل : أحبّ البقر . ... فأعطاه الملك بقرةً حاملاً ، وقال له : بارك الله لك فيها ...

- وأتى الملك ثالثهم – الأعمى - ، فقال : أيّ شيء أحبّ لك ؟

قال الأعمى : أن يرد الله عليّ بصري ، فأبصر كما يبصر الناس .

قال الملك : ألست معي أن الابتلاء مع الصبر يرفع درجات المؤمن في الجنّة ؟!

قال الأعمى : بلى ، لست أنكر ذلك ، ولكنني أتحاشى الناس كي لا يقعوا منّي على ما يكرّههم فيّ ، وأرجو ربي أن يعينني على شكره .

فمسحه الملك ، فردّ الله عليه بصره . ثم قال له : أيّ المال أحبّ إليك ؟

قال : الغنم ... فأعطاه الملك شاة والداً ، وقال له : بارك الله لك فيها ...

فأنتج الأول إبِلاً كثيرة ملأت الوادي .

وأنتج الثاني بقراً كثيراً ملأ الوادي .

وولد الغنم ، فكان له منها وادٍ ممتلئ.

مرّت الأيامُ ، وعاش هؤلاء الثلاثة في رغَدٍ من العيش وبُحبوحة . وعادوا في الناس كأحسن ما يكون الرجل في أهله وعشيرته ، وكان لهم في أقوامهم ومعارفهم العزُّ والسؤدُدُ ...

وحان وقتُ الاختبار ... ألمْ يدّعِ كل منهم أن يكون لله عبداً شكوراً ؟ وأن يحسن إلى الفقراء والمرضى وأبناء السبيل وأهل الحاجة ، وأن لا يرد أحداً قصَدَه ؟ وأن يكون عند حسن ظن ربه به ؟  والسعيدُ من صدَق اللهَ وعدَه.

جاء الملك إلى من كان أبرص فشفاه الله ... جاءه على هيئته يوم كان أبرص تكره العينان رؤيته .

فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلن أصل إلى أهلي وبلدي إلا بفضل الله ، ثم بجودك وكرمك .. أرجو أن تهبني جملاً يبلّغني الأهل والبلد .

قال : كنت أود أن أعطيك ، ولكنني لا أستطيع لكثرة حقوق الناس عليّ وضيق يدي .

قال الملك : أسألك بالله الذي أعطاك اللون الحسن ، والجلد الحسن ، والمال الوافر أن لا تبخل عليّ ، وأن تكرمني كما أكرمك الله .

 قال : لا تُكثر المسألة أيها الرجل ، هيا اغرب عن وجهي .

قال الملك – وهو ما يزال على هيئة الأبرص – يذكّره بما كان عليه ، علّه يرعوي ، فيفي اللهَ ما وعده : كأني أعرفك ؛ ألم تكن أبرص يقذرك الناس فجمّلك الله ؟ وفقيراً ، فأغناك الله ؟

قال الرجل منكراً ذلك جاحداً نعمة الله وفضله : لم أكن كما تدّعي - أيها الأفـّاك -  إنما ورثت المال عن آبائي العظام وأجدادي الكرام ، كابراً عن كابر .

 وهنا قال الملك بعد أن ذكـّر فأعذر : إن كنت كاذباً فإني أسأل الله أن تعود كما كنت .

وفجأة عاد الرجل – كما كان - أبرص كريه المنظر .. لم يف ما قطع على نفسه لله من عهد ، فعاد سيرته الأولى جزاء غدره وإخلافه .

وأتى الملك من كان أقرع على هيئته وصورته ، فقال له مثل ما قال لسابقه . فردّ عليه بمثل ما ردّ الأبرصُ عليه . فدعا الملك عليه أن يعود أقرع كما كان يقذره الناس ويتحاشونه ، فعاد المسكين كما كان جزاء وفاقاً .. لم يحفظ نعمة الله عليه بالشكر وأداء الحقوق .

وجاء الملك إلى من كان أعمى على هيئته وصورته السابقة فقال :

رجل مسكين ، وابن سبيل ، انقطعت بي السبل في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك . أسألك بالذي ردّ عليك بصرك ، ورزقك من فضله العميم شاةً أتبلغ بها في سفري .

نظر الرجل إليه في ضعفه وفقره فأشفق عليه ، وتذكر ما كان هو عليه من هذا الضعف وقلة الحيلة ، فحمد الله تعالى على لطفه فيه .. وبالشكر تدوم النعم .

ثم قال له : صدقت فيما قلت يا أخا الإيمان ، لقد كنتُ كما قلتَ . وقد ردّ الله عليّ بصري ، وأكرمني فرزقني ، وأقسمت لأكوننّ من الشاكرين ؛ فخذ ما شئت من الغنم ، وما رغبتَ من المال ، ولن أمنعك ذلك ، فلله المنّة أولاً وآخراً .

قال الملك : أمسك عليك مالك ، بارك الله لك فيه ، إنما اختبرك الله وصاحبيك ، فرضي عنك وسخط عليهما .

متفق عليه / رياض الصالحين .