الزائر الأخير..

الزائر الأخير..

والمصير الخطير

د. فاروق المناصير

لقد اعتاد الناس أن يزوروا بعضهم بعضاً في المناسبات الدينية والوطنية ، وفي الحالات العادية ، يتزاورون في البيوت والمنازل والمتاجر وأماكن العمل وفي المؤسسات والوزارات وفي غيرها . وفي الغالب يخبر بعضهم بعضاً بأمر الزيارة قبل حدوثها بوقت كافٍ ، حتى يستعد الإنسان المزور لاستقبال الزائر إلا .. هذا الزائر فإنه لا يخبر أحداً عن زيارته ولا يُعلمه متى تكون الزيارة ، فقد يأتي بالليل وقد يأتي بالنهار، وقد يأتي الناس في حال أفراحهم أو في حال أتراحهم ودون أن يشعرهم بموعد الزيارة ، متى وأين ؟

غير أن هذا الزائر الأخير تعتبر زيارته في غاية الخطورة .. بل الخطورة نفسها ، فإن رؤيته على الحال التي هو فيها تحدد (مصير) الإنسان .. كل إنسان على هذه المعمورة ، في الماضي والحاضر والمستقبل .ولم يستأذن ـ قط ـ إلا عدداً محدوداً من البشر، هم خير البشر على الإطلاق .

هذا الزائر الأخير هو ملك الموت عليه السلام الذي يزور الناس .. كل الناس بلا مواعيد محددة أو معروفة .غير أن زيارته تحدد مصير الإنسان .. كل إنسان . إما إلى الجنة وإما إلى النار. والعياذ بالله.

زار هذا الزائر الأخير، أمير المؤمنين (عمر بن عبد العزيز) في آخر أيام خلافته المباركة ، وهو على فراش الموت بعد أن دُسَّ له السم في شرابه .

تقول زوجته (فاطمة) يوم وفاته : كنت خلف الباب فجعلت أسمعه يقول :

ـ مرحباً بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان ، مرحباً برسل ربي ، ثم قرأ :{ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين } [القصص : 83].

ثم لبث طويلاً لا يُسمع له حسّ ، ثم دخلت عليه فوجدته ميتاً قد أقبل بوجهه نحو القبلة ووضع إحدى يديه على فمه والأخرى على عينيه ، لقد زاره الزائر الأخير، وهو في هذه الحالة من التجلي والخشوع لله تبارك وتعالى .

رحمه الله وأسكنه فسيح جناته .

وزار الزائر الأخير شيخ الإسلام (أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية) وهو مسجون في سجن القلعة بدمشق ، وقد ختم القرآن (81) مرة ومات وهو يتلو الآية الكريمة : { إن المتقين في جنات ونهر* في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر: 54 ، 55]

وهو القائل عندما سجنوه : (ماذا يصنع أعدائي بي ؟ إن سجني خلوة ، ونفيي سياحة ، وقتلي شهادة ، إن إيماني في قلبي ، وقلبي بيد ربي) .. مات شيخ الإسلام عام 728 هـ .

وتوفي جدي والد أمي عن عمر يناهز (84) سنة ، بعد إصابته بداء السرطان في رئته وظهره ، وقد رأى قبل وفاته بشهور قليلة رؤيا صادقة حدثني عنها وهو باسم مستبشر، قال :

ـ رأيت البارحة في منامي وكأنني في وسط الجنة وبين أنهار وأشجار لم أر مثلها قط ، وهبّت عليّ ريح طيبة لم أشم ريحاً طيبة مثلها قط .. ثم صحوت لصلاة الفجر، والغريب أن جدتي ـ زوجته ـ لما صحت لصلاة الصبح قالت :

ـ ما هذه الرائحة الطيبة التي تمسك بعبقها غرفة نومها ؟ كانت تسأل زوجها .

لقد كان جدي رحمه الله رجلاً صالحاًُ وتقياً ، فقد حج إحدى وعشرين حجة ، ولم يترك فرضاً من فروض الصلاة إلا صلاها في جماعة ولمدة أربعين سنة في حضره وسفره ، في صحته ومرضه وكان كثير الصدقات والتبرعات الخيرية والإحسان إلى الفقراء والمساكين .

وفي يوم وفاته وقد مات في المستشفى ، تغير شكل جدي الخارجي وصورته الظاهرة ، فإذا بهذا الشيخ الكبير وكأنه انقلب إلى شاب في الثلاثينات من عمره وعلى أحسن صورة ، وعندما زاره (الزائر الأخير) شخص ببصره إلى السماء ثم ابتسم وقال :

ـ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .

ثم أغمض عينيه ومات وهو مبتسم . رحمه الله .

وقصص (الزائر الأخير) مع الناس حين وفاتهم عجيبة وغريبة ، والله نسأل أن يزورنا (الزائر الأخير) ونحن في طاعة الله ورضوانه .. اللهم آمين .