عبد الواحد بن زيد
عبد الواحد بن زيد
ـ 1 ـ *
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
كان من إكرام الله لهذه الأمة المحمدية أن فتح لها بالقرآن مغاليق القلوب ومهد لها معارج الصلة بين العبد وربه سبحانه .. حتى بت ترى على مدى التاريخ رجالاً يعلمون الناس بالعمل قبل القول وبالسلوك قبل الموعظة ، معاني الصلة بالله عز وجل ويسلكون بهم سبل القرب إليه سبحانه وتعالى . ومن هؤلاء الرجال : عبد الواحد بن زيد الذي كان معاصراً لصالح المري وعتبة الفلاح وأضرابهما .
لم يقتصر جهاده رحمه الله على ميدان واحد وإنما كان يخوض معارك الجهاد مع الأعداء ولا يني يجاهد نفسه ليحملها دائماً على الجادة ، وينأى بها عن كل ما يصرفه عن مراتب المحبين في تطلع دائم إلى دار الكرامة يوم يصدق في المؤمنين قوله تعالى : [وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة] .
ولم يكن ـ رحمه الله ـ يحب أن يستأثر بتلك الأذواق الإيمانية والتنقل في مدارج السالكين وحده ، وإنما يريد أن يكون إخوانه وأحباؤه ممن تغمرهم تلك الرحمات ، وتسعدهم تلك النفحات ..
حدث عبد الله بن عبيد عن مضر القارئ قال : سمعت عبد الواحد ابن زيد يقول :
وعزتك لا أعلم لمحبتك فرحاً دون لقائك والاشتفاء من النظر إلى جلال وجهك في دار كرامتك .. فيا من أحل الصادقين دار الكرامة ، وأورث المبطلين منازل الندامة ، اجعلني ومن حضرني من أفضل أوليائك زلفى وأعظمهم منزلة وقربا .. تفضلاً منك علي وعلى إخواني ، يوم تجزي الصادقين بصدقهم جنات قطوفها دانية ، متدلية عليهم ثمرها .
وليس بدعاً أن تعمل الطاعة عملها في قلب عبد الواحد ، فيطلق لسانه بالحكمة وتسلم له مقاييس أهل الآخرة . قال مسمع بن عاصم : شهدت عبد الواحد بن زيد عاد مريضاً من إخوانه فقال : ما تشتهي ؟ قال : الجنة . قال : فعلام تأسى على الدنيا إذا كانت هذه شهوتك ؟ قال : آسى والله على مجالس الذكر ومذاكرة الرجال بتعداد نعم الله ! قال عبد الواحد : هذا والله خير الدنيا وبه يدرك خير الآخرة .
ولقد كان من حبه للجهاد وأنه طريق المؤمن إلى الجنة يذكر قول الحسن رحمه الله :
لكل طريق مختصر، ومختصر طريق الجنة الجهاد .
وعلى سنة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كان الجهاد في النهار لا يشغله عن العبادة وصحبة كتاب الله في الليل شأن أولئك الذين كانوا رهباناً في الليل أسوداً في النهار، وتلك هي الفتوة في تاريخ الإسلام ، قال أبو عاصم العباداني حدثني عبد الواحد بن زيد قال :
كنا في غزاة لنا ونحن في العسكر الأعظم ، فنزلنا منزلاً ، فنام أصحابي وقمت أقرأ جزئي ـ أي حصته من القرآن الكريم ـ قال : فجعلت عيناي تغلبانني وأغالبهما حتى استتممت جزئي. فلما فرغت وأخذت مضجعي قلت : لو كنت نمت كما نام أصحابي كان أروح لبدني فإذا أصبحت قرأت جزئي . قال : فقلت هذه المقالة في نفسي والله ما تحركت بها شفتاي ، ولا سمعها أحد من الناس مني ، قال : ثم نمت فرأيت في منامي كأني أرى شاباً جميلاً قد وقف علي وبيده ورقة بيضاء وكأنها الفضة ، فقلت : يا فتى ما هذه الورقة التي أراها بيدك ؟ قال : فدفعها إلي فنظرت فإذا مكتوب فيها :
ينام من شاء على غفلة والنوم كالموت فلا تتكل
تنقطع الأعمال فيه كما تنقطع الدنيا عن المنتقل
قال : وتغيب الفتى عني فلم أره ! قال : فكان عبد الواحد يردد هذا الكلام كثيراً ويبكي ، ويقول : فرق النوم بين المصلين وبين لذتهم في الصلاة ، وبين الصائمين وبين لذتهم في الصيام ..
ويذكر أصناف الخير..
ذلكم هو الإعداد النفسي للمجاهد في الإسلام .. قتال لأعداء الله وجهاد للنفس كيما تكون وقافة عند حدود رب العالمين الذي يقاتل المؤمن تحت رايته ويجاهد في سبيله ..
ويكرم الله عباده الصالحين بمزيد من الثبات ... والاستقامة على الطريق الذي يوصلهم إلى واحة المحبة ، فهم يذكرون ويخشعون ويتلون كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار ويناجون ويتقربون إلى الله بالنوافل وبذلك يفوزون بنعيم المحبة محبة الله تبارك وتعالى لهم مصداقاً لما جاء في الحديث القدسي:
" ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ...الحديث " (1)
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
ـ 2 ـ **
ولكم دعا عبد الواحد بن زيد إلى الإخلاص في العمل ، ثمرة تذوقه لمعناه وأبعاده ؛ وكان يربط الإجابة به فيقول : الإجابة مقرونة بالإخلاص لا فرقة بينهما .
وعندما يتحدث عبد الواحد عن الصبر والرضا وعن المحبة والرجاء تراه كأنه يغترف من معين العطاء الإلهي ، ونحس من كلماته ذلك الندى الذي يخلفه صدق التوجه إلى الله .
قال خلف بن يزيد القسام : سمعت مضر القارئ يقول : قال لي عبد الواحد بن زيد : ما أحسب شيئاً يتقدم الصبر إلا الرضا ، ولا أعلم درجة أرفع ولا أشرف من الرضا ، وهو رأس المحبة .
ويريد لنفسه وللسالكين طريق تزكية النفس والتربية الإيمانية قدراً أكبر من العزيمة وصدق النية فيما يريدونه ويتوجهون إليه . فإذا رسخت أقدامهم على طريق أهل الفتوة وخلصت نياتهم ، وصدقت عزائمهم كان لهم عند الله ما يريدون . وهؤلاء هم الذين يجمعون دائماً بين الخوف والرجاء يعملون ما وسعهم العمل .ويحسنون الظن بمن أسلموا الوجه إليه .فسائله لا يخيب . ويداه مبسوطتان بالعطاء سبحانه. يقول حكيم بن جعفر: سمعت مسمع بن عاصم قال : قال عبد الواحد بن زيد : من نوى الصبر على طاعة الله صبره الله عليها ، ومن نوى الصبر عن معاصي الله أعانه الله على ذلك وعصمه منها .
وكل الطاعات ـ بعد كونها التزاماً بأوامر الشريعة ـ لابد أن تكون طريق الأنس بالله والرضا عنه في كل الحالات . والقناعة الكاملة بما عنده سبحانه ، وإلا كان العمل مدخولاً لا يتجاوز الخروج من العهدة وكفى . وتلك هي مرحلة الذوق الحقيقي لمعنى العبادة والطاعة . حيث لا يجد العابد أنه إلا بمولاه. ولا يعرف إلا الرضا عن الله . ولا مكان في نفسه لغير القناعة بما تجود به العناية الإلهية فالخير منه وإليه سبحانه . وهو المعطي المتفضل على كل حال . قيل لعبد الواحد بن زيد : إن بالبصرة رجلاً يصلي ويصوم منذ خمسين سنة . وحين لقيه قال له : هل قنعت منه بعد ؟ قال : لا ! قال : فهل رضيت عنه ؟ قال : لا ! قال : فهل أنست به بعد ؟ قال : لا ! قال : فإنما ثوابك من عملك التزيد في الصوم والصلاة ؟ قال :نعم ! قال : لولا أني أستحي منك لأعلمتك أن عملك مدخول .
وفي يقين هذا الرجل الرباني أن من قدر على اقتحام العقبة ، فصبر لمحبة الله على هواه لم يكن الله ليخيب صبره ، ومن ظن غير ذلك فقد أساء الظن بربه . والله تعالى يقول في الحديث القدسي : " أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه، فإذا ذكرني " (2) قال عبد الواحد : يا سيار، أتراك تصبر لمحبته على هواك فيخيب صبرك ؟ لقد أساء بسيده الظن من ظن به هذا وشبهه ، يقول الرجل : ثم بكى عبد الواحد حتى خفت أن يغشى عليه ، ثم قال : بأبي أنت يا مسمع نعمة غادية ورائحة على أهل معصيته ، فكيف ييأس من رحمته أهل محبته !!
ألا ما أكرم أن يكون من ندير الحديث عنه رحمه الله قدوة العالمين والسالكين ، لما أنه على قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . الذين تجافت جنوبهم عن المضاجع والناس نيام . وقاتلوا أعداء الله ما وسعتهم القدرة على ذلك فجمعوا الخير من أطرافه ، وكان لهم شرف الجهاد في شتى ميادينه .
ورحمك الله يا ابن زيد عابداً زاهداً في الدنيا ، وخاشعاً تتلو كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، ومجاهداً صادقاً تتقرب إلى الله بإعلاء كلمته ، وقتال الكفرة المظاهرين عن الحق ، وزادك من فضله في دار كرامته ، إنه أكرم مسؤول وأعظم مأمول ، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش :
* " حضارة الإسلام " السنة 15 شعبان 1394 أيلول 1974 العدد 6
(1)روى البخاري في الجامع الصحيح (كتاب الرقاق . باب التواضع) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه واستعاذني لأعيذنه . وما ترددت عن شيء أنا فاعله .. الحديث ".
** " حضارة الإسلام " العدد الثاني السنة الخامسة عشرة شوال 1394 تشرين الثاني 1974 .
(2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم : " يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني ماشياً أتيته هرولةً " رواه البخاري في كتاب التوحيد والجامع الصحيح انظر الجامع الصحيح مع فتح الباري (13/384) ومسلم (4/2061) باب الذكر والدعاء والترمذي (7/581) باب حسن الظن بالله عز وجل من كتاب الدعوات .