حجاج بيت الله .. وبدأت مهمتكم الكبرى
حجاج بيت الله .. وبدأت مهمتكم الكبرى !!
علاء سعد حسن حميده
حجاج بيت الله ضيوف الرحمن الكرام .. أديتم فريضة ربكم ( وأتموا الحج والعمرة لله ) البقرة196 ، ولبيتم نداء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إذ أمره المولى عز وجل ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) الحج27 .. واتبعتم هدي نبيكم ( خذوا عني مناسككم ) رواه البيهقي ..
وقفتم بعرفات ، وقضيتم ليلة النحر بمزدلفة ، ورميتم جمرة العقبة الكبرى ، وطوفتم بالبيت العتيق ، ونحرتم هديكم ، وحلقتم رؤوسكم ، وذكرتم الله كثيرا ..
قضيتم مناسككم فهنيئا لكم ، وتقبل الله تعالى منكم صالح أعمالكم ، وخرجتم من فريضتكم ببشرى رسولكم ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه ) أخرجه البخاري ومسلم ، ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )متفق عليه .. فهنيئا لكم ، وطبتم وطاب مسعاكم وتبوأتم من الجنة منزلا ..
لقد أديتم الفريضة الخامسة للإسلام ( حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) ومنه بدأت مهمتكم الكبرى .. مهمتكم تجاه أمتكم ومجتمعاتكم ، وأهلكم ، وذويكم !!
لقد أتيتم إلى الديار المقدسة وفود الرحمن وضيوفه ، وترجعون إلى أوطانكم ، سفراء الإسلام ودعاته وناشريه ، وناشري أخلاقه ومبادئه ، التي حييتم عليها وتغذيتم بها وتشربتها نفوسكم موسم الحج
..
فأنتم وفد الأمة المسلمة ، بل وفود العالم أجمع ( من كل فج عميق ) إلى ميقات ربكم ، يقول المولى عز وجل {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }التوبة122 .. وها أنتم هؤلاء نفرتم في سبيل الله إلى فريضة الحج الكبرى لتعودوا إلى أقوامكم بالمهمة الكبرى ، لتنشروا فيهم وخلالهم وبين الناس جميعا أخلاق الحج وقيمه ومبادئه ..
إنها أمانة الحج المنوطة بأعناقكم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" نضر الله امرئ سمع مني مقالة فوعاها فأداها كما سمعها فلرب مبلغ اوعى من سامع "..
ولقد اصطفاكم الله تعالى إلى حج بيته المحرم ، فعشتم جميعا وفود الرحمن ، وسفراء الإسلام ، تلك الفريضة العظمى ، والركن الخامس من أركان الإسلام ، ووعيتم المبادئ الخالدة التي وجب عليكم نشرها بين الناس في ظلال سفارتكم لها :
1. الإيمان الخالص ، وتمام التوحيد لله عز وجل منذ أعلنتم نداء التوحيد ، وتلبية الواحد الأحد ( لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك .. لا شريك لك ) .. فمولانا جميعا هو الواحد الأحد صاحب الملك ، ورب النعمة ، له الأسماء الحسنى والصفات العلا ، وهو رب الأرباب ، وملك الملوك ، القاهر فوق عباده ، وهو تعالى المستحق دون سواه بالعبادة اعتقادا وتشريعا وملكا وحكما وطاعة وامتثالا وخشية وخضوعا وتقوى وتعظيما ..
2. التجرد من الدنيا والانقطاع للعبادة ، فما معنى أن يخرج الناس من ديارهم وأهلهم وذويهم وأموالهم وأعمالهم وتجارتهم إلى ميقات ربهم ؟ سوى إعلان هذا التجرد ، وذاك الانقطاع عن الدنيا وملذاتها ورغائبها ، انقطاعا لعبادة خالق الدنيا والآخرة ، والتجرد من كل زاد سوى التقوى ، لقد كانت فترة الحج ( طالت أم قصرت ) فرصة لتتخفف النفس من جواذب الأرض ومثقلاتها ، لتتخفف الروح من ثقلة الطين ، وليحيا المسلم في ظلال قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ }التوبة38
3. الانضباط التام الزماني والمكاني والعددي والسلوكي أما الانضباط الزماني فيتجلى في قوله تعالى ( الحج أشهر معلومات )البقرة197 وقوله ( فاذكروا الله في أيام معدودات )البقرة203 ، وتحديد يوم عرفة من طلوع شمسه إلى فجر يوم النحر ، والانضباط المكاني في مثل قوله صلى الله عليه وسلم ( الحج عرفة ) ، فمن لم يقف بعرفة ( مكان ) فلم يحج ، والإحرام من الميقات ( مكان الإحرام المخصص لكل جهة أو بلد يقدم منه الحاج ) فمن تجاوز ميقات الإحرام لزمته الكفارة .. وتحديد حدود المشاعر ( عرفات ومزدلفة ومنى ) بحيث يكون الوقوف خارجها لا يحقق الوقوف ، مثل الوقوف بوادي عرنة ( خارج حدود عرفات ) لا يجزئ الحاج إلا إذا دخل داخل حدود عرفات .. والانضباط العددي في تحديد عدد أشواط الطواف حول الكعبة ، والسعي بين الصفا والمروة ، بسبعة أشواط ، ورمي الجمرات بسبعة حصيات لا زيادة في كل هذا ولا نقصان .. والانضباط السلوكي لقوله تعالى ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) البقرة197 ، ومثل محظورات الإحرام التي تضبط سلوك الحاج وتصرفاته ، والانضباط في الممارسة والتقيد بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال في حصى رمي الجمرات ( بمثل هذا فارموا ، وإياكم والغلو في الدين إنما أهلك من قبلهم بغلوهم في دينهم واختلافهم على أنبيائهم ) .. والانضباط المطلق لشرع الله تعالى وأوامره ، وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم ، هو دليل الإيمان ، وهو كذلك سبيل السيادة في الدنيا و الفلاح في الآخرة ..
4. عالمية الأمة الإسلامية : لقوله تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )الأنبياء107 ، وفي الحج تتحقق هذه العالمية ، في نفوس حجاج بيت الله الحرام ، حينما يلتقي المسلم بإخوانه من كل بقاع الأرض ، ليرى عين اليقين ، كيف امتدت رقعة الإسلام وانتشرت في كل بقاع الأرض ، وكيف عم نوره المبين كل أرجاء الوجود ، فما من بلد على سطح الأرض إلا وبها مؤذن يؤذن ( اشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله ) ، والحاج المسلم إنسان عالمي يتسع أفقه ليشمل العالم كله ، ويتسع قلبه ومشاعره ليستوعب العالم من حوله ، يقول الشاعر :
أنا عالمي ليس لي أرض أسميها بلادي
وطني هنا أو قل هنالك حيث يرسلها المنادي
الله أكبر من سموات المآذن والنوادي
هذي بلادي ولتكن بين السفوح أو البوادي
5. أخوة الإسلام امتثالا لقوله تعالى ( إنما المؤمنون أخوة ) الحجرات10 ، وقوله تعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103.. وفي الحج التقى المسلم بأخيه المسلم من كل بقاع الأرض ، فشعر تجاهه بروابط أخوة الدين وأواصر المحبة ، رغم اختلاف الجنس واللون واللغة ، رباط واحد هو الذي يجمع الجميع ، فتحتضن العيون العيون ، وتبتسم الشفاه للشفاه ، وتبش الوجوه للوجوه ، إنها رابطة الإسلام لا سواه ، ويتحقق قول الشاعر :
يا أخي في الهند أو في المغرب أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي إنه الإسلام أمي وأبي
أخوة نحن به مؤتلفون
6. قبول التعدد والاختلاف والسعة في الفقه والاجتهاد :لقد شرع المولى عز وجل النسك في الحج على ثلاثة أنواع ( التمتع ، والقران ، والمفرد ) لتتنوع وتتعدد العبادة ، ويقول المولى عز وجل ( واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ) البقرة203 ، فمن الحجيج من يتعجل في المبيت بمنى ، ومنهم من يتأخر بغير إثم أو معصية ! ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج أنه ما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال ( افعل ولا حرج )!! رواه البخاري ومسلم .. فما أحوج أمة الحج أن تعي هذا التعدد والاختلاف بغير تعصب مذهبي ضيق ، ولا تحزب مقيت ، فإن في الأمر لسعة فرضتها طبيعة عالمية الدين وتنوع الشعوب المسلمة وتعدد الثقافات واختلاف الأفهام والعقول ، وضمنها الإسلام قرآنا وسنة !!
7. تعظيم شعائر الله سبحانه : لقوله عز وجل ( ذلك ومن يعظم حرمات الله فهي خير له عند ربه ) الحج30 ، وقوله تعالى {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ }الحج32
8. تحقيق التقوى فهي خير زاد : لقوله تعالى ( واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ) البقرة196 ، وقوله ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولى الألباب ) البقرة197، وقوله عز من قائل (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ) البقرة203 ، ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) الحج37 ، والتقوى هي غاية كل عبادة فرضها الله تعالى على عباده ، فهي خير الزاد ، وكون فريضة الحج على المسلم المستطيع في العمر مرة واحدة ، فإن زاد التقوى الذي عليه أن يكتسبه من تلك الفريضة الكبرى زاد يكفيه بقية عمره ، فهو زاد التقوى الذي يجنبه الزلل والخسران !!
9. الجهاد والبذل والتضحية في سبيل الله : يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( لكن أفضل الجهاد حج مبرور ) متفق عليه ، وفيما رواه النسائي مرفوعا ( جهاد الضعيف والكبير والمرأة الحج والعمرة ) .. وفي الحج جهاد بالمال ، فالحاج ينفق من ماله ما يحقق له تأدية الفريضة ، وهو في جهاده المالي هذا يتمثل قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }الحجرات15 ، فجهاد المال هو مقدمة للجهاد بالنفس والروح في سبيل الله ، وفي الحج بذل للجهد ، حتى جعل الأجر على قدر المشقة ، وتضحية بالوقت الذي ينقطع فيه الحاج عن كل ما عدا الله تعالى .. وهو جهاد مع النفس ، التي يطالبها بالصبر على المشاق ، والصبر على الأذى ، والصبر على التزاحم والتلاحم والمزاحمة ، وهو في كل ذلك يمتثل قول الله تبارك وتعالى ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) فيتجنب مقابلة إساءة جاهل سوى بالتي هي أحسن .. ويدرب نفسه على بذل النفس رغم المكاره ، فيعطي البسمة يشرق بها وجهه رغم النصب والتعب ، يبذلها لأخيه المسلم وهو يعي قول النبي صلى الله عليه وسلم ( تبسمك في وجه أخيك صدقة ) رواه بن حبان
حجاج بيت الله الحرام .. يا سفراء الإسلام ، أيها العائدون من ذنوبكم كيوم ولدتكم أمهاتكم .. إنها مبادئ وقيم عشناها جميعا في رحاب الفريضة الكبرى ، وفي أعناقنا أمانة التبليغ ، فلنحيا بين الناس بأخلاق الحج مستقيمين غير مبدلين ولا مغيرين ، حتى نلقى الله تعالى بحجنا نسأله وعد نبيه صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )