مع أبي إدريس الخولاني
مع أبي إدريس الخولاني
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
ـ 1 ـ
* هو عائذ الله بن عبد الله الدمشقي ولد عام حنين وتوفي سنة ثمانين للهجرة . كان رحمه الله من جلة التابعين ، أخذ عن معاذ بن جبل ، وسماعه منه ـ كما قال الثقات ـ صحيح ، وسمع من أبي الدرداء وروى عنه ، كما روى عن أبي ذر وحذيفة وعبادة بن الصامت ، وعوف بن مالك وأبي هريرة وطائفة من الصحابة ، وروى عنه الزهري ومكحول وربيعة القصير ويحيى بن يحيى الغساني ويونس بن ميسرة ، وآخرون .
* كان فقيه أهل الشام وعالمهم ، وواعظ أهل دمشق وقاصهم وقاضيهم بل قال مكحول : ما علمت أعلم من أبي إدريس وقد وثقه النسائي وغيره وهو واحد من أولئك البررة الذين جمعوا بين العلم والعمل ، وذلك ما وضع لكلامه القبول في الناس ، ولعلمه حسن التأثير في النفوس .
* وإذا كان حظ أبي إدريس من العمل بالعلم عظيماً بتوفيق الله تعالى ، فقد كان معلماً من معالم الخير في الأمة يهتدي الناس بعلمه واستقامته كما يهتدون بعلمه ودعوته إلى الله ، ولذلك عني بجلاء القلب ، وتنقيته عن كل ما يباعد عن الله لأن بصلاح القلب صلاح ما تكسبه الجوارح وبفساد القلب فساده ، قال:
(قلب نقي في ثياب دنسة خير من قلب دنس في ثياب نقية)
وليس هذا بغريب من أبي إدريس في فضله وحسن تبصره بالحقائق فإن القلب محل نظر الله عز وجل وليس الظاهر والصور..
* وفي تخويف من القضاء ورهبة من زلة الحكم قال حين عزله عبد الملك عن القصص وأقره على القضاء : عزلوني عن رغبتي وتركوني في رهبتي .
* وفي ترهيب لأولئك الذين لا يقصدون بحديثهم إلى الناس وجه الله قال رحمه الله :
(من تعلم ظرف الحديث ـ أو طرق الحديث ـ ليستفيء الناس لم يرح رائحة الجنة) .
* ويريد أبو إدريس من المسلم أن يكون صادق التوكل على الله ، موحداً وجهته إليه فيقول: (من جعل همومه هماً واحداً كفاه الله همومه ، ومن كان له في كل واد هم لم يبال الله في أيها هلك)
ورحم الله من قال : اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها .
* والمساجد !! وهي بيوت الله التي أذن الله أن يذكر فيها اسمه لها عند أبي إدريس تعريف مرتبط بخلائق روادها والملازمين لها ، ذلك قوله :
(المساجد مجالس الكرام).
* وفي توجيه إلى العمل بالقرآن وتدبره والتزام مضموناته والكشف عن الجوانب التي تناولتها الآيات الكريمة قال أجزل الله مثوبته :
(إنما القرآن آية مبشرة ، وآية فريضة ، أو قصص أو أخبار ، وآية تأمرك وآية تنهاك).
والسعيد السعيد من استوقفته آية البشارة ففرح بفضل الله واستقام على الطريقة ، وزادته الآية المنذرة إيماناً فخاف ووجل ، وكفكف نفسه ، فدانها وعمل لما بعد الموت ، والتزم الحدود عند آية الفريضة ، وملأت قلبه العبرة عند القصص والأخبار، وائتمر بأمر الله عند الآية الآمرة ، وانتهى عن المنهيات عند الآية الناهية .. وتلك صفات المؤمنين الصادقين في إيمانهم ، أولئك الذين إذا رأيت صنيعهم مع الكتاب الكريم ذكرت قول الله تعالى :
[وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا] (1).
* ورحم الله أبا إدريس الخولاني وجزاه بما نصح للمسلمين كل خير.. ولنا معه وقفة أخرى نستزيد فيها من علمه وعمله إن شاء الله .
الهوامش :
* " حضارة الإسلام " السنة 17 العدد 3 جمادى الأولى 1396 أيار 1976 .
ـ 2 ـ
وفاء بوعد مضروب لوقفة أخرى مع أبي إدريس الخولاني رحمه الله ، أجدني أمام قبضة نيرة من كلماته الربانية ومعالم سلوكه .
روى ربيعة بن يزيد أنه سمع أبا إدريس يقول :
(ما تقلد امرؤ قلادة أفضل من سكينة ، وما زاد الله عبداً قط فقهاً إلا زاده قصداً) .
وإنها لكلمات تراها ، على وجازتها ، لبنة في نبراس المؤمن ومعالم طريقه إلى الله . السكينة .. نعمت القلادة يقلدها المرء .. السكينة التي إذا نزلت في قلب المؤمن انعكست على جوارحه وسلوكه طمأنينة وحلماً ورضى بقضاء مولاه وصبراً على المكاره ، ويقيناً بما عند الله تبارك الله ، فنجده مهما كبرت الأحداث من داخل النفس أو من خارجها تتزلزل الجبال الرواسي ولا يتزلزل ، ولقد جعلها المولى جل شأنه طريقاً إلى زيادة الإيمان ، فحين أنزلها في قلوب المؤمنين كشف أن ذلك كان من فضله عليهم ليكون لهم مزيد من الطمأنينة واليقين ، ففي طوالع سورة الفتح:
[هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً] (2).
وإذن فيا نعمت القلادة أن تعطي المؤمن السكينة فيكون له من الخير ما يكون .
والفقه في دين الله .. من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين (3) ، والازدياد من ذلك طريق القصد ، طريق الجادة والاعتدال فلا إفراط ولا تفريط لأن من أعطي الفقه في دين الله ، على عموم دلالة كلمة الفقه ، فقد أسلمته العناية إلى الطريق التي تصله بميراث النبوة .
وهكذا إذا اجتمع للمؤمن سكينة القلب والفقه في دين الله ، عقيدة وعبادة وعملاً وتصوراً وسلوكاً ، كان ذلك عنوان فضل الله عليه ، وإيذاناً بأنه من المقربين لديه ، وأكرم بها منزلة يمن الله بها على من يشاء من عباده .
لذا كان لزاماً أن نقدر كلمة أبي إدريس حق قدرها في قوله:
" ما تقلد امرؤ قلادة أفضل من سكينة ، وما زاد الله عبداً قط فقهاً إلا زاده الله قصداً " .
وما لي لا أذكر موقف أبي إدريس أجزل الله مثوبته من الحفاظ على السنة ومحاربة البدعة والابتداع !!! حدث معاوية بن صالح عن أبي الأخنس عن أبي إدريس الخولاني أنه قال :
(لأن أرى في جانب المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها).
إنها البدعة وإنها مسؤولية تغييرها .. البدعة في ذهنه واضحة ما هي .. ولزوم تنقية المساجد عنها لزوم قائم في تصوره رحمه الله .. أما المسؤولية وثقل الأمانة في أعناق العلماء فقد كشف عن ذلك بقوله : (أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.)
رحم الله أبا إدريس فقد ضرب المثل الطيب للعالم العامل في حرصه على السنة والتزام النهج المحمدي ، ومحاربة البدعة وأن ذلك وظيفة العالم أولاً ، وقبل كل شيء ، والمفروض في ظل الحكم الإسلامي أن يكون الأمراء من وراء العلماء الذين يقفون حماة للدين وسنة سيد المرسلين وحرباً على البدع وأهلها ، لأن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "
المهم ـ كما أسلفت ـ أن الذي كان يؤرق أبا إدريس الحفاظ على بيوت الله أن تنتهك حرمتها بالبدعة ، وأن البدعة في نظره وهي نار معنوية ، أشد خطراً وأوغل في الأذية من تلك النار المادية التي يمكن أن تحرق سارية أو جانباً من جوانب المسجد أو جميعه .
إن الخطر، كل الخطر، يكمن ، كما يرى أبو إدريس ، في تلك النار التي تكون عنوان مخالفة الهدي النبوي والإعراض عن سنة رسول الله واستبدالها ببدعة ليس منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من أهلها في شيء .
وجزى الله أبا إدريس خير جزائه عن السنة وحماتها وعن حربه البدعة وأهلها ، والله المسؤول أن يفتح البصائر لكلمات هذا الرجل الرباني وأن يوفق علماء الأمة الحقيقيين أن يدوروا مع الحق حيث دار، فليست البدعة في المسجد أمراً يتعلق بالعبادة فقط ، ولكنها اليوم أهوال وأهوال أقل ما يحمله بعضها مصادفة قول الله تبارك وتعالى:
[وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً] .
والحمد لله رب العالمين .
الهوامش :
(1) سورة الإسراء : 82 .
(2) سورة الفتح 4 .
(3) أخرج الترمذي بسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " قال : حديث حسن صحيح رقم 2647 في العلم. وفي رواية للبخاري ومسلم عن معاوية رضي الله عنه زيادة " وإنما أنا قاسم ويعطي الله ، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة وحتى يأتي أمر الله ".