وأقبلت عشر ذي الحجة

الإمام الشهيد حسن البنا

سبيل الظفر.. عبادة ثم قيادة

 هكذا يجب أن يكون الإخوان المسلمون

رأيته شيخًا أشيب قد اجتاز مراحل العمر، وخطا إلى الآخرة، جلست إليه في صفح نهار، في صفاء من الوقت، وغفوة من الزمن، ورقة في الروح، وقد أشرق محياه يلمع بالصلاح والتقوى وصلة القلب بالله، وإن كان مغمورًا في طوايا المجتمع، خامل الذكر بين الناس تحدثتُ إليه فقال:

ما اسم جمعيتكم؟

قلت له: إننا لسنا جمعية، ولكن إخوان في الله فقط نجتمع على عقيدة وفكرة ونحاول أن نحققها في أنفسنا، ثم نقنع بها الناس، وليست فكرتنا إلا أن تفهم الإسلام والعمل به وحمل الناس عليه!

قال: جميل. ومن يدرس لكم في داركم؟

قلت له: قد أتحدث إلى الإخوان في كثير من الأحيان،

 فسكت هنيهة ثم رفع إليَّ بصره وسأل وهل تقوم الليل؟

قلت له: وماذا تنتظر في جواب على سؤالك هذا؟ أنفسنا بيد الله إن شاء بعثها وإن شاء أمسكها!

فقال: صدق الله ورسوله وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً.

 يا أخي:

إن تربية الأرواح وتزكية النفوس وقيادة القلوب، لا تأتي بهذه الألفاظ تردد، ولا بتلك القواعد تدرس، ولا بالنظريات تلقى، وإن هذه إن أفادت العقل والعلم فإنها بمعزل عن الشعور والروحانية والخلق، وإن الجماعات في حاجة إلى أرواحها وأخلاقها أولاً، وإن هؤلاء الذين يحاولون الصلاح الخلقي عن طريق الكتب وحدها مخدوعون خادعون، فإن كانت هذه طريقتكم فما أعجزها عن الوصول إلى ما تريدون.

 يا أخي:

ليس هذا الصلاح النفساني الذي تنشدون إلا طريقًا واحدةً؛ طريق القدوة الحسنة الموصولة بالله المستمدة من فيضه وفضله وليس لهذه القدوة إلا مكابدة الليل، ومصاحبة القيام، والمناجاة في الغسق، وأنت تقرأ القرآن وتسمع قول الله تبارك وتعالى:﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) (المزمل).

 يا أخي:

فاقد الشيء لا يعطيه، والقلب المنقطع الصلة بالله كيف يسير بالخلق إليه، والتاجر الذي لا يملك رأس المال من أين يربح، والمعلم الذي لا يعرف منهاجه كيف يدرسه لسواه، والعاجز عن قيادة نفسه كيف يقود غيره، ما أشد حاجتكم إلى هذا الصنف من الجهاد؟ إن استطعت أن يكون هذا هو كل ما تحمل عليه من عاهدوك على العمل فهو نجاح ما بعده نجاح، ولقد كان أصحاب محمد رهبانًا بالليل فرسانًا بالنهار أفترى إحداهما انفكت عن الأخرى؟.

 يا أخي:

اجتهد ما استطعت أن تغترف من ذخائر الليل ما توزعه على إخوانك بالنهار، ثم استأذن وقام يتوكأ على عصاه وانساب في هذا المزدحم من الناس، وما زلت أشيعه بقلب واعٍ حتى غاب.

 أيها الإخوان:

لعلكم تستغربون أن أنقل إليكم هذا الحديث في صحيفتكم وهو يكاد يكون خالصًا، وأنتم تنتظرون مني أن أتحدث إليكم في هذه الشئون التي يموج بها العالم وتواجهها الأمة الإسلامية جميعًا، وتودون أن أبين لكم موقفكم منها وعملكم فيها وما إلى ذلك مما يهم الجماعات ويأخذ بتفكير الهيئات، فاسمعوا:

إنكم تبتغون غاية جليلة عظيمة، وعليكم أن تدركوا تمامًا أنكم في صف، مع غايتكم وهذه الدنيا كلها في صف أنكم تريدون إسلامًا مهيمنًا، وروحانية صافية سابغة، وخلقًا فياضًا بالخير، وقلوبًا خفاقة بالرحمة، وسلامًا يظل بجناحيه الدنيا جميعًا،

 والناس يريدون مادة مهيمنة، ومتعة سابغة وفيرة، وخصومة دائمة يذهب ضحيتها الضعفاء ليستمتع الأقوياء، ولتظل القوة تأخذ بخناق الضعف وهما باقيان أبدًا، فلا تعرف الإنسانية معنى للعدالة ولا تتذوق طعمًا للرحمة، ذلك ما يريد الناس وتريدون،

فأنتم في ناحية والعالم في ناحية، وإن الناس يستترون بالكذب، ويتعاملون بالخداع والملق، ويفرون من مواجهة الحقائق، وأنتم لا تريدون هذا لأنكم تراقبون في نفوسكم وعملكم العليم الخبير، فالتباين بينكم وبين الناس- إن صدقتم- تام من كل وجوهه.

وأنتم قليل مستضعفون في الأرض، فقراء من المال، عزّل من القوة، فليس لكم من سلاح إلا الصلة بالله والاستمداد منه والإيمان العميق به، فإذا سلمت لكم هذه الناحية فقد سلم لكم كل شيء: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 160)، فاجتهدوا أن تكونوا كذلك ولا تقولوا كيف؟

فالطريقة واضحة، كونوا عبادًا قبل أن تكونوا قوادًا، فستصل بكم العبادة إلى أفضل قيادة، واحذروا أن تعكسوا القضية كما يفعل الناس، يطلبون القيادة قبل أن تسلم لهم ناحية العبادة فيخضعون أو يصلون فيضطربون، وأشربوا نفوسكم الحديث القدسي: مَن آذى لي وليًا فقد آذنته بالحرب.. وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه" (أخرجه البخاري).

ففي قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور: من الآية 55

المصدر: من تراث الإمام البنا نقلاً عن جريدة الإخوان المسلمين، 25 ربيع الأول 1356ﻫ- 4 يونيو 1937م.

 

'' القرآن سبيل النجاة ''

 الحمد لله الذى أنعم على عباده بالإيمان ووفقهم إليه ، وأمرهم بالعمل الصالح وأثابهم عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه وحبيبه ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين .

أما بعد ، فيا عباد الله ، العلم علمان :

علم تسمعه فتعمل به فهو حجة لك ،

وعلم تسمعه وتدعه فهو حجة عليك ،

وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع ، فتفهموا ما نلقى عليكم ، واجتهدوا فى العمل بما علمتم لتكونوا من الفائزين .

يا عباد الله لو جاءكم خطاب من أمير ، أو ألقى إليكم كتاب من كبير ، فإنكم تحترمونه وتعملون به، وتعظمونه وتسرون له، وتسارعون إلى إنفاذ ما فيه إرضاءاً لصاحبه وتقرباً إليه ، وقد بعث إليكم الملك الجبار ، والواحد القهار ، كتاباً كريماً أنزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين ليكون لكم من المنذرين ، ذلكم هو القرآن الذى " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " ( فصلت : 42 ) .

" كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " ( هود : 1 ) .

" قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم " ( المائدة : 15 16 ) .

فتعالوا يا عباد الله ننظر موقفنا أمام هذا الكتاب الكريم ، ونحاكم أنفسنا قبل أن يحاكمنا الخبير العليم ، هل أحللنا حلاله وحرمنا حرامه وأنفذنا أحكامه ، أم هجرناه واتخذناه نسياً منسياً ؟ .

 هاهو كتاب الله – تبارك وتعالى – ينادى فى الناس ليلاً ونهاراً: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " ( البقرة : 278 – 279 )، فهل تجنبنا الربا وابتعدنا عنه أم أدخلناه فى كل معاملاتنا، وجعلناه قوام بيعنا وشرائنا ورهننا وإيجارنا وقرضنا وسلفنا؟.

 وهاهو الكتاب الكريم ينادى أتباعه ليلاً ونهاراً : " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله " ( النساء : 34 ) ، فهل قام رجالنا على نسائنا وأمروهن بما أمرهن الله به ، أم تركوهن خليعات متبرجات ، مائلات مميلات ، كاسيات عاريات ، يتسكعن فى الشوارع والطرقات ؟ .

 وهاهو القرآن الكريم ينادى أتباعه ليلاً ونهاراً : " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت عليكم إذ كنتم أعداءاً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً " ( آل عمران : 103 ) ، فهل اتحدت كلمتنا وارتبطت قلوبنا وائتلفت أهواؤنا أم تفرقنا طرائق قدداً وطوائف بدداً أغراض متعاكسة وأهواء متشاكسة ، وقلوب مختلفة ، وريح ذاهبة ووحدة ضائعة ؟ .

 هذه مثل ثلاثة وغيرها كثير نرى فيها أننا فى طريق أخرى .

فكيف يكون جوابكم أيها الإخوان إذا خاصمكم الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إلى ربه فقال : " يا رب إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجوراً " ( الفرقان : 30 ) ؟.

اعلموا أيها الإخوان أن ما نحن فيه من الذل والهوان والمصائب والخسران إنما وقعنا فيه لتركنا شريعة نبينا وانحرافنا عن كتاب ربنا ، وقرءوا قول الله تعالى " وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ( النحل : 112 ) ذلك فى الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى ، وعقوبة الله فيها أشد ، ومن كان فى هذه أعمى فهو فى الآخرة أعمى وأضل سبيلاً .

والدواء – عباد الله – ولا دواء سواه أن ترجعوا إلى قرآنكم وتتبعوا سنة نبيكم وتجعلوا ذلكم أمامكم فى كل شئونكم ، وتنزلوا على حكمها فى كل أعمالكم ، وقد رسم الله لكم طريق النجاة فى كتابه ، فقال تعالى : " فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً " ( نوح : 10- 12 ) فتوبوا إلى ربكم واستغفروه تكونوا من الفائزين .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القرآن شافع مشفع وماحل صدق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار " .

 مجلة الإخوان المسلمين – السنة الأولى – العدد 32 ص 10 ، 11 – 29 ذى القعدة 1352 هـ / 15 مارس 1934 م .