مع سفيان الثوري رضي الله عنه (1)
مع سفيان الثوري رضي الله عنه (1)
عالم الأمة وعابدها وأمير المؤمنين في الحديث
الدكتور محمد أديب الصالح
ـ 1 ـ
من الأبرار الذين كانوا معالم في طريق هذه الأمة " سفيان الثوري " الذي جمع الله له العلم والعمل ، والزهادة في الدنيا ، والمعرفة الصادقة ، والكلمة التي تنبع من القلب فتصل إلى القلب ، والحال المؤثرة الواعظة في عصره وحتى يوم الناس هذا ، وإلى لآخر الشوط ما دام في الأمة من يقدر العلم والعمل ، ويشم رائحة الإسلام بصفاء عقيدته ، وارتفاعه بالمسلم فوق المعوقات والصوارف ، وشده إلى حيث مرضاة الله والنعيم المقيم في الآخرة ، في دار الكرامة التي أعدها الله لعباده المتقين المخبتين .
ورضي الله عن الثوري فلقد كانت حياته مصباحاً أضاء الطريق للسالكين وبرهاناً على أن هداية الله كائنة لمن يفتح لها قلبه بصدق وعقله بأمانة وسبحان من يمد عباده بالعطاء وجل من يكرم الصادقين بالمحبة التي جاء ذكرها في الحديث القدسي " ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ..." (2)وسبحان القريب المجيب الذي يدعو عباده دائماً وأبداً ليكونوا في ساحة القرب والمغفرة والإحسان [وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون] .(3)
وسفيان الذي كان وقافاً عند حدود الله بصيراً بآي الكتاب وحديث النبي عليه الصلاة والسلام ، عازفاً عن الدنيا راغباً في الآخرة لا يني يلح على تلك المعاني التي تقرب من الآخرة وتنأى بالمسلم عن أن تستعبده الشهوة وتستذله مطامع العاجلة .
حدث عبد العزيز القرشي قال : سمعت سفيان يقول : " عليك بالزهد يبصرك الله عورات الدنيا ، وعليك بالورع يخفف الله عنك حسابك ، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك . وعن قبيصة قال : سمعت سفيان الثوري يقول : خير الدنيا لكم ما لم تبتلوا به منها ، فإذا ابتليتم بها فخيرها لكم ما خرج من أيديكم منها " .
وذلك الذي يعظ به كان هو ما يعرف من حاله وسلوكه رحمه الله فهو دائماً ينظر بعين الخائف الحذر وكأنه في سفينة مهددة بالغرق ، حدث عبيد الله بن سعيد قال : سمعت أسامة يقول : " كان من يرى سفيان الثوري يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق ، أكثر ما تسمعه يقول : يا رب سلم سلم " .
وبعقل الحكيم المربي ولسان النابه التقي يقول رحمه الله : " كان يقرأ : من كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل ، ومن كانت سريرته شراً من علانيته فذلك الجور".
ومن كلماته رضي الله عنه للعلماء والعباد تنبيهاً وتحذيراً ونصحاً للأمة أن يلبس عليها الملبسون ويفتنها الفاتنون " كان يقال : تعوذوا بالله من فتنة العابد الجاهل ، والعالم الفاجر، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ".
وإذا كان لا يعرف الفضل إلا أهل الفضل إن الثوري بما أعطي من نور العلم والمعرفة كان أقدر على معرفة الرجال والحقائق التي ترفع المرء إلى مصاف الرجال . قال يزيد بن خنيس : سمعت سفيان الثوري يقول : " جلست ذات يوم ومعنا سعيد بن السائب الطائفي ، فجلس سعيد يبكي حتى رحمته ، فقلت له : يا سعيد ما يبكيك وأنت سمعني أذكر أهل الجنة ؟ قال سعيد : يا سفيان ما يمنعني أن أبكي ، وإذا ذكرت مناقب الخير، رأيتني عنها بمعزل ، قال سفيان : وحق له أن يبكي ".
وفي خاتمة لقائنا مع هذا العالم الرباني اليوم نذكر ما رواه محمد بن زيد قال سمعت سفيان الثوري يقول : " بلغني أنه يأتي على الناس زمن تمتلئ قلوبهم في ذلك الزمان من حب الدنيا ، فلا تدخله الخشية . قال سفيان : وأنت تعرف ذلك ، إذا ملأت جراباً من شيء حتى يمتلئ فأردت أن تدخل فيه غيره لم تجد لذلك من خلاء ".
رحم الله سفيان واجزل له المثوبة وصلى وسلم على معلم الناس الخير الذي كان من آثار هديه هذا الرجل وأمثاله في الخالدين .
الهوامش :
العددان 3 ـ 4 من "حضارة الإسلام" 5 ـ 6 / 1391 هـ .
(1) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري كان إماماً في علمه وتقواه توفي رحمه الله 161 هـ وله عدة مصنفات .
(2) من حديث طويل أخرجه البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ، انظر الجامع الصحيح مع فتح الباري (11/340) باب التواضع من كتاب الرقائق .
(3) سورة البقرة : 186 .