سطور وفاء .. على مائدة الإفطار
سطور وفاء .. على
مائدة الإفطار
للشيخ علي
الطنطاوي
رحمه الله تعالى
بقلم : نور الجندلي
شعورٌ عميقٌ
من
فرح احتلني لمّا رأيتكَ بهيبتكَ المعهودة تنيرُ الشاشة الفضّية ..
تسمّرتُ
لحظة ، فقد فاجأتني زيارتكَ في هذه الأمسية الرمضانية ، وأسعدتني كثيراً ،أخذتُ
أصغي إلى صوتكَ الهادئ القادم من بعيد ... جداً ...
وكأنّي بهذا الصوت أستعيدُ
ذكريات من زمانٍ مضى ، ذكريات كان للأيام طعماً عذباً ، غير هذا الطعم المرّ الذي
نتجرعه رغماً عنا في كلّ يومٍ وليلة ..
رفعتُ الصوت قليلاً بجهاز التحكّم ،
وعرفت أن صوتك سينوبُ عني في مناداة أهل الدار ..
هرولوا جميعاً إليكَ دون وعي ،
وبينهم المتعب والجائع والذي غالبه النعاس ! نسوا كلّ شيء لحظة ناديتهم
..
وجلسوا بصمتِ يصغون لحديثٍ ماتعٍ لا ينسى عن ذكرياتكَ الرمضانيّة
..
تحدّثتَ كعادتكَ بعفوية محببة ، وبلغتك الفصحى الموشّاة بآثار شاميّة ،
ذكّرتني بلحظات قصيرة جمعتنا بكَ في سالفِ الزمان ، ( على مائدة الإفطار ) كنتَ
تبرعُ فيها بجلب الانتباه إلى حديثٍ ينسنا الجوع بلحظة ، ليغذّينا غذاءً للروحِ
يغنيها عن كلّ مطعم ومشرب .. ويعمّق في داخلها حبّ الإسلام فتنطلقُ داعية إليه عبرَ
سلوكٍ وعملٍ أسسته في مدرستكَ منطلقاً من القرآن والسّنة ، منافحاً عن عقيدة
التوحيد ، داعياً لأن يكون المسلم خليط حبّ وعلم وعمل واعتقاد ..
كلّ
ذلكَ كنت
تسقيه لنا ببراعة في حديثك اليومي .. فنشرب دون ارتواء !
في
لحظاتٍ قليلة كنت
تصلحُ آفات قلوب ، وتعمرُ بنيان نفوس ، وتسقي جذور أرض افتقرت إلى رواء ..
في
لحظاتٍ قليلة كنت تجدّدُ حياة ، وتسدّ منافذ شيطانٍ وهوى ، وتزرعُ آمالاً بطيب مقال
.
يا
صاحب الحرف البديع ، والقلم الذهبي ، لله درك ! كم طاب ممشاكَ في قلوب
المسلمين ، وكم كان له من معانٍ ..
مضت
لحظاتك الحلوة معنا بسرعة البرق واختفت
طويلاً ..
وتقلّب على أمتنا الزمان فأنهكها ، وأغرقتها الحروب والويلات
..
وها
هي حروفكَ تأتي تخلّدُ طيب ذكريات مضت ، وتذكرنا بأيامٍ خلت .. كنا فيها
بألفِ خير ، قبل أن تتراخى همّتنا ، وتتناوشنا الغفلة فتمزّقنا إلا أشلاء مبعثرة
..
ها
أنتَ تأتي رغم برد الزمانِ لتدفئ أمسيتنا الرمضانية بجميل قولٍ ، ثم
تستأذن متعجلاً وتمضي ..
ويبقى الصمتُ عنواناً لأهل الدار ..
وكأني أسمع في
القلوب نداءات وابتهال ودعاء لكَ بالرحمة ..
تركتهم وفي العين دمعة ، وناديتُ
القلم والأوراق
ورحتُ أخط سطور وفاء ، لأهل الجود والكرم والوفاء ..
لعملاقٍ
تركَ في القلبِ أبلغ أثر ، ثم مضى ، ولم يمضِ الأثر ..
رحم
الله الشيخ علي
الطنطاوي
وأسكنه فسيح جنّاته .