القناعة والعفة
رمضانيات 26
د.عثمان قدري مكانسي
ذكرت في بعض رمضانياتي أننا سنقضي بعض السويعات في رياض كتاب " عيون الأخبار " لابن قتيبة الدينوري ، فتعال اليوم معي نتمتع بالنظر إلى هذه الروضة " العفة والقناعة " ونشم بعض ورودها العبقة في هذا السفر الرائع مع شيء من التصرف ، فما أروع أن يستنشق المرء عبير الأدب والأخلاق عله يستفيد منه أدباً وجمالاً .
- فعن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من يتقبل لي بواحدة أتقبل له الجنة " قال ثوبان أنا قال " لا تسأل الناس شيئاً " قال فإن كان سوطه يقع فما يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه ، رواه ابن جرير الطبري . وقال صلى الله عليه وسلم :" إن الصفا الزلال الذي لا تثبت عليه أقدام العملماء الطمعُ
- قال عمر رضي الله عنه : (ليس من عبد إلا بينه وبين رزقه حجاب ، فإن اقتصد أتاه رزقه ، وإن اقتحم هتك الحجاب ولم يُزَدْ في رزقه ) . أقول : ولقد تلمستُ هذا يقيناً فما عدوت ما قاله الفاروق عمر رضي الله عنه وحشرنا معه في زمرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .
- قال أبو حازم المدنيّ وقد سأله بعض الملوك : ما مالُك؟ قال : الرضا عن الله ، والغنى عن الناس . وقد أخذ هذا المعنى أحد الشعراء ، فقال :
للناس مالٌ ولي مالان، ما لَهما إذا تحارس أهلُ المال أحراسٌ
مالي الرضا بالذي أصبحت أملكه وماليَ اليأسُ مما يملك الناس
وقال غيره :
وإنّ قِراب البطن يكفيك مِلؤه ويكفيكَ سوءاتِ الأمور اجتنابُها
إذا سُدّ بابٌ عنك من دون حاجة فذرها لأخرى ليّنِ لك بابُها
- وترى أبا حازم ينأى بنفسه عن مد يده للآخرين فنفسه عزيزة لا ترضى سماع ما يشين أو أن يجد ردّاً قاسياً:
أوجعُ من وخزة السنانِ فاسترزق الله واستعنهُ وإنْ نـأى منزلٌ بِحُرٍّ لا يثبت الحرّ في مكانٍ الـحُرّ حُرٌّ وإن تعَدّتْ | لذي الحجا وخزة فـإنـه خـيرُ مستعانِ فـمـن مكان إلى مكانٍ يُـنسبُ فيه إلى الهوان عـلـيه يوماً يدُ الزمان | اللسان
- بعض الرجال – ومن كان مع كتاب الله فهو الرجل – يقول : إن عامر بن عبد القيس العنبري كان يردد : أربعُ آيات من كتاب الله تعالى إذا تلوتهنّ مساء لم أبال على ما أمسي ، وإذا تلوتهن صباحاً لم أبال على ما أصبِح : 1- " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده " 2- " وإن يُرِدْك الله بخير فلا رادّ لفضله ، يصيب به من يشاء من عباده " 3- " وما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقها " 4- " سيجعل الله بعد عسر يسراً "
- وكان إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى يقول الحكمة فيصيب بها كبد الحقيقة : " لا تجعل بينك وبين الله منعماً عليك ، وعُدّ النعم عليك مغرماً " وبعض الناس يعتبرون النعمة مغنما وينسون أنهم محاسبون عليها ، ونسوا قوله تعالى " ثم لتُسأَلُنّ يومئذٍ عن النعيم " وقال الأصمعي : أبرعُ بيت قالته العرب بيت أبي ذؤيب الهذلي :
والنفس راغبة إذا رغّبْتَها وإذا تُرَدّ إلى قليل تقنعُ
ولقد قيل : إن الإنسان يَسألُ فيُمنع ، ثم يسأل فيُمنع ، والصبر ينتظر ناحية ويقول : لو صرتَ إليّ لكفيتك .
وكان يُقال : أنت أخو العز ما التحفتَ القناعة ،
ويُقال : اليأس حُرٌّ ، والرجاء عبد .
- قال بعض المفسرين في قوله تعالى : " فلنحيينّه حياة طيبةً " بالقناعة . وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لابنه : يا بنيّ ؛ إذا طلبتَ الغنى فاطلبه بالقناعة ، فإن لم تكن لك قناعة فليس يغنيك مالٌ . وقال عروة بن أذينة بيتين جمع فيهما الحكمة الرائعة :
ولقد علمتُ – وما الإسراف في طمع - أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له ، فيُعنيني تَطلبه...... ولو قعدْتُ أتاني لا يعنيني
وقال أبو العتاهية في المعنى نفسه :
إن كان لا يُغنيك ما يكفيكا فكل ما في الأرض لا يُغنيكا
- وقد ذكروا أن أعرابية حجّت على ناقة ، فقيل : أين زادك ؟ قالت : في ضرعها .
وقد لخص الشاعر النمر بن تولب الرجاء في الله في بيتين بليغين فقال :
ومتى تُصبك خصاصة فارجُ الغنى وإلى الذي يهب الرغائب فارغبِ
لا تغضبنّ على امرئ في ماله وعلى كرائم صلب مالك فاغضبِ
وشكا رجل إلى قوم ضيقاً فقيل له : شكوتَ من يرحمك إلى من لا يرحمك .
- ومن روائع التصرف أن هشام بن عبد الملك قال لسالم بن عبد الله وقد دخلا الكعبة : سلني حاجتك . قال أكره أن أسأل في بيت الله غيرَ الله .
ورأى سالمٌ رجلاً يسأل الناس في موقف عرفة فقال له : أفي هذا الموقف تسأل غير الله ؟!.
وقال سليمان بن عبد الملك للإمام أبي حازم : سلني حاجتك . قال : رفعتها إلى من
لا تُخذَل عنده الحوائج .
وبهذا يقول الشاعر :
لا تَضرَعنّ لمخلوق على طمع فإن ذلك ضعف منك في الدين
واسترزق الله رزقاً من خزائنه فإنما هو بين الكاف والنون
وقال ابن عباس : المساكين لا يعودون مريضاً ولا يشهدون جنازة ، وإذا سأل الناسُ
اللهً سألوا الناسَ .
وكان الحسن البصري يطرد من يسأل يوم الجمعة ، ولا يرى لهم جمعة.
ويقول محمود الوراق مرشداً ومسدداً :
فارغب إلى ملك الملوك ولا تكنْ ياذا الضراعة طالباً من طالب
- وكان بعض الكرام يعطي ويكره أن يسأله أحدهم مواجهة لأنه يضن بسائله أن يقف أمامه موقف الذل ، فيقول له : اكتب حاجتك في رقعة ولا تُذل وجهك أمامي . وهذا غاية الكرم وغاية الشهامة والكرامة .
وبذا المعنى تمثّل معاوية في هذين البتين :
وفتىً خلا من ماله ومن المروءة غير خالِ
أعطاك قبل سؤاله فكفاك مكروه السؤال
- أما الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله تعالى فقصته مع الأمير سليمان بن حبيب بن المهلب تدل على إيمان راسخ وكرامة رفيعة ، فقد استدعاه الأمير إليه فأبى ، فكتب الخليل إليه :
أبلغ سليمان أني عنه في سَعة وفي غنىً غير أني لستُ ذا مال
شُحّاً بنفسي ، إني لا أدرى أحداً يموت هزلاً ولا يبقى على حال
فالرزق عن قدَر لا الضعف يمنعه ولا يزيدك فيه حَولُ محتال
فغضب سليمان وقطع سليمان عنه الراتب ، فبلغ الخليلَ ما فعله سليمانُ فقال :
إن الذي شق فمي ضامن للرزق حتى يتوفاني
حرمتني مالاً قليلاً فما زادك في مالك حرماني
فبلغ هذان البيتان سليمانَ فخجل مما فعل وكتب إلى الخليل يعتذر إليه وأضعف الراتب .
- وننهي جولتنا في هذه الروضة بما قاله أحد الشعراء في عفته ونبذ الطمع :
حسبي بعلمي لو نفعْ ما الذل إلا في الطمعْ
من راقب اللهَ نزعْ عن قبح ما كان صنعْ
ما طار شيء فارتفعْ إلا كما طار وقعْ