مولد سيد العرب وهادي العجم

مولد سيد العرب وهادي العجم

الشهيد حسن البنا

حروف من نور

"نص حديث الإمام الشهيد حسن البنا الذي أذاعته الإذاعة المصرية سنة 1948م بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف".

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد نور الكون وجماله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم وسلم تسليماً كثيراً.

أيها المستمعون الكرام.. تحية من عند الله مباركة طيبة:

في ليلة الثاني عشر من هذا الشهر المبارك عام الفيل بمكة المكرمة، افترت ثغور الزمن عن أجمل بسماتها، وتفتحت أكمام البشرية عن أنضج ثمراتها، وأشرقت آفاق السماء بأضوأ أنوارها: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، نجيب بني هاشم، وفتى قريش، وفخر كنانه، وسيد العرب، وهادي العجم، ورحمة الله للعالمين صلى الله عليه وسلم، فتوالت بذلك بشرى الهواتف، وانسكب في مسمع الدهر أعذب حداء لركب الحضارة الإنسانية، وأحلى نشيد في تاريخ الوجود.

ولد الهدى فالكائنات iiضياء
الروح والملأ الملائك حوله

وفـم الـزمان تبسّم iiوثناء
لـلـدين والدنيا به iiبشراء

أيها المستمعون الكرام..

مظاهر الفضل والجلال والعظمة والجمال التي تحيط بهذا المولد الكريم والرسول العظيم سفر ضخم لا تتناهى صفحاته ولا تنقضي عجائبه وآياته، فهو عظيم في نسبه العربي المصفى، عظيم في نشأته الفاضلة الكريمة، وعظيم في خلقه الجميل المنير، عظيم في خلقه الكامل المظهر، عظيم في سيرته الجامعة لكل معاني الفضل والكمال صلى الله عليه وسلم.

وإن أضوأ صفحات هذا السفر المشرق بالنور والبهاء.. الفياض بالسنا والسناء، وأجلها أثراً في حياة الإنسانية، ما يتصل برسالته الخالدة الباقية رسالة الإسلام الحنيف، الذي هو كمال نعمة الله على عباده، وتمام منته على خلقه، وصدق الله العظيم:

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).

والآن والعالم كله تتجاذبه المذاهب والآراء، وتعبث بالعقول والضمائر فيه الدعوات والأهواء، وتضطرب سفينة الحياة في هذا الخضم الزاخر من النظم والأفكار لا تستقر على حال من القلق، أعتقد أن من حق هذه الإنسانية المعذبة على نفسها ومن حقها على من عندهم أثارة من علم بقواعد النظم الاجتماعية، وخصائص الرسالات الإصلاحية، أن يتقدم كل بكل ما يعلم من وسائل الإنقاذ حتى لا تصطدم السفينة التي تتقاذفها العواصف الهوجاء، فتتحطم على صخور الشواطئ الجامدة الخرساء من حدود المادة وآثارها ومعارفها الصماء.

أيها المستمعون الكرام..

إن رسالة الإسلام الإصلاحية الاجتماعية، كنظام كامل شامل يكفل للإنسانية السعادة والاستقرار والطمأنينة والسلام ويحل ما بين يديها وما خلفها من مشكلات جسام، تمتاز عن كل ما عرفت البشرية إلى الآن من النظم والرسالات بأمور ثلاثة:

الأول: بشمول مبادئها النظرية التي ضمت كل خير جاء به غيرها مع تركها كل ما يعلق بذلك من أضرار، فأعلن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته الخالدة: الإخاء الإنساني، والحرية والسلام، إذ حطم الفوارق العنصرية بين الشعوب، وقضى على كل نعرات الأجناس والألوان، وعلى روح الكراهية والحقد والتعصب الذميم بين أفراد الشعوب بمثل قوله تعالى:

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

وربى أتباعه على حب السلام فختام صلواتهم سلام، وتحيتهم في الأولى والآخرة سلام.. والقرآن قد نزل في موكب السلام ولئن كانت أوروبا لم تلتق بالإسلام إلا في ساح الوغى، أو كان لها من مطامعها السياسية والاستعمارية ما ساء به حكمها وفهمها لمشروعية الجهاد فيه، فالخالق في ذلك واضح أبلج في قوله تعالى:

(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)

(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).

وما التوحيد إلا إعلان للحرية الإنسانية، فلا عبودية إلا للواحد القهار، ولا مخافة إلا من رب العالمين، فلا طغيان ولا استعلاء ولا مصادرة للحريات.

(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين).

ومن المبادئ التي اشتمل عليها الإسلام كذلك: العدل الاجتماعي.. فالإسلام يعلن في المجتمع مبادئ العدل المقرونة بالرحمة:

(إن الله يأمر بالعدل والإحسان)..

والعدل في الحكم:

(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)

والعدل مع الخصوم:

(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)..

والعدل ولو على الأقارب والأصدقاء:

(كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أو تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً).

ثم هو يحمي العدل بالقوة حين لا يجدي سواها:

(فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين).

وضمن حقوق الأسرة والمرأة وضمن الحياة الطيبة لأفراد المجتمع على السواء.

وأمّن حق الحياة والملك والعمل والحرية والعلم والأمن لكل فرد.

وحدد موارد الكسب فلا ضرر فيها ولا ضرار، مع الشدة في محاربة الجرائم والفساد.

وحل مشاكل المال.

وقضى على نظام الطبقات.

وطارد الرأسمالية القاسية..

وقضى على سوء الاستغلال والنظام الربوي.

وكفل حقوق العمال والأجراء..

وضمن تعاون الحاكم والمحكوم على البر والتقوى.

كما ترتكز مبادئه على الربانية والتسامي بالنفس الإنسانية، وتأكيد وحدة الأمة والقضاء على كل مظاهر الفرقة وأسبابها، مع إلزام الأمة الجهاد في سبيل مبادئ الحق التي جاء بها هذا النظام، واعتبار الدولة ممثلة للفكرة الإسلامية، وقائمة على حمايتها ومسؤولة عن تحقيق أهدافها في المجتمع وإبلاغها للناس جميعاً.

والأمر الثاني: الذي تمتاز به هذه الرسالة التي جاء بها صاحب هذه الذكرى المباركة، هو رسم الطرائق التطبيقية وتبسيطها وتحويلها إلى أعمال يومية، وما الصلاة والصوم والزكاة والحج وما وضع الإسلام من عبادات وقربات وأعمال إلا مظهر من مظاهر هذا التطبيق في ألطف صوره وأجمل آثاره.

والأمر الثالث: اعتمادها على الضمير الإنساني الموصول برب العالمين، وتقريرها الجزاء في الحياة الآخرة للعاملين، ووضوح ذلك كله في آيات الكتاب المبين:

(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها)

(وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) يونس: 61

(فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)

(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين).

أيها المستمعون الكرام:

تلك هي رسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم قامت عليها إمبراطورية الإسلام الأولى، فشهد الناس في خلفائه الراشدين وأصحابه الهادين المهتدين أروع المثل للأخلاق الكاملة والحياة الاجتماعية الفاضلة.

ولم تعدم من المنصفين من غير المؤمنين بها من قدرها وعرف لها فضلها وأذاع في الناس خصائصها وآثارها.. ويوم غفل أبناؤها عن هذه الخصائص والمميزات ونسوا سر قوتهم، ومظهر وحدتهم، وأصل عظمتهم وسناد أستاذيتهم:

(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).

ثم اندفعوا بعد ذلك يقلدون غيرهم فيما لا ينفع، وينقلون عن سواهم ما لا يفيد.. كان مثلهم كمثل فرقة الإنقاذ التي تركت مضخة الإطفاء وسارت في قافلة المحترقين فأهملت بذلك واجبها، وأصبحت معهم طعماً للنيران.

أيها السادة الأكرمون:

إن من واجب أهل الدين كافة على اختلاف نحلهم في هذا العصر، أن يعلنوا رسالة الله الخالصة.

وإن يتعاونوا على ما يتهدد البناء الإنساني والحضارة العالمية من إلحاد وإباحية..

وأن من واجب المسلمين خاصة وهم يحملون ميراث الحضارة الحقيقي من أهل الحق والعدل والخير التي أهدرتها المدنية الغربية في ذلك الصراع الخطير الذي تدور رحاه بين الكتلة السلافية والكتلة الغربية، الذي امتد خطره إلى الشرق الأوسط والأدنى وتفجر بركانه في فلسطين العربية المجاهدة، أن يعودوا إلى رسالة نبيهم، فهي حلقة النجاة، وسفينة الخلاص، وأن يترسموا في حياتهم وكفاحهم هدي القرآن الكريم، ونظام الإسلام العظيم، فتستقيم لهم سبل الحياة الحرة العزيزة، ويصبحوا أئمة يهدون الناس بأمر الله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله:

(ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).

(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).

ونعمت الهدية، هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عيد ميلاده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.