افهم دينك-2-3
افهم دينك
[2]
الفقير إلى الله
وراجي عفو ربه
جمعة أمين عبد العزيز
الأصل الثانى
مصدر التلقي
"والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم فى تعرّف أحكام الإسلام ويُفهم القرآن طبقاً لمعانى اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف ويرجع فى فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات "
هذا الأصل يعالج:
1-المصدر الأول الكتاب- القرآن الكريم.
2-المصدر الثانى السنة النبوية وما يتعلق بهما.
حين نقول إن الإسلام دين ودولة ، كان لابد أن يكون لهذا الكلام مصدره الذى يوثقه ويؤيده وكل كلام فى دين الله ليس له مصدره الصحيح من كتاب أو سنة هو كلام أبتر لا يعتد به.
ولذلك كان الأصل الثانى هو الأصل الذى يحدد مصدر التلقى لأن القرآن والسنة هما أساس الشريعة وهما اللذان جاءا بنصوص الشريعة المقررة للأحكام الكلية أما باقى المصادر فهى لا تأتى بأسس شرعية جديدة ولا تقرر أحكاماً كلية جديدة وإنما هى طرق للاستدلال على الأحكام الفرعية من نصوص القرآن والسنة ولا يمكن أن تأتى بما يخالف القرآن والسنة لأنها تستمد منهما وتستند إلى نصوصهما.
فما هو المصدر الأول؟
القرآن: هو المصدر الأول لأنه كلام الله المعجز ووحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب فى المصاحف المنقول عنه بالتواتر المتعبد بتلاوته .
ولا خلاف بين المسلمين فى أن القرآن من عند الله وأنه سبحانه وتعالى تجب له الطاعة فالقرآن حجة على كل مسلم ومسلمة وأحكامه واجبة الاتباع أياً كان نوعها
أحكام القرآن:
وأحكام القرآن على نوعين:
1-أحكام يراد بها إقامة الدين وهذه تشمل أحكام العقائد والعبادات.
2-وأحكام يراد بها تنظيم الدولة والجماعة وتنظيم علاقات الأفراد بعضها ببعض وهذه تشمل أحكام المعاملات والعقوبات والأحوال الشخصية والدستورية والدولية ...إلخ.
ولقد نزلت هذه الأحكام بقصد إسعاد الناس فى الدنيا والآخرة ومن يتتبع آيات الأحكام يجد كل منها يترتب عليه جزاءان : جزاء دنيوى وجزاء أخروى.
ولم تشرع آيات الأحكام للدنيا والآخرة عبثاًَ وإنما اقتضى ذلك منطق الشريعة فهى فى أصلها تعتبر أن الدنيا دار ابتلاء وفناء وأن الآخرة دار بقاء وجزاء وان الإنسان مسئول عن أعماله فى الدنيا ومجزى عنها فى الآخرة فإن فعل خيراً فلنفسه وإن أساء فعليها والجزاء الدنيوى لا يمنع من الجزاء الأخروى إلا إذا تاب الإنسان وأناب.
أحكام القرآن وحدة واحدة:
وأحكام القرآن لا تتجزأ ولا تقبل الانفصال لأن النصوص الشرعية تمنع من العمل ببعضها وإهمال البعض الآخر كما تمنع من الإيمان ببعضها والكفر ببعض وتوجب العمل بكل أحكامها والإيمان بها إيماناً تاماً بكل ما جاءت به (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
وتمتاز الشريعة الإسلامية عن الشرائع الوضعية بميزات عظيمة هى أن أحكامها شرعت للدنيا والآخرة – كما قلنا- وهذا هو السبب الوحيد الذى يحمل معتنقيها على طاعتها فى السر والعلن والسراء والضراء لأنهم يؤمنون بأن الطاعة لله نوع من العبادة تقربهم إليه وأنهم يثابون على هذه الطاعة ومن استطاع منهم أن يرتكب جريمة ويتفادى العقاب الدنيوى فإنه لا يرتكبها مخافة العقاب الأخروى وغضب الله عليه.
ولذلك فهى تلزم معتنقيها أن يتخلقوا بالأخلاق الفاضلة ومن تخلق بالأخلاق الفاضلة ندر أن يرتكب جريمة وهم بعد ذلك يعلمون أن الله رقيب مطلع على أعمالهم وأنهم مهما استخفوا من الناس فلن يستخفوا من الله وهو معهم أينما كانوا وبذلك تقل الجرائم ويحفظ الأمن وتصان الجماعة ومصالحها العامة بعكس الحال فى القوانين الوضعية فإنها ليس فى نفوس من تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها ومن استطاع أن يرتكب جريمة ما وهو آمن من سطوة القانون فليس ثمة ما يمنعه من ارتكابها من خلق ودين ولذلك تزداد الجرائم زيادة مطردة فى البلاد التى تطبق القوانين الوضعية وتضعف الأخلاق ويكثر المجرمون من الطبقات المستنيرة تبعاً لزيادة الفساد الخلقى فى هذه الطبقة ولقدرة أفرادها على التهرب من سلطان القانون.
وولأنها من عند الله فإنها أصلح نظام وأكمله وأعدله وأشمله لا نقول تصلح لكل زمان ومكان ولكننا نقول تصلح الزمان والمكان للشمول الذى تمتاز به من حيث نظرتها للإنسان ونظرتها للكون ونظرتها للحياة.
فالعقيدة تنطلق منها وحدة المشاعر، والعبادات تمثل وحدة الشعائر، والنظام يمثل وحدة الشرائع ومزج الشريعة بين أحكام الدنيا والدين وإيمان المسلمين بها ضمن للشريعة الاستمرار والثبات وبث فى المحكومين روح الطاعة والرضاء ودعاهم إلى التخلق بالأخلاق الكريمة وجعل الشريعة قوة فى الردع ليست لأى قانون وضعى آخر مهما أحكم وضعه وأحسن تطبيقه وتنفيذه.
ما اشتمل عليه القرآن :
واشتمل القرآن الكريم على أصول الشريعة وقواعدها وفى الحلال والحرام وجاءت أكثر أحكامه مجملة تشير إلى مقاصد الشريعة وتضع بيد الأئمة والمجتهدين المصباح الذى يستنبطون فى ضوئه أحكام جزئيات الحوادث فى كل زمان ومكان وهذا سر خلود الشريعة وشمول قواعدها الكلية ومقاصدها العامة لما يحدث فى الناس من أقضيات.
وإنما فصل القرآن ما لابد فيه من التفصيل الذى يجب أن يسمو عن مواطن الخلاف والجدل كما فى العقائد وأصول العبادات أو لأنه يبنى على أسباب لا تختلف ولا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة وذلك كما فى تشريع المواريث ومحرمات النكاح وعقوبة بعض الجرائم.
وللقرآن علوم منها المكى والمدنى ، والعام والخاص، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمشكل وأسباب النزول وغيرها من العلوم التى عرفت عند العلماء بعلوم القرآن.
ولذلك كان لابد للمفسر لآيات القرآن من علوم يحتاج إليها من أهمها :
1-اللغة والاشتقاق ذلك لأن بعض الفرق الإسلامية المنحرفة حرفت بعض آيات القرآن وأولتها تأويلاً بعيداً عن معانى اللغة وضوابطها كأصحاب التأويلات الباطنية والرمزية وغيرهما وصدق عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين قال "عليكم ديوانكم لا تضلوا" ويقول مجاهد "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم فى كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب".
2-النحو والصرف.
3-الأدب وعلوم البلاغة.
4-علوم القرآن .
5-علم أصول الدين والتوحيد.
6-أصول الفقه.
7-الحديث النبوى والفقه والسيرة.
8-علوم أخرى كالعلوم الاجتماعية والتاريخ والجغرافيا..إلخ
وقد ضع الإمام السيوطى فى كتابه "الاتقان فى علوم القرآن" ثلاثة عشر علماً -منها ما سبق-يجب أن يحيط بها من يتكلم فى التفسير وبعد أن عدَّدها قال: وعلم الموهبة، فقيل له وما علم الموهبة ؟ قال:"نور يقذفه الله فى قلب من يشاء من عباده".
ولهذا فإن الصحابة أنفسهم كانوا يتفاوتون فى فهم القرآن تبعاً لمواهبهم وإطلاعهم على لغتهم وآدابهم فضلاً عن معرفة أسباب النزول .
فهذا ابن عباس ترجمان القرآن يقول : كنت لا أدرى ما فاطر السماوات حتى أتانى أعرابيان يختصمان فى بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها يقول : أنا ابتدأتها .
وها هو ذا أبو بكر -وفى رواية عمر رضى الله عنهما- لا يعرف معنى "وأبا" فيقول : أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى إن قلت فى القرآن برأيى .
والذى نريد أن نشير إليه إشارة سريعة أن قوماً اكتفوا بالقرآن وأنكروا السنة ويقول عنهم الإمام الشاطبى :
"إن الاقتصار على الكتاب رأى قوم لا خلاق لهم خارجين عن السنة ، إذ عولوا ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه تبيان كل شيء فاطرحوا أحكام السنة فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله"
وعلى هذا فإن القرآن هو أساس الدين ومصدر التشريع وحجة الله البالغة فى كل عصر ومصر بلغه رسول الله لأمته لأمر ربه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) وأمرنا ربنا باتباعه (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)
فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه واعتبروا بأمثاله.
وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتى القرآن ومثله معه وهو المصدر الثانى للتشريع.
المصدر الثانى:
السنة: التشريع إما أن يكون وحياً إلهياً بالمعنى واللفظ وذلك يتمثل فى القرآن الكريم الذى أنزله الله على رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وإما أن يكون إلهياً بالمعنى دون اللفظ وذلك يتمثل فى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن اللفظ لفظ الحديث من كلامه وإن كان معناه وحياً لقوله تعالى (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) والله سبحانه وتعالى هو المشرع ورسوله صلى الله عليه وسلم هو المبين لشرعه (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...) وأوجب الله طاعة الرسول لأنها من طاعته (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ...) وجعل حكمه عن إلهام منه (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ..) فلا شرع إلا ما شرع الله وإلا ما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان للتشريع الإسلامى مصدران أساسيان الكتاب والسنة وبانتهاء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى عهد التشريع.
والسنة هى ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير مع اختلاف فى هذا التعريف بين العلماء – وهى على ثلاثة أنواع :-
السنة القولية: وهى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التى قالها فى مختلف المناسبات مثل قوله :"لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بدون نفس" وقوله صلى الله عليه وسلم "الطهور شطر الإيمان".
السنة الفعلية: وهى أفعاله صلى الله عليه وسلم سواء كان فى الصلوات أو كان فى الأفعال مثل قضائه بالعقوبة فى الزنا بعد الإقرار وقطعه اليد اليمنى فى السرقة وقضائه بشاهد واحد ويمين المدعى.
السنة التقريرية : وهى ما صدر عن بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم من أقوال أو أفعال أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم بسكوته وعدم إنكاره أو بموافقته وإظهار استحسانه فيعبتر عمل الصحابى أو قوله بعد أن أقره الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه صادر من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ومثل ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ إلى اليمن سأله بم تقضى ؟ قال بكتاب الله ، فإن لم تجد فبسنة رسول الله فإن لم تجد أجتهد رأيى فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك حيث قال: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله إلى ما يرضى رسول الله أو كما حدث مع الصحابة الذين ذهبوا إلى بنى قريظة والذى صلى منهم العصر قبل وصولهم، ومنهم من صلى بعد الوصول، أقر هؤلاء وأقر هؤلاء فهذه تسمى سنة تقريرية، يقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة هى المصدر الثانى بعد القرآن وتلى القرآن فى المرتبة :
أحكام السنة:
وأحكام السنة من الناحية التشريعية لا تعدو أن تكون واحداً من ثلاثة:
1-إما أن تكون سنة تقرر وتؤكد حكماً جاء به القرآن فيكون الحكم مرجعه القرآن والسنة معاً كتحريم القتل بغير حق وشهادة الزور والسرقة ومثل تحريم القتل يقول ربنا سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم :"ولا يحل دم امرئ مسلم …" فهنا جاءت السنة ومن قبل جاء القرآن بهذا التحريم وغيره من الأمور التى جاء بها القرآن والسنة معاً.
2-وإما أن تكون سنة مفصلة مفسرة حكماً جاء به القرآن مجملاً أو مقيداً ما جاء فى القرآن مطلقاً، أو مخصصة للتى جاءت به السنة بياناً للمقصود من الحكم الذى جاء به القرآن لأن الله جعل لرسوله صلى الله عليه وسلم حق البيان لنصوص القرآن (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...) فالسنة هى التى فصلت الصلاة قال تعالى (وأقيموا الصلاة) لكن جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:"صلوا كما رأيتمونى أصلى"فمنه أخذنا الصبح اثنين والظهر أربعة …وهكذا، والحج "خذوا عنى مناسككم "، والزكاة لأن القرآن يأمر بهم ولم يبين لا كيفية الصلاة ولا مقادير الزكاة ولا مناسك الحج فجاءت السنة وبينت ذلك :
ونصوص القرآن أحلت البيع وحرمت الربا والسنة هى التى بينت بيوع الربا ونصوص القرآن حرمت الميتة والدم والسنة قيدت هذا الإطلاق.
3-وإما أن تكون سنة مثبتة حكماً سكت عنه القرآن فيكون الحكم أساسه السنة وليس له دليل من القرآن كقول الرسول صلى الله عليه وسلم :"لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها" وكقوله فى تحريم الذهب "حرام على رجال أمتى حلال لنسائها وكقوله "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وهكذا.
حفظ السنة:
يقول الإمام ابن حزم :"ليس القرآن فقط الذى حفظه الله سبحانه وتعالى ولكنه حفظ السنة أيضًا فى صدور رجال بالرغم من أن القرآن جمع ،ويستشهد ابن حزم استشهاداً لطيفاً جداً يقول (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فيقول الذكر هنا ليس القرآن وحده ،ولكن الذكر هنا (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فإذاً التبيان داخل فى الذكر فحفظ الله جمع بين القرآن والسنة.
ويتكون الحديث من السند وهو سلسلة الرجال الموصلة إلى متن الحديث أى نصه ويشترك فى السند رجال من الصحابة والتابعين عادة؟.
الصحابى: هو من لقى النبى صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام طالت مجالسته أم قصرت، روى عنه أو لم يرو غزا أو لم يغز رآه رؤية ولم يجالسه وكذلك، من لم يره لعارض كالأعمى.
التابعى: قال الخطيب البغدادى "هو من صحب الصحابى" فهو لا يكتفى بمجرد اللقاء بل اشترط أن تكون هناك صحبة بين الصحابى والتابعى.
أما الحاكم النيسابورى قال هو من لقى الصحابى وروى عنه وإن لم يصحبه كسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبيير وسالم بن عبد الله بن عمر إلخ.
أنواع السنة:
أنواعها بحسب روايتها: سنة متواترة –ومشهورة –آحاد.
السنة المتواترة: هى ما رواه عن رسول الله جمع يمتنع عادة أن يتواطأ أفراده على الكذب لكثرتهم وأمانتهم ثم رواه عن الجمع جمع مثله وعن هذا الجمع جمع آخر وهكذا حتى وصلت إلينا بسند كل طبقة من رواته جمع لا يتفقون على كذب من مبدأ التلقى عن الرسول حتى وصلت السنة إلينا ، ومن هذا القسم السنن العملية فى أداء الصلاة والصوم وغير ذلك من شعائر الدين تلقاها المسلمون جموعاً عن الرسول ولقنوها جموعاً آخر دون خلاف عليها مع اختلاف الأعصار وتباعد الأمصار .
السنة المشهورة : هى ما رواها عن الرسول صحابى أو أكثر دون أن يبلغ الرواة حد التواتر ثم نقلها من الراوى أو الرواة جمع من جموع التواتر وتناقلها عن هذا الجمع جموع أخرى حتى وصلت إلينا بسند أول طبقة منه فرد أو أفراد لا يبلغون حد التواتر وباقى طبقاته من جموع التواتر ومن هذا القسم ما رواه عمر بن الخطاب وابن مسعود وغيرهما من الصحابة.
سنة الآحاد: هى ما رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاد أو جمع لم يبلغ حد التواتر وتناقلها عن هؤلاء أمثالهم من الآحاد أو الجموع التى لم يبلغ حد التواتر ومن هذا القسم معظم الأحاديث.
والسنن جميعاً قد تكون قطعية الدلالة إذا كانت لا تحتمل تأويلاً وقد تكون ظنية الدلالة إذا كانت تحتمل التأويل وجميعها مصدر تشريعى واجب الإتباع (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ..)
ويجدر بنا أن نشير إلى أن جميع الأقوال والأفعال التى صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقصد البيان والتعليم والإرشاد هى تشريع ملزم.
أما التى صدرت عنه بخبرته الخاصة بالشئون الدنيوية كالاتجار والزراعة وتنظيم الجيوش فليست تشريعاً لأنها من الخبرة الشخصية التي قال فيها "أنت أعلم بأمور دنياكم منا"
وما صدر منه باعتباره بشر كالقيام والقعود والشرب لا تعتبر تشريعاً فليست جزءاً من رسالته إلا ما سنه صلى الله عليه وسلم .
وكذلك الأفعال التى صدرت عنه ودل الدليل على أنها من خصائصه لا يشاركه فيها أحد كالزواج بأكثر من أربعة ودخوله مكة بغير إحرام والوصال فى الصوم لا يعتبر تشريعاً لأن ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه غيره.
وإذا كانت هناك الأحاديث القولية والفعلية والتقريرية فهناك أيضًا الحديث القدسى الموحى معناه دون لفظه وهذا هو الفرق بينه وبين القرآن إذ أن القرآن موحى بلفظه ومعناه وترتيبه فليس للنبى صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ وهو متواتر كله.
وأما الحديث القدسى ففيه الصحيح والضعيف والموضوع والمكذوب.
ومن هنا فإنه لابد من دراسة الحديث سنداً ومتناً ولقد وضع العلماء لدراسة كل منهما موازين ومقاييس تساعدهم على الوصول إلى أدق الأحكام وأصحها .
فمن العلوم التى استنبطوها لدراسة:
السند: 1-علم تاريخ الرواة 2-علم الجرح والتعديل 3-علم علل الحديث
المتن: 1-علم غريب الحديث ويبحث فى غريب الكلمات وألفاظه التى تخفى.
2-علم مختلف الحديث يبحث فى الحديثين اللذين ظاهرهما التعارض.
3-علم الناسخ والمنسوخ .
يقول الإمام ابن حزم : نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبى صلى الله عليه وسلم مع الاتصال أخص الله به المسلمين دون سائر الملل فقد حرص الصحابة والتابعون ومن بعدهم على أداء ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمانة وإخلاص وتحروا فى النقل حتى انتهى هذا إلى أئمة رجال الحديث ودونت السنة.
ويالها من دقة لم تسبق إليها أمة فقد وضع العلماء مع هذه العلوم شروطاً للصحة والحسن والضعف من حيث:
اتصال السند، العدالة،الضبط، عدم الشذوذ، عدم العلة.
وقالوا إذا ضعفت صفة من هذه الصفات أو فقدت صار الحديث ضعيفاً بل وقسموا الضعيف نفسه الذى لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح أو الحسن إلى أنواع :
المرسل، المنقطع، المعضل، المدلَّس، المضطرب، المقلوب، الشاذ، المنكر، المتروك، المعلل، وهكذا.
بل ورتبوا كتب الصحاح كما اتفق عليها العلماء كالآتى:
أولاً-ما اتفق عليه البخارى ومسلم .
ثانياً -ما انفرد به البخارى
ثالثاً – ما انفرد به مسلم
رابعاً-ما كان على شرطهما – وإن لم يخرجاه.
خامساً- ما كان على شرط البخارى
سادساً-ما كان على شرط مسلم
سابعاً – ما صححه غيرهما من الأئمة
وهكذا يتضح أهمية هذا المصدر من مصادر التشريع
خلاصة هامة:
إن من الآفات التى تتعرض لها السنة أن يقرأ بعض الناس المتعجلين حديثاً فيتوهم له معنى فى نفسه هو يفسره به وهو معنى غير مقبول عنده فيتسرع برد الحديث لاشتماله على هذا المعنى المرفوض ولو أنصف وتأمل وبحث لعلم أن معنى الحديث ليس كما فهم وأنه فرض عليه معنى من عنده لم يجيء له قرآن ولا سنة ولا ألزمت به لغة العرب ولا قال به عالم معتبر من قبله.
قرأ بعضهم الحديث الذى رواه ابن ماجه عن أبى سعيد الخدرى والطبرانى عن عبادة بن الصامت "اللهم أحينى مسكيناً وأمتنى مسكيناً واحشرنى فى زمرة المساكين" ففهم المسكنة الفقر من المال والحاجة إلى الناس وهذا ينافى استعاذة النبى صلى الله عليه وسلم من فتنة الفقر وقوله لعمرو بن العاص "نعم المال الصالح للمرء الصالح"، ولقد امتن الله عليه بالغنى فقال له (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) والمعنى هنا هو التواضع وخفض الجناح قال ابن الأثير أراد التواضع والإخبات وألا يكون من الجبارين المتكبرين.
وقرأ أحدهم الحديث الذى رواه أبو داود والحاكم غير واحد عن أبى هريرة مرفوعاً "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" ففهم من التجديد التطوير والتغيير بما يلائم الزمان بينما التجديد هو تجديد الفهم له والإيمان والعمل به بينما التجديد يعنى العودة به مرة أخرى حيث كان فى عهد الرسول وصحابته ومن تبعهم ، ومن الخطورة بمكان أيضًا أن تقرأ حديثاً وتقف عنده وتحاول فهمه بنفسك بينما المولى يقول : (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) فعدم سؤال أهل الذكر قد يؤدى بك إلى الشطط وأعطيكم مثال :السيدة عائشة رضى الله عنها قالت فى حديث :ما بال رسول صلى الله عليه وسلم واقفاً منذ أنزل عليه القرآن ،ومن حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال واقفاً فلا تصدقوه، ما سيكون الموقف إذا وقع هذا الحديث بين أيديكم ثم جاءك من يقول :جائز أن يبول الرجل واقفاً .بينما كلام السيدة عائشة ينهى عن ذلك بقول صريح :"ومن حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال واقفاً فلا تصدقوه" .
ونأتى لحذيفة رضي الله عنه يقول :أتيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوَضوء (الإناء الذى فيه ماء للوضوء)، فبال واقفاً ثم توضأ .
الحديث الأول صحيح والحديث الثانى متفق عليه، فالاثنان صحيحان.وللعلماء فيهما كلام وعلم.
أفرد الإمام ابن القيم باباً لهذين الحديثين تحت عنوان :تبول الرسول صلى الله عليه وسلم وقوفاً ،وجاء بحديث السيدة عائشة الذى قالت :ما بال رسول صلى الله عليه وسلم واقفاً منذ أنزل عليه القرآن ،ومن حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال واقفاً فلا تصدقوه ، وقال: "إن علماء الحديث يقولون :إذا كان هناك حديثين ظاهرهما التعارض (هذان الحديثان اللذان ظاهرهما التعارض ) فالتوفيق بينهما أولى .
فكيف وفق العلماء بين هذين الحديثين ؟
يقول ابن القيم : أسأل سؤالاً :من قال أن السيدة عائشة كانت قادرة ومقتدرة على إحصاء تبول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل مكان بال فيه ؟ فى بيته وفى خارج بيته ،فى أسفاره ،فى ترحاله ،فى كل مكان كيف تقول السيدة عائشة ومن حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال واقفاً فلا تصدقوه . فما هى القضية؟
قال :إن السيدة عائشة تحكى حال رسول الله فى بيته لأنها زوجته.
أما حذيفة فكان يصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلمفى أسفاره فى كل خطواته فهو يتحدث عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أسفاره، وبذلك وفق العلماء بين الحديثين واستنبطوا جواز التبول وقوفاً.
إن رد كل حديث يشكل علينا فهمه – وإن كان صحيحاً مجازفة لا يجترئ عليها الراسخون فى العلم ومن أجل ذلك ألف الإمام محمد بن قتيبة كتابه (تأويل مختلف الحديث) للرد على مثل هذه الزوابع.
إنه لا فقه بغير سنة ولا سنة بغير فقه وقوام الإسلام بركنيه كليهما من كتاب وسنة كما قال البنا رضوان الله عليه.
والفقه شيء غير حفظ النصوص وسرعة الاستشهاد بها ففهم الدين هو الأصل فى التدين وعليه يتوقف إنجازه ولذلك كان للفهم فقهه الخاص به، وقد أفاض الأصوليون فى بيانه وتبويبه وتنظيره حتى غدا منضبط القواعد ولما كان الدين محرراً فى أصول ثابتة هى القرآن والسنة، وكلاهما يختص بخصائص، ويتصف بصفات من حيث حملها لتعاليمه كما أن الدين غايته الفعل فى الواقع لإجرائه على ما يحقق المصلحة فإن ذلك يقتضى أن يكون فهم المراد الإلهى بأوامره ونواهيه مبنياً على أساسين:
أولهما : خصائص الأصول فى الدلالة على الأوامر والنواهى – وسيأتى تفصيل ذلك بإذن الله حين نتكلم عن الخلاف الفقهى .
ثانيهما: اعتبار الغاية التطبيقية فيهما.
وكلما اختل فى الفهم أحد هذين السببين أو كلاهما أدى ذلك إلى الخطأ فى إدراك المراد الإلهى من تعاليمه.
ولهذا فإن فهم الدين من أصله النصى ليس بالأمر الهين كما يظن بعض الناس ، بل هو أمر خطير الشأن وخاصة إذا لابسته ظروف من الضعف فى فقه اللغة العربية وقوانينها فى التعبير أو من الميل إلى التعسف فى استخراج المعانى من وعائها اللغوى وقد وقعت من ذلك نماذج كثيرة فى التاريخ الإسلامى.
والنص الدينى نفسه ورد يحمل من المعنى ما يناسب البشر جميعاً فى كل مكان وزمان باعتبار خاتمية الوحى فيه وهذا ما يجعل المجموع النصى يحمل من كنوز المعانى ما لا يستنفده فهماً جيل واحد من المسلمين بل يمكن أن يكتشف فيه كل جيل ما لم يكتشفه الذى قبله وذلك وجه من وجوه إعجازه كما أن لعملية الفهم علاقة بكسب العقل البشرى من العلوم والمعارف التى يكتسبها من خارج دائرة النص.
إذاً نحن نقصد بهذا الكتاب وهذه السنة المباركة المطهرة إلى أمرين ،المقصد الأول :إقامة أمة صالحة ،أى ماذا نريد؟ لا نريد دولة ،حكومة،هياكل ونظم ،نريد أمة صالحة ولا تصلح الأمة إلا إذا توفرت فيها أمور، فإذا كنا نريد أن نقيم الأمة يجب أن تتحقق فيها أمور أولها أن يكون لها رسالة من مبادئ وقيم ،لأن رسالة الإسلام رسالة تربية قبل أن تكون رسالة تنظيم وتشريع، رسالة قيم وأخلاق ومبادئ قبل أن تكون رسالة جهاد وقتال . ورسالة مبادئ يراها الغادى والرائح فى تطبيق عملى قبل أن تكون رسالة انتشار واتساع ،فيجب أن نضع فى اعتبارنا أن رسالتنا رسالة أخلاقية قبل كل شيء، نريد أن نبنى أمة متحابة مترابطة ذات رسالة وهذا هو المقصود الأول.
المقصد الثانى:أن تكون الأمة مُضحية،فادية لدينها تعمل ،تضحى بالغالى والنفيس (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ)
المقصد الثالث:أن يكون على رأس هذه الأمة حكومة صالحة، تقيم الدين، لذلك يقول تعالى (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) ، فمهمتنا إقامة الدين، ولذلك لابد أن تكون الحكومة صالحة خادمة للشعب ولا تشعر بالسيادة والفوقية، مصدر حكمها ربانى (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) إنها :
*ربانية وسطية فى اختيارها.
*إيجابية فى نظرتها للكون والإنسان والحياة.
*أخلاقية فى غايتها ووسائلها.
*واقعية حين تتعامل مع الفرد والمجتمع.
*شمولية فى منهاجها.
*عالمية فى دعوتها.
*شورية فى حكمهما.
*جهادية فى تربيتها.
هذه كلها خصائص تتميز بها دعوة الإسلام التي نعمل على تمكينها على الأرض واضعين نصب أعيننا المعانى الآتية:
أولاً- أن التمكين لدين الله لا يتم إلا بعد أن يسود فى المجتمع القيم والأخلاق والعادات والتقاليد الإسلامية.
ثانياً - أن التمكين لدين الله بهذا المعنى يكون شامل لجميع وحدات المجتمع ،نحن لسنا جماعة انتقائية ننتقى من المجتمع، بل نحن جماعة جهادية تريد أن تقيم شرع الله على الأرض فتبسطه للأبيض والأسود والأعجمى والعربى والسيد والمسود فى آن واحد ، توضحه لجميع شرائح المجتمع دون انتقاء طبقة أو مستوى دون آخر.
ثالثاً- أن التمكين لدين الله لا يتحقق فى الأمة قسراً ولا قهراً ، ولكن رغبةً وطواعية واختياراً واقتناعاً وإيماناً تستمر عليه طوال حياتك (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) .
رابعًا- أن استمرارية المنهج ودوامه لا يمكن أن يتحقق بحالة مؤقتة، لكن بالتخطيط البعيد والقريب مع استمرارية المنهج.
خامساً- أن التمكين لدين الله ليست قضية وطنية ولا قومية ولا قُطرية ولا محلية ،إنما هى عالمية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ومن هنا فنحن فى حاجة للارتقاء بالمجتمع كى يكون الإسلام مرجعاً يرجع إليه الفرد فى سلوكه واعتقاده وأفعاله، ثم نرتقى بالمجتمع كى يكون له مرجعية إسلامية يعود إليها فى صغير الأمر وكبيره.
كذلك فهمنا [3]
الأصل الثالث
مصادر ليست من أدلة الأحكام الشرعية
"وللإيمان الصادق، والعبادة الصحيحة، والمجاهدة نور وحلاوة يقذفها الله في قلب من يشاء من عباده ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه".
هذا الأصل يعالج :
1-الإيمان الصادق.
2-العبادة الصحيحة والمجاهدة.
3-المصادر التي ليست من أدلة الأحكام الشرعية كالإلهام والخواطر والكشف والرؤى.
هذا الأصل يضع أيدينا على أمرِ من الأهمية بمكان فليس الأمر أمر معارف فحسب فنحن عندما تكلمنا في الأصلين الأول والثانى كانا يشملان المعارف والعلوم ومصدر التلقي وتحديد للمفاهيم وهذا أمر ضرورى أوضحه قول الله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ثم يأتى بعد ذلك العمل (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) هذا أمر لا نشك فيه ولكن هذا الأمر لا يقف عند العلم والمعرفة، فقد قال تعالى في الكافرين (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) ، (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فليس الأمر أمر تحصيل علوم وتخزينها في العقل فحسب فلابد للإيمان من نبض قلبى وحركة شعورية ونور يملأ الفؤاد وهذا كله ثمرة المعارف والأقوال لأن في أحيان كثيرة لا يتعدى الأمر القول باللسان، فنحن نريد المفكر المسلم العملي الذي يضع ما يعتقده من فكر سليم موضع التنفيذ (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) مجرد قول باللسان (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) ونحن كمسلمين ومؤمنين لابد أن يتفاعل قلبنا بهذا الإيمان ويتأثر به، يقول تعالى (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) ولا يقول للناس حسنا إلا صاحب القلب السليم وصاحب المشاعر الفياضة الذي يربط القول بالعمل، وبالحركة التي يشترك فيها القلب النابض مع الجارحة الخاشعة.
ونحن نريد العبد المتبتل ، العبد القانت لله، الذي يقول (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) والذى مهما حصَّل من علوم فهي لتحقيق عبوديته لله رب العالمين، وقد تأثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن تأثراً عجيباً فكانت الآيات حياة لهم، يترجمونها واقعاً على الأرض، وها هو سيدنا عمر رضي الله عنه يقرأ قول الله (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِعٍ) فيصاب بالحمى ويمكث في بيته شهراً كاملاً يرتجف جسده كله، لأن العقيدة ما كانت في يوم من الأيام مجرد كلام يُقرأ
أو علم يحصل فحسب بل هي انفعال قلبى ووجدانى يشعر به المسلم وينفعل به.
ونحن لا تنقصنا العلوم المقروءة والنصوص المحفوظة ولكن ينقصنا هذا الجانب التعبدى لله سبحانه وتعالى تنقصنا الأيدى المتوضئة، العيون الدامعة، تنقصنا الوقفة بين يدى الله بتذلل (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فأين هؤلاء ؟ أين (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ)؟ حتى يحقق الله النصر على أيديهم، نحن ننتصر بضعفائنا، ننتصر بالسجَّد الرُكّع ،ننتصر بـ (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين) ننتصر بـ(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ َ) هذه هي أسباب النصر (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ثم يأتي بعد ذلك كله الأخذ بالأسباب المادية والعلمية.
ولذلك فإن هذا الأصل يتكلم عن هذا الجانب "الأثر الإيمانى"، أثر الإيمان في قلب المؤمن الذي يتحقق بالقرب إلى الله عبادة ومجاهدة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)
الإيمان والعبادة والمجاهدة : يتحقق الإيمان الصادق بصحة الاعتقاد وصدق الإتباع، والإيمان كما يعرفه الأستاذ الدكتور القرضاوى في كتابه "الإيمان" هو :" عمل نفسى يبلغ أغوار النفس ويحيط بحواسها كلها من إدراك، وإرادة، ووجدان، فلابد من إدراك ذهنى تنكشف به حقائق الوجود على ما هي في الواقع وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحى المعصوم ولابد أن يبلغ هذا الإدراك الجزم الموقن أو اليقين الجازم الذي لا يزلزله شك "( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) ولابد أن يصحب المعرفة الجازمة إذعان قلبى وانقياد إرادى يتمثل في الخضوع والطاعة والرضى والتسليم (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) .
والعبادة الصحيحة : تتحقق بإخلاص النية ومتابعة عمل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما المجاهدة : فمتعددة، فتجاهد النفس حتى تصبح نفسك مطمئنة، والهوى حتى يكون تبعاً لما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتجاهد الشيطان بطاعة الملك الذي يأمرك بأمر الله لتحقق التقوى.
وقد ورد في حديث مشهور أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهسأل أُبى بن كعب عن التقوى، ما التقوى ؟
قال: يا أمير المؤمنين أما سلكت طريقاً ذا شوك ؟ قال: بلى، قال: فما عملت ؟ قال شمرت واجتهدت ، قال فذلك التقوى. تشمير عن المعاصى واجتهاد في الطاعات.
ومن فضل الله على العباد أن أرسل الرسل وأنزل الكتب بل وأيد الإنسان بملك كريم في مقابل هذا الشيطان اللعين كلما أمره شيطانه بأمر، أمر الملك بأمر الله والإنسان على نفسه بصيرة كما جعل المولى له مقابل النفس الأمارة بالسوء نفساً مطمئنة تعده بالخير فضلاً عن أن المولى سبحانه وتعالى جعل له نوراً وبصيرة وعقلاً والعاقل من هدى إلى صراط مستقيم.
والعبد لابد له من أمر يفعله ونهى يجتنبه وقدر يصبر عليه وهو بين فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور يغزو الشيطان قلبه بسلاحين :
سلاح الشهوات ليفسد به سلوكه وعمله.
وسلاح الشبهات يفسد به فكره وتصوره واعتقاده.
ومن فضل الله عليه أن منحه ما يواجه به عدوه : سلاح الصبر يجاهد به الأهواء والشهوات وصلاح اليقين يجاهد به الشكوك والشبهات وصدق الله القائل (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
وتأملوا الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم أصحاب العيون الدامعة، الذين هانت عليهم الدنيا يقول أحدهم :"أبينى وبين الجنة تلك التمرات؟ والله إنها لحياة طويلة".
والصحابي الآخر الذي صدق مع الله، وجاء بالغنيمة التي هي حق له ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم : ما على هذا بايعتك، قال: علام إذاً ؟ قال على أن أُرمى بسهم هنا وسهم هنا، قال : إن تصدق الله يصدقك ، وبعد قليل يأتون به محمولاً على الأيدي لرسول الله فيقول صلى الله عليه وسلم:أهو هو ؟ قالوا: هو هو يا رسول الله قال :صدق الله فصدقه.
ولقد رأينا بفضل الله مثل هذا الصنف من الرجال –الذين يقتدون بهؤلاء- رأى العين في السجون والمعتقلات وما أدراك ما هي نار حامية، رأينا الأخ المتبتل للهسبحانه وتعالى الدامع العينين، الخاشع لله، الذليل أمامه، القائم، الصائم، الصابر على التعذيب وهو يقول أحد أحد والذي يضعونه في زنزانة فيها من الكلاب الضارية سبعة ينام معهم وبعد الليالي التي قضاها معهم يضحك معه أحد الأخوة ويقول :كيف قضيت لياليك؟ فيقول : نعم تدبير الله، هل هذا اختيارى ؟ هذا اختيار الله لى ،فنعم اختيار الله لى والله لقد بت ليالٍ آمنة مطمئنة كلها ذكر وتبتل لله أستعذب العذاب في سبيل الله.
ولا عجب في هذا فإن المولى سبحانه وتعالى جعل قلب الإنسان يشعر بالسعادة والشقاء كما تشعر الأبدان بالسقم والصحة لذلك يعرف الإمام ابن القيم السعادة بقوله: أطباق السعادة ثلاثة : إذا أُنعم عليه شكر، وإذا أًبتلى صبر، وإذا أذنب استغفر.
فقد يشقى الإنسان بالمال والجاه والسلطان، وقد يسعد مع الفقر وقلة المال، وقلة الولد، لكن لو امتلأ القلب بالإيمان، فإن الإيمان الصادق الذي يتحلى به المسلم هو الحياة الطيبة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) وهو النور الذي يمشى به المؤمن (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) وهو الروح التي يحيا بها (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) فهو يعيش مطمئن النفس مرتاح البال في جنة الدنيا بشكره وصبره واستغفاره فهل بعد هذه الجنة التي يعيشها في دنياه شقاء أو ضلال أو ضنك أو رهق ، صدق ربى القائل (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)
إن للإيمان الصادق حلاوة يتذوقها المؤمن الذي رضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، يتذوقها العبد القانت لربه الواقف بين يديه ركوعاً وسجوداً فيجد الحلاوة، وهذه الحلاوة ليست معنوية بل يكاد يلمسها حين يجد لها مذاقاً، وكيف لا يشعر بهذا المذاق من يقول : إياك نعبد وإياك نستعين فقد عبد الله بما يحبه ويرضاه فشكره وأحبه ومن تفضل الله عليه بهذ المذاق كان بعد موته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
إنك بهذا الإيمان الصادق دخلت جنة الدنيا فكيف تُحرم من جنة الآخرة؟ التي قال عنها الإمام ابن تيمية :"للمؤمن جنتان، جنة في الدنيا وجنة في الآخرة، حُرم جنة الآخرة من لم يدخل جنة الدنيا "
وجنة الدنيا ندخلها بالطاعة، بالإيمان، بالإخبات إلى الله، والخشية منه، بالركوع والسجود، بالاستغفار، بالتوبة النصوح، ولا يزال العبد يخرج من طاعة إلى طاعة، فإذا به يرزق الرضا والسكينة وطمأنينة النفس، وطهارة القلب، وسعادة الدنيا.
إنك تعيش بين الناس بهذا الإيمان تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك وتعطى من حرمك فيتقبل الله منه القبول الحسن وينادى : يا جبريل إنى أحب فلان فأحبه فينادى جبريل في ملائكة السماء: يا ملائكة الله إن الله يحب فلان فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم ينزل الله له القبول على الأرض مصداقاً لقوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) هذا في الدنيا، وأيضًا يتجلى فضل الله ورحمته على العبد حتى في ساعة الاحتضار تطمئنه الملائكة (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) فالإنسان الذي يذهب إلى مكان مجهول دائماً يهابه، والله سبحانه وتعالى يزيل عنه هذه المخاوف وهو ما زال في الغرغرة لم يمت تتنزل عليه الملائكة (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)، أى بشارة وأى اطمئنان نفس، وينزل القبر فتدافع عنه الصلاة، والصيام، والزكاة، وأعماله الصالحة، ويعيش في روضة من رياض الجنة في قبره إلى أن يلقى الله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ،وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ،وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ) وبعد ذلك؟ لكي تكمل فرحته بصحبة الجماعة التي كان يأتنس بها في دنياه يجتمع معها في أخراه ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) فأي راحة نفسية، وسعادة في الدنيا والآخرة وملائكة يستغفرون لك (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).
ولسائل الجنة وقاصدها نسوق إليه حديث يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اضمنوا لى ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة :اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم" تطهير للداخل والخارج، للباطن والظاهر فهل من عاقل يضع ذلك موضع التنفيذ ليسعد بالجنة يقول قتادة رضي الله عنه : "خلق الله الملائكة عقلاً بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقل، وخلق الإنسان عقل وشهوة، فمن سبقت شهوته عقله فهو مع البهائم، ومن سبق عقله شهوته فهو مع الملائكة".
عقل مرتب على طاعة الله سبحانه وتعالى ليحظى بنفسٍ مطمئنة يناديها ربها من علٍ (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ،ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) يقول ابن عباس نزلت وأبو بكر جالس مع رسول الله فقال يا رسول الله ما أحسن هذا ،فقال : "أما إنه سيقال لك يا أبا بكر ،سيقال لك هذا".
ولذلك كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلمالذى علمه أحد الصحابة: قل اللهم إنى أسألك نفساً بك مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك، يقول محمد بن عمرة وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو أن عبداً خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت في طاعة الله لحقره يوم القيامة ولود أنه رد إلى الدنيا كى ما يزداد من الأجر والثواب ".
التفكر:
يجب على المسلم أن يجعل لنفسه أوقاتاً يخلو فيها مع ربه يتفكر في خلق السماوات والأرض، وفى هذا الكون وقدرة الله سبحانه وتعالى القادرة فاجعل لنفسك وقتاً تخلو فيه مع ربك، فمن السنة إذا قام الإنسان من الليل فإنه يقلب وجهه في السماء ويقول (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ،الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فيكتسب السكينة والأمن والأمان.
فأي سعادة وأي حلاوة بهذا الإيمان وأي صلاح بال كما قال القرآن (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) فكيف لا يسعد المؤمن وهو الذي إذا أصابته سراء شكر وإذا أصابته ضراء صبر فكان خيراً له في كل الأحوال .
وقد دلنا الحكيم العليم الرؤوف الرحيم على سعادة الدنيا قبل الآخرة، بل والنصر الذي وعدنا به في الدنيا قبل الآخرة (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أين؟ (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ) ولكن هذا النصر مشروط (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)
إن هذه السعادة لا توهب إلا لمن أحبه الله من عباده لأنه سبحانه وتعالى يعطى الدنيا لمن أحب ولمن لا يحب، ولا يعطى الدين إلا لمن أحب فمن أعطاه الدين فقد أحبه.
ولك أن تسأل وكيف يحبنا الله حتى ننعم بهذه الحلاوة؟
(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وهكذا يتحدد للطريق معالمه فاسلك طريق رسول اللهصلى الله عليه وسلم يتحقق لك حب الله، والله تعالى إذا أحب عبدًا فتَّح له القلب فيتلقى به ما يرضي به ربه حتى يصبح ولياً من أولياء الله الذين قال الله فيهم في الحديث القدسى :" من عادى لى ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدى بشيء أحب إلى من أداء ما افترضته عليه وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها ولئن سألنى لأعطينه ولئن استعاذنى لأعيذنه "فهل بعد هذا يخاف الإنسان من بشر؟! (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ)
وينقل إلينا ابن تيمية ما قاله بعض السلف يقول: قال بعض السلف بصيرة المؤمن تنطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر فإذا جاء الأثر كان نوراً على نور فهو دائماً على بصيرة من ربه إن أقبلت عليه الدنيا قال (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) وإن أدبرت قال (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) فالمؤمنون دائماً يستبشرون بنعم الله وفضله وهم الذين استجابوا لله من بعد ان أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم.
علامات حب الله للعبد:
ربما يسأل سائل: ما هي دلائل هذا الحب، وكيف نعرف أن الله يحبنا؟
هناك كثير من الأمور التي إذا ظهرت في سلوك العبد دل ذلك على حب الله له منها:
1- يحبب الله إليه الإيمان ويزينه في قلبه مصداقاً لقوله تعالى (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) فكلما زاد حبك للإيمان كان هذا دليلاً على حب الله لك.
2- أن يجد حباً لكل عمل فيه طاعة وقربى إلى الله سبحانه وتعالى، كما يجد بغضاً لكل عمل يبغضه الله.
3-أن يوفق الله العبد أن يتبع الطاعة بطاعة أخرى، والحسنة بحسنة أخرى، فيستعمله الله في طاعته.
4- أن يؤلف الله بين قلب العبد وقلوب الصالحين، فإن الله تعالى إذا أحب عبداً حبب الصالحين فيه، يقول عيسى عليه السلام:"تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصى وتقربوا إلى الله بالتباعد عنهم والتمسوا رضا الله بسخطهم قالوا يا روح الله فمن نجالس؟ قال : جالسوا من تذكركم الله رؤيته ومن يزيد في إيمانكم كلامه ومن يرغبكم في الآخرة عمله".
ولذلك فإن قيمة الحياة يحصرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثلاثة أمور فيقول :لولا ثلاثة ما أحببت البقاء : لولا أن أحمل على جياد في سبيل الله ومكابدة الليل ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) .
وقد ردد ابنه عبد الله بن عمر نفس المعنى فقال : والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت مالى غلقاً غلقاً في سبيل الله، أموت يوم أموت وليس في قلبى حباً لأهل طاعته، ولا بغضًا لأهل معصيته ما نفعنى ذلك شيئًا .
ونحن عندما نحب بعضنا البعض ونجد هذه الألفة، نشعر بأن الله هو الذي غرس هذه المحبة والألفة في القلوب لأنه هو القائل (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).
5- أن يشعر العبد دائماً بأنه كلما وُفق إلى طاعة فإنه لم يوف شكر الله عليها فيزداد منها.
6- يوفقه الله سبحانه وتعالى إلى التوبة النصوح؛ لأن الله تعالى يعلم أن عباده يخطئون "لو لم تخطئوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يخطئون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم " والعبد عندما يذنب فإن حسن الصلة بينه وبين الله تجعله يشعر بالذنب الذي فعله وأن الله تواباً رحيماً وأنه غافر الذنب وقابل التوب، فإذا تاب فإنه يشعر بأن الله سبحانه وتعالىوفقه للتوبة من هذا الذنب.
7- زيادة العلم والفقه، فكلما زاد علمه وفقهه وعمله دل ذلك على حب الله له لأن "من أراد الله به خيراً فقهه في الدين ".
8- صلاح البال وطمأنينة النفس، يقول تعالى في سورة محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ).
9- الصبر على البلاء "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ".
10- اليقين بالله والقناعة بما في يدك وعدم التطلع إلى ما في يد الغير.
11-استعمال المولى للعبد في كل أمرٍ من أموره، وأن يوفق الله العبد إلى نية خالصة في كل عمل يقوم به (إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ُ).
وبذلك يصبج من الذين عناهم المولى في قوله (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ).
لا نعبد أشخاصاً:
والمسلم لكي يذوق طعم الإيمان يعمل لفكرة وعقيدة وتصور وليس لشخص أياً كان هذا الشخص "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت" ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) وهناك فرق كبير بين احترام العلماء وتقدير المجاهدين ورد الفضل لأهله، وبين عبادة الأشخاص وتقديسهم، فنحن نحترم علماءنا ولا نقدس إلا الله سبحانه وتعالى، ومن الأمانة أن نرد الفضل لأهله لأن من الأمانة أن ترد الفضل لأهله.
إن الإمام ابن القيم كان يكثر ذكر اسم شيخه في كتاباته فيقول في كثير من كتبه :"قال شيخنا" يقصد ابن تيمية فهل هو بذلك يقدسه؟!
ونحن لا نجامل أحداً على حساب ديننا أبدًا، وعلى يقين من أن الذي جاء به الإمام البنا هو الإسلام.
وليس معنى ما نقول أننا ننكر الولاية والكرامة بل نثبتها ولكننا نقول ما قاله الإمام البنا من أن الإلهام والخواطر والكشف والرؤيا ليست من أدلة الأحكام الشرعية ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه وهذا نفس ما قاله الإمام ابن تيمية قال : والرؤيا المحضة التي لا دليل يدل على صحتها لا يجوز أن يثبت بها شيء بالاتفاق : فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبى سبحانه وتعالى قال :"الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه،ورؤيا من الشيطان " ورضوان الله على عثمان بن عفان حين دخل عليه أنس بن مالك –وكان قد نظر إلى امرأة جميلة وهو في الطريق- فقال له عثمان رضى الله عنه : مالكم تدخلون علىَّ وأثر الزنا في وجوهكم، قال أنس: أوحىٌ بعد رسول الله؟ قال : لا ولكنها الفراسة ...وبالرغم من هذه الفراسة فإنه لا ينبني عليها حكم ولا هي مصدر من مصادر الأحكام، يقول ابن عباس رضي الله عنه: إن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القلب ووهناً في البدن ونقصاً في الرزق وبغضاً في قول الخلق.
شطحات ننكرها:
إذا كان معجزات الرسل نفسها حجة على من رآها، فماذا عن الكرامات إذا كنا لا نراها، نصدقها أو لا نصدقها لا شيء في ذلك، هناك كرامات؟ نعم توجد كرامات "يا سارية الجبل"، بل والصحابي الذي كان يمشى بالعصا وتضيء في الليلة الظلماء وفى ليلة من هذه الليالي وكانا رجلين يقول الصحابى:"فكسرها إلى قطعتين وأعطانى قطعة لأواصل الطريق فأنارت لى الطريق"..
إن هذه الفرق من الصوفية كانت موجودة ومنتشرة في مصر، وحذر الإمام البنا من شطحاتهم وسلوكها.
وهذه شطحات بعضهم: قال أحد الحكام لأحد رعاياه تعال واحضر النطع والسيف ، فقال : ما حدث؟ قال رأيت في المنام أنك تعرض عنى وتعطينى قفاك وعبَّرها معبرى أنك تضمر لى شراً وتظهر لى طاعة، فقال له: ما أنت بإبراهيم الخليل ولا معبرك بيوسف عليه السلام أفبهذه الرؤيا تقطع رقاب الرجال بتأويلها.
إن الرؤيا عند بعض الصوفية تعتبر من الأحكام والواقع أن الرؤيا لا يكون لها حكم إلا أن يراها نبى – كما رأى سيدنا إبراهيم رؤيا ذبح إسماعيل –أو يقرها نبى كما أقر النبى صلى الله عليه وسلم رؤيا الأذان أما غير ذلك فلا.
والمضحك المبكى أن بعضهم يقول "حدثنى قلبى عن ربى"، ويقول أحدهم: "إن على كل قدم نبى من الأنبياء ولىٌ من أولياء الله وأن في الأرض سبعة أبدال، ونقباء، ونجباء، وكلما مات رجلٌ أقام الله سبحانه وتعالى عوضه رجلاً ولا تزال الوراثة دائمة في علم الباطن إلى قيام الساعة".
بل وصل الأمر أن بعضهم يقول :"أنتم تأخذون كلامكم عن ميت عن ميت -يقصد الصحابة-، أما نحن فنأخذ من الحى الذي لا يموت مباشرة"، ويقول آخر:"صح عندنا كشفا ًولم يصح عندنا سنداً" ويذكرنى ذلك ما كان يحدث في السجن حين كان الأخوة يرون رؤى كثيرة ويصبح الأخ وقد أولها مستبشراً منتظراً فرج الله عليه فلما كثرت الرؤى وكثر المؤولون لها أطلق الإخوان على كثرة الرؤى وأخبارها "وكالة أبشروا" .
وبعد ذلك كله فإننا نتساءل : هل قال الإمام البنا ما قاله هؤلاء من الصوفية أو أقرهم على قولهم أم خالفهم وبيَّن خطأ بعضهم وبيَّن موقفه من الصوفية ذاتها.
فما هي الصوفية حتى يتبين لنا حقيقة ما قال؟
بالنسبة للمصطلح قالوا:
إنها من لبس الصوف: وعلى هذا فنحن نتساءل هل الأحق بالولاية لابس الصوف؟ لقد تهكم أحدهم فقال: لو كان التقى بالصوف لطار الخروف.
أما الإمام ابن تيمية فيقول: إنها أول ما ظهرت في البصرة على يد بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد وهو من أصحاب أبى الحسن البصرى ورجح ابن تيمية هذه التسمية من لبس الصوف زهداً.
وقال آخرون هي نسبة إلى أهل الصفَّة لاتصافهم بالمحامد أو أنه من الصفاء لصفاء قلوبهم وطهارتها.
وأهل الصفة : هم قوم عبدوا الله حق عبادته واتقوا الله حق تقاته وجاهدوا في الله حق جهاده وأذاعوا علماً وفضلاً كانوا إذا ضرب أمر وجد جد، وعدا على المسلمين عاد خرجوا للجهاد باذلين أرواحهم في سبيل الله فلم يكونوا كفقراء التكايا يأكلون ويشربون ويصلون وينامون ولم يكونوا أهل دعة وتكفف فكانوا زهاء أربعمائه من فضلاء العباد والزهاد انقطعوا للذكر والتبتل في مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يكونوا من القاعدين عن نصرة الحق والإسلام في يوم من الأيام، فأنت ترى أن المصطلح اختلف أصلاً كما اختلف في النظر إليهم.
فهل يجوز استخدام المصطلح؟
إن استخدام المصطلح جائز شرعاً حين يقصد به الجانب الإيجابى والمفيد للمسلمين وأنت تقرأ قول الله تعالى (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ...) وذكرها المولى هنا في مجال الذم إلا أننا نرى رسول الله استخدمها في مجال يعود على المسلمين بالنفع حيث قال "ورهبانية أمتى الجهاد" فأخذ الجانب الإيجابى فيها.
فالقرآن ذم الرهبانية والرسول استخدم الكلمة فيما يفيد المسلمين تربية:
وفى الحديث الثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم" بينما القرآن يقول (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ...) والنبى صلى الله عليه وسلم أخذ الجانب الإيجابى فيه: التعليم والتوجيه والتربية، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يقال فيه صلى الله عليه وسلم أنه أبو المؤمنين وإن كان يقال في أزواجه أمهات المؤمنين فيقال هو مثل الأب أو كالأب أو بمنزلة أبينا ولا يقال هو أبونا أو والدنا .
روى أن رجلين قدما على رسول الله فخطب أحدهما فعجب الناس من فصاحته وبلاغته فقال الرسول : "إن من البيان لسحرا". فإن قيل : كيف سمى النبى صلى الله عليه وسلم روعة البيان سحراً مع أن السحر مذموم عقلاً ونقلاً؟
فالجواب أن هذا على المجاز لا على الحقيقة فالخطيب يستميل القلوب بحسن بيانه وروعة أدائه وجمال تعبيره كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إليه بخفته ورشاقته وتمويهه على الحاضرين فمن هذا الوجه سمى البيان سحراً، إذاً فمن الجائز شرعاً أن نستخدم الجانب الإيجابى في المصطلح.
أفلا يجوز من باب المجاز أن يستخدم الإمام البنا مصطلح "حقيقة صوفية" في بعض أوصاف جماعته؟
لقد كان الإمام البنا ابناً فقيهاً لوالد فقيه، وكان من بيت فقه وعلم فضلاً عن أنه كان نابغة وملهم، وكل كلمة يقولها الإمام البنا لها مرمى ومغزى ومحكومة بالفقه، فعندما قال "حقيقة صوفية" كان يعنى ما يقول ولا ندري لماذا هذا الهجوم الضاري عليه؟
إن للنقد آداباً وإنصاف العلماء أمر مطلوب ومرغوب فهم إن أصابوا لهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجرهم فحسن الظن بهم مقدم واسمع إلى أدب الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوى وهو يعلمنا كيف يكون موقفنا من العلماء إن قالوا غير ما نعتقد يقول عن الشيخ محمد عبده "وقد أُخذ على الشيخ محمد عبده بعض فتاواه وبعض آرائه في تأويل القرآن كقوله في قصة آدم وكلامه عن الطير الأبابيل ونحو ذلك وعذره أن الحضارة الغربية كانت في أوجها وكان الانبهار بها على أشده لذلك غلبت النزعة العقلية ومحاولة إخضاع النص حتى يوافق المفاهيم الجديدة .
ومن الإنصاف لمن يريد تقويم شخص ما وتقدير فكره وعمله أن يضعه في إطاره التاريخي لا يعدو به زمانه ومكانه إلى زماننا نحن ومكاننا فبعض ما يبدو لنا اليوم واضحاً مسلماً لم يكن كذلك في زمنه فرحم الله امرئ أنصف من نفسه وأعطى كل عامل ما يستحقه وأقام الشهادة لله"
انطباع خاطئ:
عند بعض الناس انطباع عجيب إذا ذكر التصوف فهو عندهم صور شائهة لحلقات الذكر المليئة بالبدع والمنكرات والخرافات فإذا ذُكر التصوف فهو التصوف الفلسفى الذي تقل عن الهنود واليونان الأقدمين، وانطباعه عن الصوفية دائماً أنها عقائد وحدة الوجود والحلول وشطحات المنحرفين والمخربين منهم كالحلاج وابن عربى والفارابى وغيرهم ونحن لا نختلف في انحرافهم كيف لا وقد وصل بهم الأمر إلى تفسير بعض آيات القرآن بهذا الأسلوب المنكر يقول بعضهم في قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً...) قالوا هي النفس أمرنا بقتال من يلينا لأن النفس أقرب الشر إلى الإنسان نفسه، وهم بهذا يسقطون فريضة الجهاد.
وفى قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) يقولون نوح هو العقل ويعتقدون أن الله تعالى يلقى إليهم كلاماً ينتفعون به حتى أن ابن الصلاح يقول : إن الإمام أبا الحسن الواحدى المفسر رحمه الله قال إن كان قد اعتقد أن ذلك من التفسير فقد كفر، وإن كان غير ذلك فقد سلك مسالك الباطنية وهذا فيه من الإبهام والالتباس ما فيه .
يقول بعضهم : (خاتم النبيين) يعنى زينة النبيين، وجاءت من الخاتم الذي يلبس للزينة، ويقولون ما الذي يمنع أن يأتى نبى ورسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم ونسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"وأنا خاتم الأنبياء، ولا نبى بعدى".
وهذا لا يختلف فيه مسلم أنه من المناكير التي يجب محاربتها.
ولكن يبقى سؤال هل كل الصوفية على هذا المنوال وهذا الانحراف وهل كلهم يتمايلون ذات اليمين وذات اليسار في حلقات منكرة وأقوال منكرة وأفعال منكرة؟
رأى علماء أهل السنة في الصوفية:
يقول ابن تيمية: قد انتسب إلى الصوفية طوائف من أهل البدع والزندقة، كالحلاج وابن عربى .
ثم يقسم موقف العلماء منهم إلى :
طائفة ذمتهم وقالوا مبتدعون خارجون على أهل السنة .
وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء.
ثم يقول رأيه في الصوفية : إنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعات ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين ومنهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب.
ويقول: وهذا من باب قد تنازع فيه يقول هذا: أنا حنبلى ويقول هذا أنا أشعرى وقد أحضرت كتب الأشعرى وكتب أكابر أصحابه مثل كتب أبى بكر الباقلانى وأحضرت أيضًا من نقل من مذاهب السلف من المالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث وشيوخ الصوفية وأنهم جميعاً متفقون على اعتقاد واحد.
ولنا وقفة:
إن التصوف الفلسفى والذى قارب من الرهبانية البوذية والنصرانية وحارب الجسد واستدار عن عمارة الدنيا وكوَّن أجيالاً من الكسالى القاعدين المنسحبين وكذلك التصوف الذي يدعو لتشييد القبور في المساجد ليطاف بها ويحتفى بأصحابها في موالد ينكرها كل عاقل لما يفعل فيها.
إن هذا التصوف نرفضه وننكره بقواعد الإنكار المعروف ابتداءًا ولكن هناك تصوف المجاهدين كعبد الله بن المبارك أو شفيق البلخى هذا التصوف الذي نبت في أكناف الإيمان والإسلام والإحسان وأتم بالعبودية الحقة والحس الرقيق الذي يقول فيه إن سجنى لخلوة وإن نفيى لسياحة وإن موتى لشهادة.
يقول ابن عطاء السكندرى: شكوت همومى وأحزانى إلى العباس المرسى فقال لى: أحوال العبد أربعة لا خامس لها : النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.
فإن كنت في النعمة فمقتضى الحق منك الشكر.
وإن كنت في البلية فمقتضى الحق منك الصبر.
وإن كنت في الطاعة فمقتضى الحق منك شهود منته عليك.
وإن كنت في المعصية فمقتضى الحق منك وجوب الاستغفار.
يقول ابن عطاء السكندرى: فقمت من عنده وكأنما كانت الهموم والأحزان ثوبا نزعته.
وهذا الإمام جعفر الصادق يقول إذا سمعت المولى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) فاصغ إليه فإنما هو أمر أو نهى، ويقول وإجابة ذلك على الحقيقة ثلاثة :تصديقه، والعمل به، وإرادة وجهه بالعمل به ،واعلم أن أصل كل معصية وشهوة وغفلة :الرضا عن النفس، وعلامة ذلك هي رؤية الحق لنفسه، والشفقة عليها، والإغضاء عن عيوبها، وأصل كل طاعة وعفة ويقظة عدم الرضا منك عنها وعلامة ذلك اتهامها والحذر من آفاتها وحملها على المكاره في عموم أوقاتها.
ويقول ابن عطاء السكندرى عن سهل بن عبد الله التسترى: احذر صحبة ثلاثة من أصناف الناس: القراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين، والجبابرة الغافلين.
ويقول :كن طالباً للاستقامة، ولا تكن طالباً للكرامة، فإن نفسك تهزك لطلب الكرامة ومولاك يطالبك بالاستقامة ولئن تكون بحق ربك أولى من أن تكون بحظ نفسك.
ويقول عمى البصيرة ثلاثة : إرسال الجوارح في معاصى الله، والطمع في خلق الله والتصنع بطاعة الله.
وسُئل أحد الصوفية: بم أدركت ما أدركت؟ قال وجدته بأفضل التوحيد، وخدمته خدمة العبيد، وأطعته فيما أمرنى ونهانى فكلما سألته أعطانى.
ويقول آخر: اليقين نور يجعله الله في قلب المؤمن حتى يشاهد به أمور آخرته ويخرق به كل حجاب بينه وبينها حتى يطالع الآخرة كالمشاهد لها.
ويقول آخر: من علامات الاكتفاء بالله ثلاثة: الرضا عن الله، والاهتمام بأمره، وعدم الالتفات لغيره.
هذا تصوف يؤدى إلى التكاليف برضى نفس رحب، ويترك المعاصى باستغناء واستعلاء ويتذوق الإيمان فينقله من التعريف إلى الإحساس القلبى لأن العالم الذي لا قلب له كالشجرة التي لا ظل لها ولا ثمر فالدين عقل وقلب وهنا نرى علماء جمعوا بين العقل والقلب ألا ترى ابن القيم حين يتكلم في مدارج السالكين كم يخفق قلبك أو تدمع عيناك أو يقشعر جسدك وكأنك ترى الجنة رأى عين أو أبا حامد الغزالى وهو يكشف لك اعوجاج أرسطو في فكره وأفلاطون في نظره وابن الجوزى وابن عطاء السكندرى والجنيد الذي قال فيه ابن تيمية وكان الجنيد رضى الله عنه سيد الطائفة وإمام هدى ومن أحسنهم تعليماً وتأديباً وتقويماً وأثنى عليه ابن القيم في مدارج السالكين وأبو الحسن الشاذلى وغيرهم الكثير.
ماذا تقول عن تصوف أهل العلم والاستقامة كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبى سليمان الدارانى وسهل بن عبد الله التسترى الذين ضبطوا التصوف بضوابط الشريعة فقدموا لنا دراسة عن البواعث النفسية وفرضوا رقابة صارمة على بواعث العمل حتى تصفو النية وعلمونا كيفية التمرس بمقام الإحسان وطول البقاء في نطاق أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فإذا وهم يتتبعون آيات الله في الأنفس والآفاق ومحاولة تدارس الحاضر والماضى والارتقاء على مستوى الكتاب والسنة ليحققوا الشخصية الإسلامية التي افتقدناها .
أبعد هذا يرفض التصوف بالكلية ؟ ليس من النصفة في شيء فإن التعميم في الأحكام ليس بمنهج علمى.
واسمع إلى أحد تلاميذ الإمام البنا يقول:
الأصل في الصوفية أخذ النفوس بأسلوب يطهرها من أدرانها ويزكيها ويصقلها فيرقى بها إلى مدارج الكمال الإنسانى وهو أسلوب من أساليب التربية ونحن الإخوان المسلمين نعتبر التربية الروحية أساس دعوتنا لتكوين الفرد...
ثم يقول: وليس معنى هذا أن ينقطع المسلم لهذا الأسلوب وينعزل عن المجتمع ولا يتخذ هذا الأسلوب للارتزاق وجمع المال والتسلط على الناس وكسب الصيت والسمعة فللأسف الشديد أن بعض مشايخ الطرق انحرفوا بأتباعهم عن الطريق الصحيح وانعزلوا عن المجتمع ولما أحسوا بتيار الإخوان المسلمين الحركى يجذب بعضهم بعد أن عرضت عليهم فكرة الشمول أعلنوا الحرب على الجماعة خاصة في الريف، أليس هذا الفهم من أستاذه الذي عايشه وفهم منه؟
وإن تعجب فعجب قولهم أن الإخوان المسلمين صوفيون مبتدعون بينما الرجل –كما رأيت- إنه يبين أن الصوفيين الذين انحرفوا حاربوا الجماعة فبالأمس كان يحاربنا الصوفيون المنحرفون لانحرافنا عن الفهم السليم واليوم نُحارب لأننا صوفيون مبتدعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
الحقيقة التي ندين بها:
من هنا فإننا لا نرفض الصوفية بالكلية وكيف نرفضها بالكلية وهم الذين نشروا الإسلام في أفريقيا ورفعوا راية الجهاد في بلادهم: السنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان، بل وفى الجزائر وتونس ومراكش وغير ذلك من بلاد المسلمين فضلاً عن أفاضل علمائهم الذين أشرت إليهم.
كما أن الحكم الدقيق في هذه المسألة: أن منهم العالم التقى الورع المجاهد ومنهم الجاهل بدينه ومنهم الكاذب المشعوذ وقد تجد ذلك في غيرهم من الجماعات ..فهل أخطأ الإمام البنا حين قال عن دعوة الإخوان أنها"حقيقة صوفية" أحسب أنه أصاب والله أعلم.
"فاللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم.