قدوة القيادة في الإسلام 36
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة السادسة والثلاثون:
تواضُع القائد لجنوده ، ومساواتُه بهم
د. فوّاز القاسم / سوريا
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شديد التواضع لأصحابه ، مساوياً لهم في كل شيء ، حتى إن الذي لا يعرفه من قبل ، كان لا يستطيع أن يميّزه عن أصحابه .
فقد كان يلبس مما يلبسون ، ويجلس حيث ينتهي به المجلس ، ويرفض أن يقوموا له ويعظِّموه كما تفعل الأعاجم بملوكها .
ولقد رؤي يوم الهجرة ، فما استطاع الأنصار تفريقه عن صحبه ، حتى رأوا أبأ بكر رضي الله عنه ، يظلّله فوق رأسه من حرِّ الشمس.
روى البخاري في صحيحه ، وهو يحدث عن لحظة وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة ، قال : فقام أبو بكر رضي الله عنه للناس ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله من قبل ، يحيّي أبا بكر ، حتى أصابت الشمسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل أبو بكر ، رضي الله عنه ، حتى ظلل عليه بردائه ، فعرف الناسُ رسولَ الله عند ذلك .!!! غضبان ( 202 )
ولطالما دخل الغريب الزائر على مجلسه ، فقال : أيكم محمداً .!؟
ولقد يستطيع بعض القادة أن يتصنَّعوا من المواقف ، ما يظهرون بها بمظهر المتواضع أمام الناس لبعض الوقت .!
أما أن يكون ذلك خُلقهم ، وفطرتهم ، وسلوكهم ، فهذا ما لم يحصل في التاريخ ، إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن اهتدى بهديه ، وسار على نهجه ، واقتدى بسنته ، وتخلق بأخلاقه .
قال ابن إسحاق : حدثني حَبَّان بن واسع بن حبَّان ، عن أشياخ من قومه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر ، وفي يده قَدْح ( سهم ) يعدّل به القوم ، فمرَّ بسوَّاد بن غزية ، حليف بني عدي بن النجار ، وهو مستنتل من الصف ، فطعن في بطنه بالقَدْح ، وقال : استو يا سوّاد ، فقال : يا رسول الله أوجعتني ، وقد بعثك الله بالحق والعدل ، فأقدني منك .!
فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه ، وقال : استقد .!!!
قال : فاعتنقه ، فقبَّل بطنه ؛ فقال : ما حملك على هذا يا سوّاد .!؟
قال : يا رسول الله ، لقد حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر عهدي بك أن يمسَّ جلدي جلدَك .!!!
فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير ، وقال له خيراً …
وقال أيضاً يحدث عن فتح خيبر ، ومشاركة نساء من المسلمين فيه :
حدثني سليمان بن سُحَيم ، عن أُمية بن أبي الصلت ، عن امرأة من بني غفار ، قد سمَّاها لي ، قالت : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في نسوة من بني غفار ، فقلنا : يا رسول الله ، قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا ، وهو يسير إلى خيبر ، فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا ؛ فقال : على بركة الله .
قالت : فخرجنا معه ، وكنت جارية حَدَثة ، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على حقيبة رحله . قالت : فوالله لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح وأناخ ، ونزلت عن حقيبة رحله ، وإذا بها دمٌ مني ، وكانت أول حيضة حِضتها ، قالت : فتقبضت إلى الناقة ، واستحييت ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما بي ، ورأى الدم ، قال : ما لك !؟ لعلك نُفِستِ .!؟ قالت : قلت : نعم.
قال : فأصلحي من نفسك ، ثم خذي إناءً من ماء ، فاطرحي فيه ملحاً، ثم اغسلي به ما أصاب الحقيبة من الدم ، ثم عودي لمركبك .
قالت : فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، رضَخَ لنا من الفيء ، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عُنُقي ، فأعطانيها ، وعلَّقها بيده في عُنُقي ، فو الله لا تفارقني أبداً . قالت : فكانت في عنقها حتى ماتت ، ثم أوصت أن تدفن معها .!!! هشام 2 (343)
وقال ابن إسحاق أيضاً يصور لقطة من سيرة أمير الأنبياء ، وسيد البشرية ، مع الراعي الأسود : فاقرؤوا أيها القادة ، وتعلموا أيها الدعاة ، واقتدوا أيها المسلمون .!
قال : وكان من حديث الراعي الأسود ، فيما بلغني ، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو محاصر لبعض حصون خيبر ، ومعه غنم له ، كان فيها أجيراً لرجل من يهود ، فقال : يا رسول الله ، أعرض عليَّ الإسلام ، فعرضه عليه ، وكان لا يحقر أحداً أن يدعوه إلى الإسلام ، ويعرضه عليه ، فلما أسلم قال : يا رسول الله ، إني كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم ، وهي أمانة عندي ، فكيف أصنع بها؟
قال : اضرب في وجوهها ، وهي ترجع إلى ربها بإذن الله ، ففعل .
ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين ، فأصابه حجر فقتله ، ولم يركع لله قط ، فأُتيَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أعرض عنه ، فقالوا : يا رسول الله ، لمَ أعرضت عنه !؟ قال : إن معه الآن زوجتيه من الحور العين .!!! هشام 2 (345)
ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وجعلت الأصنام تتهاوى تحت أقدامه ، وجعل الأبطال والشجعان يرتجفون بين يديه ، جاءه أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، بوالده أبي قحافةَ ، رجاء أن يسلم بين يديه . فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكأنَّ رأسه ثَغامة ( نوع من النبات شديد البياض ) من الكِبَر ، أتدرون أيها المسلمون ، وأيها القادة ، ماذا قال هذا العظيم الفاتح .!؟
قال : (( يا أبا بكر ، هلا تركت الشيخ في بيته ، حتى أكون أنا الذي آتيه فيه )) .!؟ فقال التلميذ النجيب ، الذي شهد الله بصدقه وتصديقه من فوق سبع طباق ، وقد انتابته رعشة ، وسرت في جسده قشعريرة: يا رسول الله ، بل هو أحق أن يمشي إليك ، من أن تمشي إليه .!!! هشام 2 (406)
يــا للعظمة .!! ويــا للروعة .!!! ويا لألق التاريخ ...!!!
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعمِّم أصحابه بنفسه ، وذلك حباً بهم ، وتواضعاً لهم .
قال ابن إسحاق : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عبد الرحمن بن عوف ، أن يتجهَّز لسريّة بعثه عليها ، فأصبح وقد اعتمَّ بعمامة من كرابيس (قطن) سوداء ، فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، ثم نقضها ، ثم عمَّمه بها ، وأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحواً من ذلك ، ثم قال : هكذا يابن عوف فاعتمّ ، فإنه أحسن وأعرف. هشام 2 (632)
ولا بأس أن نختم هذه الفقرة بشهادة واحد من أكابر العرب ، الذين طالما غشَوا مجالس الملوك ، وخبروا عن قرب سيرة القادة والحكّام ، وطبيعة علاقاتهم مع جنودهم وأتباعهم .
إنه عديّ بن حاتم الطائي ، وأبوه واحد من أعز رجالات العرب وأكرمهم .
قال ابن إسحاق يلخص قصة قدوم عديٍّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليعلن إسلامه : قال : فخرجت حتى أقدم على رسول الله المدينة ، فدخلت عليه ، وهو في مسجده ، فقال : من الرجل .؟
فقلت : عدي بن حاتم ، فقام رسول الله ، فانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامدٌ بي إليه ، إذ لقيته امرأةٌ ضعيفةٌ كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلاً تكلِّمه في حاجتها ؛ قال : قلتُ في نفسي : والله ما هذا بملِك ؛ قال : ثم مضى بي حتى إذا دخل بي بيته ، تناول وسادة من أدم محشوّة ليفاً ، فقذفها إليّ ، فقال : اجلس على هذه ، قال : قلت : بل أنت فاجلس عليها ، فقال : بل أنت .!
قال : فجلست عليها ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض ، قال : قلت في نفسي : والله ، ما هذا بأمر ملِك ، ثمّ أتمّ القصّة التي انتهت بإسلامه رضي الله عنه .!!!
نعم والله ، ما هو بأمر ملك ، ولكنه أمر معلِّم الملوك ، وقائد الدعاة ، وقدوة القادة ، فهل نقتدي به ، ونحييَ سنته ، ونسير على نهجه .!؟