من أسباب النصر

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)} (الأنفال).

لقد أنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمة من سورة الأنفال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  في الظروف والأحوال المصاحبة لغزوة بدر الكبرى التي أعزّ الله فيها دينه، ونصر رسوله وأولياءه.

وقد أكّدت هذه الآيات أن القوة المعنوية للمقاتلين سبب من أهم الأسباب لبلوغ النصر والظفر.

والتأكيد على هذا المعنى يتناسب مع الآيات السابقة حيث أشارت إلى خشية المؤمنين من كثرة عدد الكفار وقوة عدتهم، وذلك في قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)} (الأنفال).

وقد جاءت هذه الآيات لتبيِّن أسباب النصر ليأخذ بها المسلمون، ويحققوها في حياتهم واقعاً ومنهج حياة. ونلاحظ أن الخطاب في الآيات جاء بوصف الإيمان في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. } وفي هذا مزيد تكريم للمخاطبين، ومزيد اهتمام بالأمر المخاطب به. وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: "إذا سمعت الله تعالى يقول: يا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. } فارعها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه".

وقد ذكر المفسرون أن المراد بهذه الفئة في قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} إنما هي الفئة الكافرة، وعدم وصفها بالكفر هنا، لأن ذلك أمر معلوم من الدين بالضرورة، لأن من شأن المسلم ألا يقاتل إلا الكافر. وتشمل هذه الفئة كذلك الفئة الباغية الخارجة عن الجماعة، ويؤيد المعنى اللغوي لكلمة "فئة" هذا الوجه، لأن أصل كلمة فئة هي الجماعة المنقطعة عن غيرها، وذلك من قولهم: فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته.

فهذه الآية أصل في قتال الكفار، كما هي أصل في قتال البغاة المارقين الخارجين عن جماعة المسلمين.

وأول هذه الأسباب المحققة للنصر بإذن الله، هو الثبات عند اللقاء، والثبات وإن كان مطلوباً على كل حال، فإن تخصيصه بوقت اللقاء آكد، لأن الإنسان قد يدعي البطولة والإقدام في وقت السعة والدعة، ولكن مثل هذا الإدعاء ينكشف عند لقاء العدو ومقارعة السيوف وتطاير الأشلاء.

والأمر بالثبات في هذه الآية لا يتنافى مع الرخصة التي سبق ذكرها في السورة في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} (الأنفال).

وكذلك ما جاء في قوله تعالى : {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)} (الأنفال).

فالرخصة يعمل بها حال الضرورة، والثبات مأمور به حال السعة، وحال تعرض ديار المسلمين للخطر الداهم. ونلاحظ أن الأمر بالثبات ورد أيضاً بصيغة النهي عن الفرار في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)} (الأنفال).

وذلك للتأكيد على وجوب الالتزام به والقيام بشأنه، حيث التقى أسلوب النهي عن الفرار مع الأمر بالثبات فكان في ذلك مزيد عناية بشأنه.

وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس، قام فيهم فقال: "يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم".

والسبب الثاني من أسباب النصر هو ذكر الله عزّ وجلّ، والمراد من الذكر أولاً استشعار عظمة الله، وذكر ما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين، وما عاهدوا الله عليه.

وحكم هذا الذكر أن يكون خفياً لأن رفع الصوت من الواحد في مواطن القتال مكروه، أما إذا كان من الجميع عند الحملة فحسن، لأنه يفت في عضد العدو.

فقد أخرج أبو داود عن قيس بن عبّاد قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرهون الصوت عند القتال. وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم مرفوعاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يحب الصمت عند ثلاث : عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة".

وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله، فإن صخبوا وصاحوا فعليكم بالصمت".

والأمر بذكر الله تعالى في هذا الموطن، يبين أهمية الذكر في المواطن كلها. فقد روي عن محمد بن كعب القرظي قوله: "لو رُخّص لأحد في ترك الذكر، لرُخّص لزكريا بقوله تعالى :{.. إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا .. (41)} (آل عمران)، ولرُخّص للرجل في الحرب، وتلا هذه الآية: {.. إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا .. (45)} (الأنفال).

والسبب الثالث من أسباب النصر طاعة الله ورسوله، وطاعة الله تعالى تكون بتحكيم كتابه، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته تكون باتباع سنته، وتتحقق هذه الطاعة بطاعة ولي الأمر الملتزم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

فإذا أقام الإمام شرع الله في الرعية، فيجب عليهم طاعته، لأن الخروج عليه من أعظم الكبائر، لأنه يؤدي إلى التنازع والفرقة وذهاب قوة المسلمين وهيبتهم. وطاعة ولي الأمر مؤكدة في كل حال، في السلم والحرب، ولكنها وقت اللقاء آكد وأعظم، لأن بعض النفوس تضعف وتبحث عن أسباب لخروجها من القتال، والمقام لا يسمح بأدنى خلاف، لأن كل اختلاف في الصف بين المسلمين حال الحرب خاصة تكون عواقبه مدمرة وآثاره خطيرة على الأمة كلها.

وقد نبهنا الله تعالى إلى ذلك بقوله: {..ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحُكم..} (الأنفال-46) وهذا هو السبب الرابع من أسباب النصر.

والمراد بالريح في الآية القوة والدولة، وقيل هي الريح على حقيقتها. ومما يؤكد ذلك قوله: "ونُصِرْتُ بالصَبَا وأُهلِكَتْ عاد بالدبور".

والصَبَا ريح لطيفة تهب من جهة الشرق تؤذن بنصر الله عز وجل، والدبور ريح تهب من جهة الغرب. وختمت الآيات الكريمة بالأمر بالصبر في قوله تعالى: {..واصبروا إن الله مع الصابرين} (الأنفال-46) وإذا كان الله مع الصابرين فلا يضرهم من خالفهم.

والصبر نصف الإيمان، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر" وإذا كان الصبر مشروعاً في المواطن والأحوال كلها. فهو في ميدان الجهاد أوجب وآكد، وكما قال العلماء من قبل: النصر صبر ساعة.

وصدق الله العظيم: {..إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالايرجون..} (النساء-104).

فلنحرص على الأخذ والالتزام بهذه الأسباب، ليتحقق لنا النصر بإذنه تعالى.

وإذا كانت هذه الأسباب هي التي أمرنا سبحانه وتعالى بالأخذ بها، فإنه نهانا عن أسباب أخرى تكون سبباً في الهزيمة والخذلان، في قوله تعالى: {ولاتكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصُدُّون عن سبيل اللّه..} (الأنفال-47) فكفار قريش خرجوا إلى بدر وقد علموا بنجاة القافلة التي كان يقودها أبو سفيان، ولكن أبا جهل قال: والله لنرد بدراً فنشرب الخمور وننحر الجزور وتعزف القيان، فلا يزال العرب يسمعون بنا فيهابوننا أبداً.. فلم يكن القتال للدفاع عن عقيدة أو مبدأ وإنما كان كِبْراً وفخراً ورياء، ولم يكتفوا بذلك بل إنهم ليصدون عن الحق ويحاربون أهل الإيمان، فاستحقوا الخذلان في الدنيا وغضب الله ونقمته في الآخرة.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.