هل نحن في حاجة إلى الورع في عصرنا ؟
جمال سعد حسن ماضي
تمهل قبل أن تجيب !
هل الورع اعتزال الناس ، أوالانطوائية ، أوالابتعاد عن الدنيا ؟
أم ماذا ؟
تعال نصحب الإمام ابن تيمية , وهى يعرّف الورع ، يقول :
( الورع عما تُخاف عاقبته , وهو ما يُعلم تحريمه ، وما يُشَك في تحريمه ، وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله ، في الأشياء المشكوك فيها ، أو فعل ما يُشك في وجوبه ) .
انتهى كلام ابن تيمية ولعلك تقول :
ما ارتباط هذا التعريف بعصرنا ، أريد خطاباً لهذا العصر , وليس عصر ابن تيمية ، ومن أجل ذلك قلت لك تمهل ، فالعلم ثابت ، والذي تتغير تطبيقات العلم في الواقع , وعلى سلوكات الحياة المتغيرة .
في هذا التعريف خمسة أمور :
( الورع ) هو ( الترك ) , ولكن ترك ماذا ؟
1- عما تُخاف عاقبته :
إذن المقبل على أى عمل ، لابد أن يتحمل نتيجته ، ويعلم ما هى الأمور التى تترتب على فعله ، سواء كانت آثاراً أو نتائج , أو أهدافاً تتحقق ، أو مصائب ، أو كوارث ، سلباً أو إيجابياً ، والخوف هنا بمعناه الإيجابى ، الانفعال الذي يدفعك إلى التعامل الإيجابى مع النتائج ، فلو أن هناك مصيبة من وراء الفعل ، هل تفعلها أم تخاف من فعلها ، فتتوقف أو تبحث عن البديل ؟
2- وهو ما يُعلم تحريمه :
الحلال بيْن وواضح وكذلك الحرام ، والورع لا يكون إلا على علم ، ومعرفة ، وبصيرة , والعلم بتحريم الشئ ، يجعلك تتورع عن فعله ، أو أن تقترب منه .
3- ومما يُشَك في تحريمه :
وهذا قريب من الممنوع ، فهو في موضع شك : أفعل أو لا أفعل ؟ هناك اختلاف حول هذه القضية ؟ ماذا أفعل ؟ الإجابة تقول : تورع ، ابتعد عن الشك باليقين ، ولا تدخل في دائرة الشبهة .
4- وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله :
الورع هنا عن شئ إن تركته لا يؤدى إلى مفسدة ، لو أنك وازنت بينها وبين فعله ، لا تجد من تركه غضاضة ولا تتأثر بتركه ، أو تتأثر حياتك ، كذلك إن فعلته لا يزيد جديداً ، ولذلك فتركه لا يحدث ضرراً أكبر من أن تفعله !
5- في الأشياء المشكوك فيها أو بفعل ما يُشَك في وجوبه :
حتى لا يكون الورع حبراً على ورق ، وإنما هو السلوك العملى في الحياة ، المحدد وليس على الإطلاق ، فلابد أن يكون في الأشياء التى تشك فيها : بين الأمر والنهى ، أو الفعل والترك ، أو بين الحل والحرمة ، أو في فعل مشكوك في وجوبه ، لأن ببساطة الورع عن الأمر الواجب جناية وجريمة .
فهل يصح أن نقول : فلان تورع عن الصلاة !! أو ما شابه ذلك .
لقد فهم الإمام ابن القيم : كلام أستاذه ، فأجمل معنى الورع في سطر واحد ، أراه مفهوماً في عصرنا تماماً ، يفهمه السياسى والتربوى والإجتماعى والقيادى ، والغنى والفقير ، والصغير والكبير ، والشاب والشيخ ، والرجل والمرأة ، فيقول : ( ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة )
ولا تعليق ......................................................
رحلة قصيرة حول الورع
* في كتاب الله
هل الورع مذكور في كتاب الله ، أم إنه سلوك يفهم من كتاب الله ؟
( أ ) يقول تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إنى بما تعملون عليم } المؤمنون / 5 .
هذه الآية استدل بها النبى صلى الله عليه وسلم في حديثه ، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
[ أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إنى بما تعملون عليم }] المؤمنون / 5 .
وقال تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } البقرة / 172 ، ثم ذكر الرجل يـطيل السـفر أشغـث أغـبر يمد يديه إلى السـماء : [ يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لذلك ] رواه مسلم .
وواضح من الآية الكريمة أن أكل الطيبات وهو الحلال سبب للعمل الصالح ، وطريق لقبول الله لهذا العمل .
وهذا أمر يتساوى فيه حال الأنبياء مع الناس ، جميعاً ، وذلك لأهميته في الحياة .
(ب) يقول تعالى : { وثيابك فطهر } المدثر / 4 .
قال المفسرون : أى نفسك فطهر من الذنب ، فكنى عن النفس بالثوب ، ولذلك يقولون : هذا ارتدى ثوب الإخـلاص ، أو ثـوب الصلاح ، أو ثـوب التقوى ، كذلك نـقول ثـوب الورع ، فـكما قـال أحد العـارفـين :
عـملك ثوب لك .
يقول الشاعر :
وإنى بحمد الله لا ثوب غادر لبستُ ولامن غدرة أتقنع
من خلال الآيات نرى بوضوح أن الورع في القرآن الكريم , جاء على هذا المعنى : ( تطهير القلب من الدنس ، كما يطهر الماء دنس الثوب ) .
* في حياة النبى صلى الله عليه وسلم :
لقد جمع النبى صلى الله عليه وسلم معنى الورع في عبارة واحدة , فقال : [ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ] صحيح الجامع الصغير .
وفي حياتنا ، هذه العبارة مع قصرها ، تحوى كل معانى الحياة ، فهى ترك ما لا يعنيك من :
الكلام والنظر والاستماع والبطش والفكر والمشى وسائر الحركات الإنسانية الظاهرة والباطنة .
ومعنى ذلك في الواقع :
تركك لكل شبهة = ورع
تركك لما لا يعنيك = ورع
تركك الأشياء الزائدة = ورع
خروجك من كل شبهة = ورع
وقوفك عند حد العلم = ورع
تورعك عن كل ما سوى الله = ورع
مراعاتك لله في الخلوة = ورع
أخذ الحلال الصرف = ورع
لا تتحرك إلا إلى الله = ورع
لا يدخل في قلبك سواه = ورع
* وهذه جولة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :
1- روى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
[ يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعيد الناس ] رواه ابن ماجه وصححه الألبانى .
تعلمها أبو هريرة ، فقال :
( جلساء الله غداً أهل الورع والزهد ) .
2- عن حذيفة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
[ فضل العلم خير من فضل العبادة ، وخير دينكم الور ع ] رواه الطبرانى .
تعلمها الصحابة فقالوا :
( ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط ) ، لأن خلط العمل الصالح بالسئ يقطع الصلة بالله .
3- عن النعمان بي البشير رضى الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
[ الحلال بيْن والحرام بيْن ، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ] متفق عليه .
تعلمها الصالحون :
قيل : رجع ابن المبارك من العراق إلى الشام بسبب قلم استعاره ، فلم يعده إلى صاحبه .
4- عن عطيه السعدى قول النبى صلى الله عليه وسلم :
[ لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس ] حسن رواه الترمذي .
تعلمها الصحابة رضوان الله عليهم فقالوا :
كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام .
5- عن أبى أمامة رضى الله عنه قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الإثم ؟ قال :
[ إذا حاك في نفسك شئ فدعه ] رواه أحمد .
6- وعن أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فقال :
[ لولا أنى أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ] متفق علبه .
7- عن الحسن بن على رضى الله عنهما قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم :
[ دع ما لا يريبك إلى ما لا يريبك ] رواه الترمذى .
8- عن النواس بن سمعان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
[ البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك , وكرهت أن يطلع عليه الناس ] رواه مسلم .
9- روى عن أنس رضى الله عنه , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
[ ثلاث من كن فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان : خلق يعيش به في الناس ، وورع يحجزه عن محارم الله ، وحلم يرد به جهل الجاهل ] رواه البزار .
10- عن جابر رضى الله عنه قول النبى صلى الله عليه وسلم :
[ أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة في طعمة ] .