وإذا الغيبة بُرِّرَت

سحر المصري

طرابلس - لبنان

[email protected]

هل أدلّكم على مَن يدكّ عروش الأخوّة دكاً ويورِد نفسه المهالك وهو يحسب أنه يحسِن صنعا؟! إنّه ذاك الذي لا تراه إلا وهو يستغيب إخوانه ويحرِّف الكلِم عن مواضعه في حديثه عنهم ويؤذيهم ثم ينسى وكأن شيئاً لم يكن!

تدخل الاجتماع وتترأسه وتناقش مع صويحباتها النقاط المُدرَجة على جدول الأعمال المكتظ.. وتأتي نقطة مهمة لتثيرها مع مَن جلسن حولها ليقمن "بإصلاح" المجتمع.. إنها فلانة التي لا تلتزم بقانون الجمعية وتقوم بما يحلو لها ووو.. وتبدأ كل واحدة منهنّ بسرد لائحة من الهفوات والسقطات "والمصائب" التي قامت بها هذه الأخت ويبقين على هذا المنوال حتى لا تكاد تجد لها حسنة واحدة بعد هذا السيل الممطر من النقد! فتنظر إحدى المجتمِعات معهنّ لأول مرة وهي مشدوهة مما تجد: "أليست هذه الأخت صديقة لكنّ منذ سنوات عدّة؟ كيف تستغبنها؟!" فيكون الجواب جاهزاً: إنّ هذا لا شيء فيه لأنه لمصلحة الدعوة!! فتعود لتحملق بهنّ وتقول: إذاً سيكون دوري بعد بضع سنوات.. وتعقد في داخلها العزم على تركهنّ منذ تلك اللحظة!

يحضر جلسات في العمل وكلما طُرِحَت فكرة أبدى رأيه الهزيل فيها ولا يُلزِمه أحد بالسكوت لأنه محسوب على أكابرها.. حتى إذا ما أتوا على ذكر فلان أو علاّن أمعن في استغابتهم أمام مسؤوليهم! فيُسيء من حيث شعر أو لم يشعر.. ويعتقد أن رأيه هو الصائب وأن الله جل وعلا قد كشف عن بصيرته وأسقط له الحجب فتفرّد بالحكمة والذكاء والانشغال بهموم سادته ومصالحهم! وتراه يلهث وراء كلّ استغابةٍ خشية أن تفوته فيهلك من الندم!!

جَمَعَهم مكتبٌ واحد بين جنباته.. ولا تكاد تجد إلا التشهير والاستغابة بمن حولهم حتى إذا ما جفّ المورد ولكي لا تتعطّل مواهبهم بدأ أحدهم بصاحبه أمام غيره حين يخرج من الغرفة وقد علّقوا لوحة نُقِش عليها "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"!

مشاهد واقعيّة نراها كل يوم وغيرها الكثير للأسف بين المسلمين وأحياناً الملتزمين.. ويخرجون من جلسات الاستغابة تلك بضمير مرتاح ونفس راضية ولو رأى الحبيب عليه الصلاة والسلام ما فعلوا لغضب أشد الغضب ولأمرهم بالتخلُّل! فحتى متى يبقى هؤلاء يعتقدون أنّه يحق لهم أن يستغيبوا ويُعَرّوا أقرانهم دون قيدٍ أو شرطٍ بل ويبرِّرون ما يفعلون!

ولو أتيت بنيانهم الخُلُقي لوجدته خاوياً على عروشه من الفضائل وأسس المعاملة الحسنة.. ولو قارنتهم بمن يستغيبون لوجدت ضحاياهم أفضل مليون مرة منهم ديناً وخُلُقاً وإنتاجاً وعلما.. ولكنهم قومٌ لا يفقهون! يصدق فيهم قول الحبيب عليه الصلاة والسلام "يُبصر أحدكم القذى فى عين أخيه وينسى الجذع فى عينه"!

وقد يغضّ المرء الطرف عن هذه الكبيرة –أي الغيبة- لو كان الكلام صحيحاً ومعتمِداً على دلائل وثوابت.. أما أن يكون مجرد ظنون وتكهنات وآراء شخصيّة فهذا لعمري منتهى الإجحاف والظلم الذي قد يصل حد البهتان والعياذ بالله جل وعلا..

لقد توارى هؤلاء خلف حجب الإدّعاء والكِبِر والحقد.. فهم يقرأون القرآن ولا يتّعِظون ولا يصحون من غفلتهم التي أمعنوا في الارتكاس فيها مستعينين بقومٍ آخرين يضاهئونهم وضاعة! وكأنّهم ارتضوا لأنفسهم بأظفارٍ من نحاسٍ يخمشون وجوههم وصدورهم يوم لا ينفع سيد ولا رئيس ولا قائد ولا هوىً متّبع!!

كيف لهم أن لا ترتجف فرائصهم من قول الله جل وعلا "وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ".. ألم يسمعوا أحاديث الحبيب التي تحذِّر من الغيبة وأثرها ومآل قائلها؟! ألم يمر عليهم هذا السيل العرِم من تحذيرات الحبيب عليه الصلاة والسلام في الغيبة والبهتان والإفك؟!

فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أصحابه: "هل تدرون ما الغيبة؟" قالوا :الله ورسوله أعلم.. فقال:"ذكرك أخاك بما يكره"  قيل:"أرأيت إن كان في أخى ما أقول؟ قال:"إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهَّته".

وقال أن أفضل المسلمين: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".. وأن أفضل الأعمال بعد الصلاة على وقتها: "أن يسلم الناسُ من لسانك".. وأن النجاة تكمن في: "املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".. وحذّر من الإساءة إلى مسلم -أيّ مسلم- فكيف بالجار أو الصاحب بالجنب أو الزميل في العمل: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله"!

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنّة رجل لا يأمن جارُه بوائقه".. فتخيل يا حماك الله أنك تساكن رجلاً فَقَدَ السيطرة على لسانه في مبنى واحد ولا تأمن على نفسك وأهلك منه.. أو أنك تعمل في مؤسسة واحدة مع رجل لا يأتي على ذكرك إلا بالعاطل وكأنه أفضل منك.. أو أنك تشارك رجلاً مريض القلب ملوَّث النفس في عمل خيري تطوعي.. ماذا أنت فاعل؟! وهل يستقيم العمل ويزدهر؟! وإن كنتَ مضطراً على التعامل مع أحد هؤلاء أفلن تحاول تفادي التواصل معه قدر الإمكان بل وأكثر من ذلك فقد تُعرِض حتى عن التسليم عليه إن تواجهتما!!

أُذْكُر يا هذا أنّ لديك رقيب عتيد يكتب ما تقول فلا تلقي بنفسك إلى التهلكة فيُعرِض عنك ربك جل وعلا في الدنيا قبل الآخرة لارتكابك هذه الكبيرة إن لم تتب منها.. والعتب على من سمعك أكبر من العتب عليك فلو أوقفك عند حدّك لانتَهَيت ولكنها النفوس التي ضعفت والقلوب التي تصحّرت والآذان التي صُمَّت إلا عن الباطل!

لقد قالت أمُّنا عائشة في صفية رضي الله عنهما كلمة تصفها بما فيها أصلاً وهي القصر في القامة فما كان على الحبيب عليه الصلاة والسلام إلا أن وجّهها وقال: "لقد قلتِ كلمة لو مُزِجَت بماء البحر لمزجته". فلينظر من يظنّون أنهم فاقوا الناس علماً وفكراً ودرجة كم من بحار مزجوا وكم من تجريحٍ وزّعوا وكم من قلوبٍ طعنوا!

كل هذا لا لسبب إلا لكِبْرٍ أو حقدٍ أو حسدٍ أو احتقار.. وقد تكون لشهوةِ هدم أقرانهم وتصغيرهم في عيون الآخرين ليُبقُوا على التميّز رهيناً لهم فيكبروا بتصغير الآخرين.. وقد خسئوا! فهم إن ارتقوا عند أسيادهم فلن يرتقوا عند ربّ أسيادهم الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور..

ولا تجعل وسوسة شيطانك الأكبر تغريك أنّك على حق وأنّ استغابتك مبرَّرة.. وتفَكَّر هل كانت الاستغابة لعرض مظلمة عند من يستطيع إعطاءك حقك؟ أو كانت لفتوى؟ أو كانت لمشورة شراء؟ أو لإزالة منكر؟ أو لتحذير من شر؟ أصدِق نفسك!

قال الفضل بن عياض: "أشد الورع في اللسان" فحريٌّ أن يكف المسلم عن الغيبة ويتّقِ الله ربه ويستحيي منه جل وعلا.. ويحفظ نفسه من عذاب القبر والنار ومن الخزي قبل أن ينفضّ الناس عنه..

باب التوبة لمّا يزل مفتوحاً.. فتُب يا هذا إلى الله جل وعلا وحافِظ على حسناتك لأنك أحوج ما تكون إليها.. وانشغِل بسيئاتك وإصلاح نفسك وعوِّد لسانك على طيب الكلام واستغفِر لمن أسأت إليهم.. وإن مررتَ بكلبٍ ميتٍ فليلفتك كما سيدنا عيسى عليه السلام بياض أسنانه عن نتن ريحه! وتذكر أنّ مَن تستغيبه قد يكون عند ربه مرضيّاً فيأذنك ربك جل وعلا بحربٍ إكراماً له.. ترفَّع فما أنتَ بمُخَلّدٍ في دنيا الفناء!