الإحساس بالعظمة
درس في سيرة القدوة
رضوان سلمان حمدان
تحس أنك أمام شخصية مبهرة متميزة لا يمكن أن تكون في إنسان عادي مهما أوتي من كل شيء سببا ، إنه إنسان رباه الله على عينه واصطفاه { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)}الحج هذا الإنسان لا يمكن إلا أن يكون نبيا رسولا { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ... (110)}الكهف
كما كنا نستمع إلى الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله تعالى وهو يصدح :
المصلحون أصابع نسجت يدا هي أنت بل أنت اليد البيضاء .
في كل صفحة من صفحات حياته (صلوات ربي وسلامه عليه ) المتنوعة تقف على المعلِم المربي القدوة ذي الجمال والبهاء والتألق
شقَّ النبي عليه الصلاة والسلام طريقه في الدعوة إلى الله سرا وجهرا وهو ينحت في صخر الجاهلية القرشية ولكنه كان يؤثر في هذا الصخر، وتحس قريش بهذا الأثر، فتواجهه بكل ما تستطيع من وسائل الصدّ عن سبيل الله، محاولةً وقف نكث النسيج الجاهلي الوثني والاجتماعي في المتهرِّئ أصلا،
ومن هذه الوسائل (الإغراء) وأنا أرى أن هذا أشدُّ فتكا وأثرا في النفوس الضعيفة الخائرة، فهو أسلوب كما أنه قديم فهو حديث ومعاصر يتساقط به من يقوم بالدعوة ومدَّعوا الالتزام على حرف، فما أن يلوَّح له بعرَض من الدنيا حتى يسقط كالفراش في النار تظنه نورا لغبائها وجهلها وما أن يحترف الساقط حتى يلقى به في سلة المهملات غير سوف عليه .
وبعد أن يرمى به مهمَلا تراه يحاول الوقوف ثانية ولكن هيهات هيهات.
فلنقف على بعض من هذه العروض والإغراءات والمصائد التي قدمتها قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبالطبع لا يُلجأ إلى هذه الوسيلة حتى يفقد الترهيب دوره وينقطع الأمل منه .
وهذا يدلل على خطورة الترغيب والإغراء
ثم تجد التأويلات والفتاوى المُعلَّبة باسم الاعتدال والوسطية والإنسانية إلخ...
قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا ـ وهو في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد، قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة،حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَةِ في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول صلى الله عليه وسلم: (قل يا أبا الوليد أسمع).
قال: يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ـ أو كما قال له ـ حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: (أقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال: نعم، قال: (فاسمع منى)، قال:أفعل، فقال: { بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:1: 5]. ثم مضى رسول الله فيها، يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما، يسمع منه، ثم انتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك).
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
وكأن رجاء قريش لم ينقطع بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة على اقتراحاته؛ لأنه لم يكن صريحًا في الرفض أو القبول، بل تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم آيات لم يفهمها عتبة، ورجع من حيث جاء، فتشاور رؤساء قريش فيما بينهم وفكروا في كل جوانب القضية، ودرسوا كل المواقف بروية وتريث، ثم اجتمعوا يومًا عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدعونه، فجاء مسرعًا يرجو خيرًا، فلما جلس إليهم قالوا له مثل ما قال عتبة، وعرضوا عليه نفس المطالب التي عرضها عتبة. وكأنهم ظنوا أنه لم يثق بجدية هذا العرض حين عرض عتبة وحده، فإذا عرضوا هم أجمعون يثق ويقبل، ولكن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بي ما تَقُولُون، ما جِئْتُكُم بما جِئْتُكُم بِه أَطْلُب أَمْوَالكُم ولا الشَّرف فيكم، ولا المُلْكَ عليكم، ولكنّ الله بَعَثَنِى إلَيْكُم رَسُولًا، وَ أَنْزَلَ علىَّ كِتابًا، وأَمَرَنِى أنْ أَكُونَ لَكُم بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُم رِسَالاتِ ربي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فإِنْ تَقْبَلُوا مِنّى ما جِئْتُكُم بِه فَهُوَ حَظُّكُم في الدُنيا والآخرة، وإنْ تَرُدُّوا علىّ أَصْبِر لأمْرِ الله ِ حتّى يَحْكُم الله ُ بَيْنِى وَ بَيْـنَكُم). أو كما قال.
1- كانوا دائمي التفكير في هذه الدعوة الجديدة والتخطيط والمكر لإجهاضها ومحاصرتها كما قال المولى:
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)}ص
2- صبر الباطل يجب أن يقابله ويغالبه صبر الحق بالحجة والبرهان {.. قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}البقرة فالباطل في مثل هذه الظروف يملك من الأسباب الدنيوية ما لا يملكه أهل الحق .... "وإنْ تَرُدُّوا علىّ أَصْبِر لأمْرِ الله ِ حتّى يَحْكُم الله ُ بَيْنِى وَ بَيْـنَكُم"
3- يتهرب الباطل من المناقشة والمناظرة لأنه يعلم أنه على الباطل {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)}الإسراء {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}النمل
فهم في واقع الأمر أضعف من أن يواجهوا الحق بالحجة والبرهان فيلجؤون إلى وسائلهم المتوارثة...{أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)}الذاريات
فقد رأينا ما فعل قوم إبراهيم به حين ألقمهم الحجة {..ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ.. (65)}الأنبياء { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)}الأنبياء وكذلك فرعون بموسى، ولا تزال مدرسة فرعون تفرِّ تلاميذ أغبياء مهَرة في الفرعونية...
نلحظ في لقطة السير المتقدمة ما يلي:
1- الثقة والطمأنينة من رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه .
2- الهدوء وترك الانفعال والعصبية .
3- أن يقول الداعية ما عنده بصراحة ووضوح وجرأة بعيداً عن المداهنة واللف والدوران. "فاصنعوا ما بدا لكم".
4- الاستماع لما يعرض الخصم بكل اهتمام ، وعدم مقاطعة الآخر بل أدعه يكمل كل ما عنده. (أقد فرغت يا أبا الوليد؟).
5- الأعداء يعملون ويفكرون بصورة جماعية أي بمفهوم اليوم تفكير وعمل "مؤسسي" .. وما يستقر عليه رأيهم الجمعي ينفذونه. "فتشاور رؤساء قريش فيما بينهم وفكروا في كل جوانب القضية، ودرسوا كل المواقف بروية وتريث، ثم اجتمعوا يومًا عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس"
{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}60الأعراف
{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}66الأعراف
{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}88الأعراف
{ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)}الأعراف
{ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)}النمل
والآيات في ذلك كثيرة..
أدعو الدعاة إلى الإخلاص والمثلبرة ومواجهة التخطيط بالتخطيط والسهر بالسهر والتنظيم بالتنظيم.. إن العمل المرتجل المبعثر لا يمكن أن يوصل إلى نتيجة إيجابية.. لا يقهر عدوا أو يحقق نصرا
7- الإيمان بحتمية النصر والتمكين بعد الابتلاء والتمحيص {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}العنكبوت
وما قصة أصحاب الأخدود عنا ببعيد.