قدوة القيادة في الإسلام 33
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الثالثة والثلاثون:
قدوته في الفروسيّة، وأخلاق الحرب
د. فوّاز القاسم / سوريا
لقد رأينا في فقرة سابقة ، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس القوة والردع العسكري ، عندما كان يحتاج الموقف إلى ذلك. فقد قطع نخيل اليهود ، وأتلف أعناب غطفان ، وهدم حصون الطائف، وأمر بقتل بعض النساء ، وتعذيب بعض الأسرى ، وأهدر دماء بعض المشركين ، وأمر بقتلهم حتى لو وُجدوا معلّقين بأستار الكعبة المشرّفة ، وقتل بعض أعدائه صبراً ، وقطع أيدي وأرجل البعض الآخر .!!!
كل ذلك فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب ، وللحرب أحكامها ، لا عن قسوة في القلب ، وتعطّش للدماء ، معاذ الله .!!!
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحمل بين جوانحه قلباً ، فيه من الرحمة والمروءة والنبل ، ما لو وُزّعت على أهل الأرض لوسعتهم ، مصداقاً لقوله تعالى :
(( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)).
ولكنه التوازن المطلوب في شخصيّة القائد العسكري المسلم ، فللرحمة أوقاتها ، وللحزم أوقاته كذلك ، والمسلم ليس بخبٍّ ، ولا الخبُّ يخدعُه ، (( ولا يُلْدَغُ مؤمنٌ من جُحر مرَّتين )) …
وإذا كانت مثل تلك المواقف الحازمة لها ما يسوّغها في مسيرة الدعوة الإسلامية ، ومسيرة الجهاد الإسلامي ، في ظروف معينة ، وحالات خاصة ، يقدرها القائد في ميادين المنازلة والجهاد .
فإن الأصل الثابت ، والمنهج العام للدعوة ، هو غير ذلك تماماً ،
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحمل من قيم الفروسية ، ومعاني الرجولة ، وأخلاق الحرب ، ما يصلح اليوم للتدريس في أرقى المعاهد والأكاديميات ، التي تعلّم اليوم قيم العسكرية وأخلاق الحرب في العالم ، إن كان ثمة قيم باقية .!
ولعل أهم ما لفت نظري من هذه الأخلاق :
1. نهي الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن قتل الضعفاء من الأطفال ، والنساء ، والأُجراء :
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا عقد لواءً في سبيل الله،
كثيراً ما يوصي أصحابه فيقول : (( أُغزوا في سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، لا تغلّوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليداً،
فهذا عهدُ الله ، وسيرةُ نبيّه فيكم )) . هشام 2 ( 632 )
وكان يغضب عندما يرى امرأة مقتولة في غزواته من دون سبب معقول ، فقد ذكر ابن اسحاق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد مرّ على امرأة مقتولة في طريقه إلى الطائف ، والناس متقصِّفون عليها ( متجمِّعون ) ، فقال : ما هذا .!؟
قالوا : امرأة قتلها خالد بن الوليد ؛ فقال لبعض من معه :
(( أدرك خالداً ، فقل له : إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليداً ، أو امرأة، أو عسيفاً ( أجيراً ). )) هشام 2 ( 457 )
2 . الجمع بين الأمهات ، وأبنائهنَّ في الأسر :
لقد بُعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ونظام الرقِّ نظاماً عالمياً ، تعمل به كل أمم الأرض في ذلك العهد .
ولئن كان الإسلام يومها ، غير قادر على إلغائه مرّة واحدة من الوجود بكشطة قلم ، فقد بذل كل ما يستطيع ، لتجفيف منابعه ، والتخفيف من وقعه ، والتقليل من آلامه.
قال ابن هشام : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، زيد بن حارثة نحو مدين ، ومعه مجموعة من أصحابه ، فأصاب سبياً من أهل ميناء ، وهي السواحل ، وفيها جُمَّاع الناس ، فبِيعوا ، ففُرِّق بينهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون ، فقال : ما لهم !؟
فقيل : يا رسول الله ، فُرِّق بينهم . فقال: (( لا تبيعوهم إلا جميعاً )).
قال ابن هشام : أراد الأمهات ، والأولاد . هشام 2 ( 635 )
3. رفض بيع أجساد القتلى المشركين ، في أرض المعركة :
من فروسيّته العالية ، وأخلاقه الحربية الراقية ، أنه كان يرفض بيع جثث المشركين الذين يسقطون في أرض المعركة .
قال ابن اسحاق يحدث عن قتلى المشركين يوم الخندق :
ومن الذين قُتلوا يوم الخندق ، من بني مخزوم بن يقظة ، نوفل بن عبد الله بن المُغيرة ، وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده ، وكان قد اقتحم الخندق فتورّط فيه ، فقُتل ، فغلب المسلمون على جسده . قال ابن هشام : أعطَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده ، عشرة آلاف درهم ، فيما بلغني عن الزهري .!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا حاجة لنا بجسده ، ولا بثمنه )) فخلى بينهم وبينه . هشام 2 ( 253 )
4. المنّ على الأسرى والسبايا وإطلاقهم بدون مقابل :
لقد كان من أخلاقه الحربية العالية ، ومن فروسيّته النبيلة ، أن يمنّ على الأسرى والسبايا فيطلق سراحهم بدون مقابل ، وهذا في سيرته الشريفة أكثر من أن يحصى ، ولكن ما ذكرناه للتو عن سبايا هوازن،
الذين أطلق منهم حوالي ستة آلاف من الذراري والنساء ، كان خير مثل على ما نقول ، ولقد رأينا كيف دفع هذا العمل النبيل ، أهل ثقيف فأسلموا عن بكرة أبيهم . هشام 2 ( 488 )
5. التواضع لله ، وعدم البطر بعد النصر :
مع كل الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من بطولات عظيمة ، وإنجازات هائلة ، غيرت خارطة العالم ، وعدَّلت مسار التاريخ ، إلا أنه كان متواضعاً لله ، عارفاً به ، قلما ينسب من ذلك شيئاً لذاته ، وهيهات أن تحدِّثه نفسه بشيء من العجب والغرور .!
قال ابن اسحق يحدث عن سيرته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح :
حدثني عبد الله بن أبي بكر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما انتهى إلى ذي طُوى ، وقف على راحلته معتجراً بشُقَّة بُرْدٍ حبرة حمراء ، وإنه ليضع رأسه تواضعاً لله ، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى إن عُثْنُونه ليكاد يمسَُ واسطة الرحل .!
هشام 2 (405)
6. لا يغير على أعدائه ليلاً ، قبل أن يتأكد من عدم إسلامهم :
لقد كان من أخلاقه ونبله صلى الله عليه وسلم ، أنه لا يطرق أعداءه بليل ، قبل أن يُصبح ، ويتأكد من شركهم ، وعدم إسلامهم .
قال ابن اسحاق : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا غزا قوماً، لم يُغِر عليهم حتى يصبح ، فإن سمع أذاناً أمسك ، وإن لم يسمع أذاناً أغار . هشام 2 ( 329)
7. لا يمنع الميرة والطعام حتى عن أعدائه المحاربين :
فلقد أورد ابن هشام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرجت خيلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت رجلاً من بني حنيفة لا يدرون من هو ، حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتدرون من أخذتم !؟ هذا ثُمامة بن أسَّال الحنفي ، أحسنوا إساره . ورجع إلى أهله فقال اجمعوا كل ما عندكم من طعام ، فابعثوا به إليه ، وأمر بلِقْحته أن يُغدى عليه بها ويُراح .
وجعل يأتيه فيقول أسلم يا ثُمامة ، فيقول : إيها ، يا محمد ، إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن ترد الفداء فسل ما شئت ، فمكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أطلقوه ، فلما أطلقوه ، خرج حتى أتى البقيع ، فتطهَّر فأحسن طهوره ، ثم أقبل فبايع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أمسى جاؤوه بما كانوا يأتونه من الطعام ، فلم ينل منه إلا قليلاً ، فعجب المسلمون من ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتعجبون من رجل أكل أول النهار في معي كافر ، وأكل آخره في معي مسلم .!؟
إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمسلم يأكل في معي واحد .
والتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
والله لقد كان وجهك أبغض الوجوه إليّ ، ولقد أصبح وهو أحبها إليّ.
ثم خرج معتمراً ، فلما قدم مكة ، قالوا : أصبوت يا ثُمام !؟
فقال : لا ، ولكني اتبعت خير الدين ، دين محمد ، ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم خرج إلى اليمامة ، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً ، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك تأمر بصلة الأرحام ، وإنك قد قطعت أرحامنا ، فقد قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع .!
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن يخلي بينهم وبين ميرتهم .!
ألا فما أعظم هذه الأخلاق ، وما أروع هذه السيرة .!؟
وما أجدر الدعاة والقادة اليوم ، الذين نذروا أنفسهم لإحياء مجد الإسلام ، واستئناف المسيرة الإسلامية في الأرض ، أن يقتدوا بها ، ويسيروا على نهجها.